نادية سعد الدين
كاتبة وباحثة في العلوم السياسية -الاردن
يُعلق الأكراد آمالاً عريضة على مرحلة ما بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “#داعش#”، نظير مشاركتهم بشراسة في بلوغها عقب دحره “جغرافيا” من آخر معاقله الإرهابيّة في بلدة الباغوز السوريّة، سبيلاً مُمهّدا لتثبيت دعائم حكمهم الذاتيّ، ضمن المنطقة الشمالية – الشرقية من سورية، ما لم يصبه الوهن حدّ الانتكاسة المفتوحة الاحتمالات أمام تحديات مضادّة تنتظرهم في الفترة القادمة، بما قد يبعدهم عن “حلم” إقامة دولتهم المستقلة المنشودة.
وإذا كان مسعى أكراد سورية “لنمذَجة” تجربة إقليم كردستان العراق، خلا محاولته الفاشلة للانفصال عن الكيان “الأم” وتقلص مساحته الجغرافية، تماشيا مع تطلع أكراد تركيا لمحاكاة نظرائهم عبر الفضاءات المجاورة، يجد تأصيله القويّ في أوراق ضغط معتبرة مدعومة بعوامل خارجية وبدافع الاستماتة لمُماهاة نفاذ “الحلم”، فإن ثمة تحديات محلية وإقليمية ودولية متداخلة قد تبدّد ركائز الإدارة الذاتيّة الكرديّة حدّ التهميش، مما ينذر بفتح جبهة قتال جديدة داخل المشهد السوريّ المعقّد.
وأمام ضيق الخيارات المتاحة أمام الأكراد؛ فإن مصيرهم، كما مستقبل إدارتهم الذاتيّة، المرشح لشغل الملف النقاشيّ الأساسي خلال مرحلة ما بعد “داعش”، يبقى مفتوح الاحتمالات، فيما يضحى العنصر البشريّ الحلقة الأضعف في مداميك المعارك اللامتناهية ضمن الساحة السوريّة، بدون أن يلوح أفق قريب للحل، لإنهاء معاناة الشعب السوريّ.
الإدارة الذاتية الكردية في مرحلة ما بعد “داعش”
لم تخل مراسم احتفالية “النصر” التي أعلنت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، المتشكلة عام 2015، من خلالها، في 23 مارس 2019، عن استعادة بلدة الباغوز، آخر الجيوب الإرهابية “لداعش” في شرق نهر الفرات بمحافظة دير الزور السوريّة، من آمال حصد الأكراد لمكاسب “الفوز” نظير دورهم العتيد، بدعم أمريكي، في القضاء على التنظيم، عبر الاعتراف الرسمي السوري والدولي بكيانهم الوليد، الذي تم بفرض الأمر الواقع، تحت مسمى “الفيدرالية الديمقراطية لشمال سورية”، أو “روج آفا”، والممتدّ بين شمال وشمال شرق سورية ضمن حوالي 30% من مساحة البلاد، سبيلاً منتظرا لتثبيت دعائم حكمهم الذاتيّ المستقل.
بيد أن “بهجة” النصر لم تكن مكتملة عند الأكراد، حيث جاءت على وقع قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي أعلنه في 19 ديسمبر 2018، بالانسحاب من سورية، رغم استدراكه اللاحق بترك عدد محدود من القوات، حوالي 400 جندي، في البلاد حاليا، مثلما تزامنت مع تهديد تركيّ بشنّ هجوم عسكري ساحق ضدّ “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية (YPG)، المكون الرئيسي لقوات “قسد”، والتي تصنفها أنقرة “منظمة إرهابية”، كحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية، وفرعا سوريا لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، المحظور والمصنف تركيا وأمريكيا “كمنظمة إرهابية”، والذي يخوض حربا انفصالية ضدّ تركيا منذ العام 1984، مما يثير تساؤلات مقلقة حول مصير أكراد سورية، المقدّرين وفق إحصاءات غير رسميّة بنحو مليونيّ نسمة بنسبة زهاء 7% من إجمالي عدد السكان، وسط مؤشرات غير محمودة تشي بفتح ملفهم الخلافيّ الشائك في مرحلة ما بعد الانتصار على “داعش”.
فيما بات مستقبل الإدارة الذاتيّة الكردية على المحك؛ إزاء ثقل التحديات المضادّة لها مقارنة بأوراق ضغط، جغرافية واقتصادية وخارجية، وازنة ولكنها قابلة للتغيّر، والتي قد تصيب، أيضا، منظومتها الأمنية العسكرية التي أسّستها “قسد”، المدعومة ماليا وعسكريا ولوجستيا من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفها الرئيس في الحرب على “داعش” بسورية، مما مكنها من خوض معارك طاحنة ضده، كان أبرزها تحرير مدينتيّ عين العرب “كوباني”، عام 2015، ومنبج، عام 2016، من عناصره المتطرفة قبيل طرده من مدينة الرقة، عام 2017، والتي اتخذها التنظيم عاصمة لما سماها حينها “دولة الخلافة”، وعفرين، شمال سورية، التي خرجت من يدها عام 2018 أمام هجوم شنته تركيا وفصائل سورية معارضة، تمهيدا للقضاء عليه وضمّ الأراضي التي خرجت من يده إلى مناطق سيطرتها، فقد تنتظر هي الأخرى مصيرا غير محمود إما عبر المفاوضات مع النظام السوريّ، أو من خلال المواجهة العسكرية التركية التي تتوعد أنقرة بشنّها.
أكراد سورية وتحديات المصير
أدى قرار الرئيس ترامب بالانسحاب الوشيك من سورية، رغم أنه لم يُطبّق بشكل كامل بعد، إلى خلط الأوراق الشائكة، مثلما أوحى بتخلي واشنطن عن حليفها الكرديّ غداة انتهاء مهمته بهزيمة “داعش”، تمهيدا متوقعا لانحسار مرافد التغذية العسكرية والمالية الأمريكية عن “قسد”، مما وضع الأكراد بين كماشتيّ النظام السوريّ، الذي يلوح بالقوة العسكرية سبيلاً لاستعادة مناطق سيطرتهم عند فشل المصالحة الوطنيّة، والتوعّد التركيّ بشن هجوم عسكريّ ساحق ضدّ “الوحدات” الكرديّة، والتي تعتبرها أنقرة مصدر تهديد مباشر لأمنها القوميّ.
وإزاء التنامي المرشح لنفوذ روسيا وإيران، الداعمين الرئيسين للرئيس بشار الأسد، في سورية، عند نفاذ قرار ترامب، فإن أوراق القوة التي اعتقد الأكراد بامتلاكها عقب هزيمة “داعش” قد تتساقط من يدهم، مما قد ينذر بتآكل المكاسب الميدانية والسياسية التي حققوها، طيلة سنوات الأزمة، ويجعلهم أمام خيارات صعبة.
أولاً: مسار المفاوضات الشائك
أرخت التحديات المحدقة بالأكراد سبل انخراطهم في مسار المفاوضات المباشرة والبطيئة مع النظام السوريّ، منذ منتصف عام 2018، بوساطة روسيّة، للقطع على تهديدات تركيا، إلا أنها لم تفضِ إلى نتائج ملموسة حتى الآن، نظير تشبث دمشق باستعادة مناطق شرق الفرات، بما تضمه من ثروات نفطيّة ومائية غنيّة وأراضٍ زراعية خصبة، إما عبر المحادثات أو بالحسم العسكري، ورفضها مطلب الحكم الذاتي الكرديّ، لما يعنيه تقسيما لوحدة أراضي سورية، مقابل إعادة هيكلة قوات “قسد” لجهة الاندماج ضمن الجيش السوريّ، من دون الحفاظ على مواقعها الراهنة، وهو ما يشكل عمليا تفكيكا للإدارة الذاتية الكرديّة، بما يؤشر إلى مرحلة مفاوضات عسيرة ومتشعبة بفعل الأطراف المتداخلة فيها.
ويعي النظام السوري، الذي بات موقفه التفاوضيّ أكثر قوة من ذي قبل، محدودية الخيارات المتاحة أمام الأكراد، بعدما أفقدهم قرار الانسحاب الوشيك للقوات الأمريكية من سورية ورقة حيوية ضاغطة على دمشق وأضعف قدرتهم على مواجهة التهديدات التركية بمفردهم، وجردهم من الدعم السخيّ الذي كان يمدّهم بسبل الاستمرارية، ما لم يجدوا التعويض الكافي عند أطراف إقليمية بديلة مناهضة للدورين التركي والإيراني في سورية والمنطقة، بما لا ينفعهم توظيف الملف الاقتصادي في خانة رفع سقف مطالبهم تحسّبا من نتيجته المعاكسة إزاء رفض دمشق تقاسم ثروات المنطقة الخاضعة تحت سيطرتهم، أسوة بخطأ المراهنة على حساسية وضع النظام السوري المثقل بضائقة اقتصادية وإنهاك عسكريّ شديدين، وسط مؤشرات بانحسار دعم حليفه الإيراني الغارق في أتون أزمته الداخلية وتبعات العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليه، بينما لم تسمح حالة الانفتاح الديبلوماسي من جانب دول عربية تجاه دمشق لأن تؤتي ثمارها بعد، ذلك لأن طهران غير معنيّة بإحداث مساومة أو تقارب ما مع الأكراد لأجل صدّ تطلعات تركيا في شمال سورية، ومحاولتها “إحياء العثمانية الجديدة” في المنطقة، والتي تشكل مساسا خطيرا للنفوذ الإيراني، سواء في سورية أو العراق أو الإقليم ككل، نظرا لما يشكله الأكراد من خصم لدود بالنسبة إليها بعد جهودها، في عام 1946 أو ما بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، في “قصقصة” أجنحتهم وإحباط تطلعهم نحو الكيان المستقل، بالقوة العسكرية، وبالتالي فإنها قد لا تستطيع المجازفة بورقة تقليص الدعم للنظام السوري أو غضّ النظر عن حيثيات المسار التفاوضيّ، تحسّبا من مآلاتهما غير المحمودة.
ويستقيم ذلك مع الدور الروسيّ النافذ في الساحة السورية؛ والذي يدفع تجاه إعادة دمج المنطقة الشمالية – الشرقية السورية ضمن سيطرة الرئيس الأسد، لمنع تركيا من الاستيلاء عليها وتجنب شنّ حملة عسكرية أخرى مكلفة، ومن هنا سعت موسكو إلى التوصل لاتفاق، عن طريق المفاوضات، بين الأكراد والنظام السوري وفق ما ورد في الاقتراح الروسي لعقد مؤتمر للحوار الوطني السوري في سوتشي، وذلك بعدما عقدت اتفاقها الخاص مع الأكراد، والذي أنشأت بموجبه قاعدة عسكرية في منطقة عفرين، في مارس 2017، مقابل تأمين الحماية للأكراد في مواجهة تركيا. بينما يأتي التحوّل في موقف موسكو عقب فشل جهودها لإقناع الأكراد بالتخلي عن السيطرة على أمنهم وحدودهم إلى النظام السوري مع الإبقاء على صلاحيات إدارية واسعة، لمساهمته في تعزيز السيادة السورية، فيما كان هدفها الأبعد الضغط عليهم ودفعهم نحو “أحضان نظام الأسد”، وبالتالي وضع حد، في الظاهر، لتبعيتهم للولايات المتحدة، باعتبارها ورقة لتقديم تنازلات في ملفات متعلقة بتحرك النظام السوري في بعض المناطق السورية.
وإذا كان هذا ما تم فعلاً بالنسبة لروسيا، عند توجّه الأكراد نحو زخم جولات المفاوضة مع دمشق، فإنهم لجؤوا، مؤخرا، أيضا، إلى خط وساطة مصرية للتوصل إلى تسوية سياسية مع النظام السوري لما تحظى به القاهرة من قبول عند كافة الأطراف المعنية بالملف السوريّ، فيما يراهنون، حاليا، على بقاء القوات الأمريكية في الساحة السورية فترة أطول، رغم أن حيثيات قرار ترامب بالانسحاب منها، والذي اتخذه قبل تسهيل عملية التوصل إلى تسوية سياسية، قد تشي بعدم اكتراثه كثيرا بالمسعى الكرديّ لتقرير المصير بقدر حرصه على سلامة قواته ومصالحه الاستراتيجية هناك بعيدا عن الصراع مع تركيا أو روسيا، في ظل تحرك أمريكي للبحث عن صيغة مشتركة مع تركيا لتفادي تصادم جيشها مع القوات الكردية، تدور حول تمركز الأخيرة في مناطق سيطرتها قبل عام 2014، مثل عين العرب والقامشلي وأجزاء من مدينة رأس العين، مقابل دخول أنقرة المناطق الأخرى، شريطة عدم عقد اتفاق بدخول موسكو أو دمشق إلى مناطق سيطرتها اللاحقة. إلا أن هذا المقترح قد لا يجد قبولاً مرضيا عند الأكراد لأنه يقلص نطاق مساحتهم الجغرافية ويدفعهم إلى المواجهة المباشرة مع تركيا، كما يجعلهم عالقين بين مطلب حليفهم الأمريكي واشتراط النظام السوري، خلال المفاوضات، لنشر قواته في مناطق شرق نهر الفرات باستلامه دفّة الأمور، الأمنية والعسكرية والمحلية، واستعادته السيطرة على الموارد النفطية في المنطقة، إذ كلا الأمرين يقودان الأكراد نحو مصير مجهول.
وأمام ضيق الحلقات الراهنة حول الأكراد؛ فإن مخرجات التسوية السياسية قد لا تكون في صالحهم، إذا وضعتهم أمام خيارات قاسية يضطرون فيها؛ إما إلى تسليم السلاح للنظام السوري بضغط تركي، أو لجهات دولية، ومغادرة الأراضي التي سيطروا عليها في شمال شرق سورية، عقب عام 2012، غداة انسحاب الجيش السوري منها للتركيز على قتال قوات المعارضة السورية المسلحة في مناطق أخرى، ومنعها من التمدد ضمنها، واستخدام ورقة الاتحاد الديمقراطي الكردي كمصدر إزعاج لتركيا، مع القبول بانضمام “الوحدات” في صفوف الجيش السوري، إلا أن ذلك يعني إنهاء وجودها عسكريا، وإما منح الأكراد صلاحيات إدارية واسعة لتصبح منطقة شرق الفرات أشبه “بكانتون” إداري، شريطة بقاء السيادة والأمن بيد النظام السوري، رغم أن فرصة هذا المنحى ضئيلة، إزاء رفض دمشق الفيدرالية أو الإدارة المشتركة اللامركزية وتقاسم الثروات النفطية، مقابل مسعى الأكراد للاعتراف بكيانهم السياسي والإداري وبخصوصية قواتهم، بما قد يدفعهم لتقديم مقترح وسطيّ بسيطرة النظام على الحدود السورية التركية مقابل الحكم الذاتي، والذي ترفضه دمشق تحت طائلة التلويح العسكري.
بيد أن اصطدام المفاوضات بحائط مسدود قد يفتح مسارا سياسيا موازيا عبر ترحيل بحث مستقبل مناطق الأكراد إلى مباحثات “أستانا”، تحت رعاية روسيا وإيران وتركيا، فيما قد يدفع فشل الأكراد في صون أيّ من مكتسباتهم نحو احتمال المواجهة المسلحة مع النظام السوريّ عند إصراره على استعادة شرق الفرات بالقوة العسكرية، ما لم يحدّ الوجود الأمريكي في تلك المنطقة من اندفاعته.
ثانيا: التحدي التركيّ :
يواجه الأكراد توعدا تركيا بشن حملة عسكرية واسعة ضدّ عديد قواتهم، قد تطيح، في حال نفاذها، بركائز كيانهم الوليد، بوصفه هدف أنقرة الأشمل لمنع قيام حكم ذاتي أو دولة كردية، أو حتى “فيدرالية”، في شمال سورية، إزاء ما تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها القوميّ وتقويضا لدورها المنشود في الساحة السورية ومكانتها “الطموحة” في المشهد الإقليمي، وإضعافا لجهودها في مقارعة حزب العمال الكردستاني الكردي.
وأمام التعزيزات العسكرية التركية الكثيفة عند حدودها الجنوبية مع سورية وتغلغل قواتها قرب خطوط التماس مع “قسد” بانتظار شارة الحسم؛ قد يجد الأكراد أنفسهم لقمة سائغة بيد أنقرة، ما لم يحصلوا على الدعم الأمريكي المنشود والإسناد الدمشقيّ المنتظر والمكلف حال قبوله، مما قد يقلب المعادلة إزاء ما تتمتع به القوات الكردية، المقدّرة بنحو عشرة آلاف مقاتل حسب تقديرات المراقبين، من مقدرات قتالية فذّة مدفوعة باستماتة نفاذ مشروعها “الحلم”، حيث يتطلب دحرها حربا جوية وبرّية طويلة المدى ستثقل كاهل تركيا راهنا، إذ رغم ترسانتها العسكرية الثقيلة وعدادها كثاني أكبر جيش في حلف “الناتو”، إلا أن الجيش التركي يعاني من الإضعاف بسبب زجّ عدد كبير من ضباطه في السجون إبان المحاولة الانقلابية الفاشلة ضدّ الرئيس طيب رجب أردوغان، في العام 2016، فضلاً عن موجة النزوح المتوقعة من تلك المنطقة والتي ستجابه برفض دولي، في ظل تلويح “قسد” بإطلاق سراح المعتقلين لديها من مقاتلي “داعش” وأسرهم، والمقدرين بالآلاف، عند تنفيذ تركيا لوعيدها، بما يشكل ذلك من قنبلة موقوتة ستمتد آثارها في ثنايا المشهد السوري المأزوم.
ويستقيم ذلك مع محددات أخرى “للعملية التركية”؛ فعدا عن كونها قد تدفع بالأكراد إلى الصّف السوري – الروسي- الإيراني، وهو أمر تخشاه أنقرة وواشنطن، فمن غير المرجح أن تتم بدون نيل الضوء الأخضر من موسكو، كما حدث في “غصن الزيتون”، فيما ستلقي بوزرها الثقيل على العلاقات المتوترة أصلاً مع الولايات المتحدة، وتصيب عقر منطقة نفوذها الرئيسية وبؤرة نطاق عملياتها وتمركز قواتها، ما لم تنفذها تركيا بعد الانسحاب الأمريكي. ومع تشديد واشنطن على عدم السماح بتدمير القوات الكردية على يد الجيش التركي، مقابل تشبث أنقرة بالمضي قدما في عمليتها العسكرية حتى تحقيق أهدافها، فسيبقى التوتر سيّد الموقف بين العضوين في حلف “الناتو”، والذي حاولت واشنطن احتواءه بدعم مطلب تركيا إقامة “المنطقة الآمنة” في الشمال السوري، بعمق 20- 30 كم، وتحت إدارتها، لتفادي الصدام، أيضا، مع “الوحدات”، فيما يجري النقاش الثنائي حول حدود “العمق”، إلا أن الأكراد شجبوا الفكرة التي تشكل، بحسبهم، خطوة لتسليم هذا القسم من سورية إلى الأتراك، مما يجعلهم تحت سيطرتهم المباشرة، وطالبوا بنشر قوة دولية ضمنها، كما رفضتها روسيا انطلاقا من مناهضة اقتطاع جزء من أراضي سورية خارج يد الرئيس الأسد، بما يشي بتناقض الأجندات الروسية التركية في الساحة السورية.
فيما قد يمتد التصعيد على خط العلاقات التركية – الإيرانية مع استبعاد المواجهة العسكرية الشاملة المحكومة هنا إلى توافق روسي أمريكي في ساحة نفوذهما السورية، إذ لن تلتزم طهران جانب الصمت، كما فعلت مع عملية عفرين، خاصة إذا نجحت أنقرة في فتح جبهة أخرى جديدة في منبج، أو حتى على الضفة الشرقية من نهر الفرات، نظرا لتعرض مصالحها للخطر، حيث يمكن أن تشكل تهديدا للمعاقل الساحلية الشمالية للنظام السوري، وتعيق التقدم الإيراني الجامح نحو البحر الأبيض المتوسط، وتحفز الجيش الحر على تنفيذ عمليات عسكرية جديدة لاستعادة مدينة حلب، مما يشي بتمايز الرؤيتين حيال طبيعة الأزمة السورية، بعيدا عن حالة التقارب الثنائي التي برزت مؤخرا، ومستوى المحادثات السياسية في سوتشي، وانتقادهما للسياسة الأمريكية في سورية، في ظل الخشية الإيرانية من الوجود التركي في سورية، بوصفه تهديدا طويل الأمد لمستقبل الرئيس الأسد، وحجم التحديات الكبيرة التي تواجهها في الساحة السورية؛ متمثلة في “داعش” والوجود الأمريكي والجيش الحر والعمليات العسكرية التركية والعامل الإسرائيلي، والتي من شأنها، مجتمعة، إما أن تقصيها من أية استحقاقات مستقبلية في سورية، أو تقوّض نفوذها هناك، وبالتالي ستعمل بكل ما في وسعها لحفظ تواجدها السياسي والعسكري، فالصراع في سورية بالنسبة لطهران مصيري، والهزيمة فيه ستكون تاريخية للمشروع الإيراني بالمنطقة.
ثالثا: الحكم الذاتي الكردي
تقف جملة عقبات صلدة أمام “حلم” الأكراد بتثبيت حكمهم الذاتي في المنطقة الشمالية – الشرقية السورية، سبيلاً مأمولاً لإقامة دولتهم المنشودة لاحقا، والتي قد يتصدرها حال الأكراد أنفسهم وعدم اصطفافهم الجمعيّ على ذات الهدف، وتنقل مطالبهم ما بين “الحكم الذاتي” و”الفيدرالية” و”الدولة المستقلة”، وضيق هامش تحركهم إزاء ندرة المؤيدين لمشروعهم، وعجزهم، طيلة سنوات الأزمة، عن نسج علاقات سياسية تعادل منطقة النفوذ المسجلة باسمهم وحجم الخدمات المقدمة منهم، إزاء رهانهم على العنصر الأمريكي المتحرك، وسط خشيتهم من إدارة ظهره لهم عند اشتداد أزمتهم.
ولن تنفع المسوغات الكردية التاريخية والحقوقية بالحكم الذاتي في ثني النظام السوري عن موقفه المناهض لإقامة الكيان الكردي المستقل، أسوة بتركيا، مما يفسّر زخم نشاط أنقرة عند حدودها الجنوبية وسلسلة هجماتها المتوالية، تماشيا مع معارضتها الشديدة لإعلان دولة “كردستان العراق” الاستقلال، غير الناجز حتى الآن، إعمالاً من خشيتها بانسحاب التجربة إلى داخل عقرها، في ظل نزعة حزب العمال الكردستاني الانفصالية، بما يشكل جبهة ممتدة من شمال سورية حتى الإقليم الكردي العراقي، قد تؤول دولة حيوية ذات منفذ مطل على البحر الأبيض المتوسط، ستقف حاجزا أمام اعتماد “كردستان العراق” على خطوط الأنابيب التي تمر في تركيا فتعرض اقتصاد أنقرة للخطر.
أما إيران؛ فرغم تشاركها ضمنيا مع تركيا في الخشية من إقامة الدولة الكردية في سورية، تحسبا من قلق محاكاة التجربة داخل أراضيها، التي تضم من الأكراد حوالي 8- 10 ملايين نسمة، يشكلون ما بين 10-12% من سكان إيران، يعيش معظمهم في غرب وشمال غرب البلاد، إلا أن المؤسسة الإيرانية تعاملت منذ زمن بعيد بقبضة حديدية معهم.
وفيما تتجه البوصلة الروسية نحو تثبيت دعائم سيطرة الرئيس الأسد على كامل الأراضي السورية، فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تقف على النقيض تماما، بدعمها المطلق لكيان كردي مستقل لإحباط النفوذ الإيراني والتركي في الساحة السورية، أسوة بموقفها من إقليم كردستان العراق، حيث كانت من أوائل المدافعين عنه، لجهة تحقيق هدف التغلغل الرحب في الجسم العراقي، وربطه استراتيجيا بها سبيلاً لتحقيق أهدافها في المنطقة.
الخاتمة
إن مصير الأكراد، كما مستقبل إدارتهم الذاتية، مرتبط بتفاهمات دولية ومعطيات محلية وإقليمية لم تغب يوما عن مشهد الأزمة السورية، الممتدة منذ العام 2011، في ظل خياراتهم التفاوضيّة المحدودة ومواجهتهم العسكرية المحتملة مع تركيا أو دمشق، بيد أن مجريات الأحداث وتصادم مصالح الأطراف المتصارعة في سورية كفيلة بإبقاء السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، فيما التصعيد من جانب أيّ طرف سيخلط الأوراق في المشهد السوري المعقد ويبقي منطقة شرق الفرات على صفيح ساخن، ويهدد وجود الأكراد فيها، كما سيفتح المجال أمام إمكانية انفجار حرب أخرى داخل الحرب السورية نفسها، وسط مواجهة أمريكية – روسية مقبلة لتقاسم النفوذ في سورية.[1]