#عبد الحسين شعبان#
في الحديث عن كيانية العلاقة العربية - الكردية لعله يمكن تحديد أربع قضايا أساسية: الأولى تتعلق بالدولة والعلاقة التاريخية والمعاصرة بين العرب والكرد، والثانية تشتبك بمسألة الحقوق وسقفها وتدرّجها قياساً بالسياق التاريخي والتطور السياسي والمجتمعي، والثالثة تتداخل مع الفضاء الموضوعي الاقليمي والدولي، والرابعة ترتبط بالمواطن الفرد وحرياته وحقوقه ودوره في التنظيم المهني والنقابي والاجتماعي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه المجتمع المدني. الموضوع إذاً يتعلق بإطار قانوني وحقوقي وثقافي وانساني، وبكل ما يتفاعل مع المشترك الانساني العربي- الكردي وتطلعات الشعبين.
مناسبة الحديث عن هذا الموضوع ندوة فكرية نظمتها رابطة كاوة الثقافية في اربيل ركّزت على المشترك الانساني لاسيما أن وجود شعب له خصائصه وله حقه في تقرير كيانيته هو ما يصبو اليه العرب والكرد. وإذا كان التطلع الى الحرية كقيمة عليا والى حق تقرير المصير للشعوب، فالأمر يتطلب انضاج المستلزمات للتمكّن من اداء هذا الحق بصورة سليمة.
ومثل هذا الحق الصميمي – الكياني – الوجودي، انما هو حق أصيل وقانوني وانساني وواقعي في الوقت نفسه، ولا بد من أخذه في سياقه التاريخي وبالارتباط بالمصالح المشتركة والأهداف العليا، رغم محاولات انكاره أو التجاوز عليه، لكنه يبقى حقاً غير قابل للتنازل، أي حقاً ثابتاً، باعتباره أحد مبادئ القانون الدولي المعاصر والانساني وكما نطلق عليه باللاتينية Jus Cogens (أي واجب الاداء).الشعب الكردي المجزأ مثل شقيقه الشعب العربي، يتطلع الى كيانية موحدة إسوة بغيره من الشعوب والأمم، لاسيما في ظل التطورات الدولية والكتل الاقليمية- الاقتصادية والسياسية الكبرى في اوروبا وغيرها، ولا يمكن بأي شكل من الاشكال قبول الواقع الاليم الذي ينتقص من حق عشرات الملايين من الناس في كيانية قانونية لإطار قومي مستقل، يعبر عن تطلعات انسانية مشروعة، وفقاً لرغبات عادلة في الوجود والتطور.
إن الموقف من حق تقرير المصير باعتباره حقاً جماعياً يشكل مضمون ومحتوى أي توّجه حقيقي لتأكيد ما هو ثابت واستراتيجي وتقديمه على ما هو طارئ وظرفي، الأمر الذي يقتضي جَسْر الفجوة لتطويق الخلافات والسعي لإخضاع الاشكاليات العالقة أو التي قد تنشأ في المستقبل للمشترك الانساني، وليس العكس بإخضاع ما هو استراتيجي لما هو عابر أو لحظي أو تكتيكي! أما كيف سيتجلّى حق تقرير المصير فهذا شأن آخر لا سيما ان هناك اشكالاً مختلفة يمكن أن يتخذها في الظرف الملموس. فالاتحاد الاختياري سواء كان بصيغة اللامركزية أو حكماً ذاتياً أو فيديرالياً، يحتاج الى تفاهمات شاملة في ظروف سلمية وطبيعية وفي ظل خيارات حرة لممثلين منتخبين من الشعبين.
ولعل القاعدة التي لا بدّ من الاستناد اليها هي المنظومة الاشتراعية الكونية لحقوق الانسان، وهذه تشمل شكل الدولة ونوع نظامها السياسي ونطاق اختصاصاتها وصلاحياتها، وحقوق الجماعات والقوميات، ومن خلالها حقوق المواطن الفرد وحرياته، العامة والخاصة، بما له علاقة بحق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم وحق المشاركة السياسية في توّلي الوظائف العليا دون تمييز بسبب القومية أو السلالة أو الدين أو الجنس أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو أي سبب آخر. وهذه المسألة تشكل جوهر العلاقة بين التكوينات المختلفة في ظلّ التنوّع والتعددية والمشترك الانساني الأساس في تلاقي الحضارات وتلاقح الثقافات.
ولعل تحديد مسارات مثل هذا التوجه يقع في صلب مسؤولية النخب الفكرية والثقافية والسياسية، العربية والكردية، في الحاضر والمستقبل، تلك التي بحاجة الى حوار معرفي وثقافي وحضاري متواصل بعيداً عن المجاملات أو الاحتقانات السابقة والحالية، الظرفية والطارئة، إذ لا يمكن إرساء علاقة حميمة وصادقة دون تأمين خيارات حرّة ومستقلة ومفتوحة في إطار ما هو مشترك وانساني واستراتيجي بعيد المدى، كما لا يمكن تأمين ذلك وتوفير الاقتناعات المشتركة دون النقد والنقد الذاتي ودون مصارحة وشفافية ومساءلة، وبكل تأكيد فإن الأمر لن يكون بعيداً عن المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة للشعبين ولبقية شعوب المنطقة.
إن تأكيد حماية حقوق التكوينات المختلفة ومراعاة خياراتها الحرة والحرص على السلم المجتمعي والعلاقة الكيانية- التاريخية ومعالجة آثار سياسات الإقصاء والإلغاء وهضم الحقوق، تقتضي جعل ما هو موقت وظرفي رافداً يصب في ما هو ثابت واستراتيجي، الامر الذي يتطلب أيضاً تقليب الخيارات السلمية، البعيدة المدى والاستمرار في الحوار ووضع الهدف الاستراتيجي المشروع نصب العين دائماً لاختيار الوسائل الديموقراطية المناسبة، بحيث تكون التنازلات والتكتيكات من المرونة بمكان لتحقيق الهدف النبيل، وعدم تغليب الصفقات السياسية والمصالح الانانية الضيقة عليه.
إن المساواة الكاملة والمواطنة التامة اللاتمييزية لأي سبب كان، هي هدف يتصدّر واجهة الحق في تقرير المصير، وإن أية متغيّرات يمكن توظيفها لمصلحة الهدف الأعلى، بتوفير حاضنة لسياقات تختبر امكان الوصول الى الهدف بالوسائل المشروعة والمشتركة، فالخيار الديموقراطي وتلبية الحقوق المشروعة، هو المشترك الذي يمكن أن تتعاقد عليه الفِرَق السياسية والفكرية اختياراً للاتحاد التاريخي الأخوي الطوعي، ذلك أن التوصل الى صيغة عقد سياسي- اجتماعي مستقبلي، يكون سداه ولحمته، الاساس القانوني- الدستوري، ضامن للمشترك الانساني.
أما الصفقات السياسية الظرفية- الآنية، فهي عرضة للإنقلاب عليها أو التنصّل منها عند أي مفترق والتجربة التاريخية أصدق برهان، في حين أن الضمانات الحقيقية تكون في بناء جسور الثقة المتبادلة، الأمر الذي يحتاج الى أوضاع سلمية وظروف طبيعية بعيداً عن التداخلات الخارجية الاقليمية والاحتلالية الدولية التي ليست في مصلحة العرب والكرد، فالضمانات الحقيقية تحتاج الى استقلال ناجز وسيادة وطنية غير مجروحة أو معوّمة.
ان محاولة اضعاف ما هو مشترك لاسيما عزل الكرد عن المحيط العربي وابراز ما هو خلافي وإشكالي، وفي الوقت نفسه عزل العرب عن المحيط الكردي لاسيما عرب العراق، سيشجع النزعة الانعزالية الانغلاقية وضيق الافق من جهة ونزعة الاستعلاء والاستئثار والتسلط من جهة أخرى. ولعل هذا هو أحد الأسباب الاساسية في استمرار الفجوة واتساع الهوة بين الطرفين.
نعم ثمة ما يزول!! ولكن: ثمة ما يبقى، والذي يبقى هو الانسان وحقوقه فهو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الاغريقي بروتوغوراس، أو كما كان شيخ الاشتراكيين أو جدهم الأكبر ماركس يردد: الانسان أغلى رأس مال![1]