د. عبدالحق الصنايبي
“عدد هائل من الجماهير المنفية لم يقاوم أبدًا هذا النفي، ويجهل السبب الحقيقي المشؤوم لهذا الإبعاد معتبرً إياه إجراء محتومًا لظروف الحرب، لقوا حتفهم جوعًا وبؤسًا في الطريق”
مقتطف من كتاب “قانون إبعاد وتشتيت الأكراد” ل “أمير جلادت بدرخان”
شكَّل وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة قطيعة مع نمط الحكم وبنية النظام السياسي في الآستانة، خصوصًا بعد إعلان سقوط ما أطلق عليها “الخلافة الإسلامية” وإنهاء حكم سلالة آل عثمان. هذا التحول في بنية الحكم، تلقاه الأكراد بأمل كبير واستبشار أكبر بالنظر إلى مشاركتهم الفعلية في الدفاع عن الأراضي التركية إبان الحرب العالمية الأولى وأيضا الوعود التي قطعها لهم أتاتورك بالإضافة إلى الزخم الدولي حول القضية الكردية، الذي تجسد في عدة معاهدات أهمها #معاهدة سيفر# التي فتحت الآمال والمجال للأكراد للمطالبة باستقلالهم أو على الأقل بحكم ذاتي موسع في إطار السيادة التركية.
ويلاحظ، مرة أخرى، بأن الأكراد وقعوا ضحية سوء تقديرهم، وربما سذاجة بعضهم، عندما وثقوا في وعود أتاتورك التي وصلت إلى حد التلويح بمنحهم الاستقلال التام شريطة تأخير هذا المطلب إلى غاية التخلص ممن أطلق عليهم أعداء الداخل، مع ضرورة مساهمتهم في تمكين أتاتورك من جميع خيوط الحكم في تركيا. هذا المعطى يؤكد بأن الأكراد لم يحسنوا التعامل في استغلال اللحظة التاريخية وبذلك انطبق عليهم المثل الفرنسي القائل “عندما تُخلف الموعد مع الفرصة فإنك تخلف الموعد مع التاريخ” “Tu rate l’occasion tu rate l’histoire ».
في هذا الصدد، ناور أتاتورك على المستويين الداخلي والخارجي من أجل عزل الأكراد عن الحاضنة الدولية كمقدمة لعزل القضية الكردية والقضاء عليها عسكريًّا وهُوِياتيًّا من خلال بعض التدابير التي أعادت اجترار استراتيجية العثمانيين تجاه بقية الأعراق وخاصة العرب منهم، حين حاول باشوات الدولة العثمانية تغيير البنية الديموغرافية للعرب ولو تطلب الأمر تتريك هذه القبائل أو تهجيرها كما حدث في مسيرة الإبادة التي عرفت ب “سفر برلك”.
ويمكن القول بأن فكرة تتريك العرق الكردي، على خلاف التوجه الأتاتوركي، لم تكن على رأس أولويات حكام آل عثمان إلى غاية أواخر القرن 19م وبدايات القرن 20م، على اعتبار أن العثمانيين لم يكن أغلبهم يعترف بانتمائهم إلى العرق التركي، بل كان المصطلح يحيل على مرادفات التحقير والتنقيص. هذا التوجه سينقطع مع بدايات القرن العشرين عندما رأى العثمانيون في الترك الحاضنة العرقية والعصبية التي يمكن الانطلاق منها والبناء عليها في مواجهة باقي المجموعات العرقية التي سُميت ب “الأقليات”.
وإذا كان تركيز العثمانيين أكثر على البعد الديني في مسألة احتواء الأكراد أو قمعهم، باعتبارهم رعايا يدينون بالولاء للباب العالي وأي تمرد على السلطة المركزية يتم تكييفه “دينيًّا” على أنه خروج على الحاكم الشرعي، فإن أتاتورك قطع مع المرتكز الديني في تعامله مع باقي العرقيات وشدد على ضرورة الانتماء إلى الدولة التركية في رمزيتها السياسية وحاضنتها العرقية. وهو التوجه السياسي الذي انطلق منه أتاتورك لرسم طبيعة التعامل مع العرق الكردي من خلال العمل على تكريس منطق الدولة (بمفهوم الكاردينال ريشيليو) من جهة، ومن جهة أخرى قرر تفكيك الجبهة الكردية عن طريق محاولة إذابتها ضمن المجتمع التركي عبر محاولات تتريك العرق واللغة وإلغاء جدار الفصل المناطقي مع الأراضي الكردية الحدودية.
ويبدو أن أتاتورك، الذي ظل يدافع عن المبادئ الديمقراطية في الحكم، لجأ إلى أساليب دكتاتورية لمحو الهوية والثقافة الكرديتين من خلال استراتيجية “التتريك القسري” التي لجأ إليها عبر رزنامة من القوانين كان أهمها “خطة إصلاح الشرق” التي تم تبنيها من خلال مرسوم صادر عن رئاسة الجمهورية دون المرور عبر مؤسسة البرلمان. هذه الخطة، التي تضمنت 27 مادة، كان الهدف منها تغيير البنية الثقافية والتاريخية واللغوية للأكراد، وهي الأعمدة المشكلة للحضارة الكردية، كمقدمة لتذويب الأكراد وصهرهم في وعاء الثقافة التركية. وكان من مظاهر هذه الخطة ترحيل الأكراد من موطنهم الأصلي ومنع الحديث بالكردية في الأماكن العامة والتضييق على حق استعمال الأسماء الكردية.
واستنادًا إلى ما سبق، لم يقتنع أتاتورك بالاحتلال المادي للأراضي الكردية فقط بل عمل على وضع الخطط لإعادة صناعة تاريخ جديد ولغة جديدة للأكراد وكانت المنطلقات، حسب المؤرخ سادات أولوغانا، هي منع اللغة والثقافة الكردية، ليبدأ احتلال شمال كردستان من جميع النواحي. لقد سعت الترويكا (رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء ووزارة الداخلية) إلى القضاء على الطموحات الكردية في الاستقلال من خلال العمل على تفتيت الوحدة المجتمعية للأكراد وتشتيت تكتلاتها السكانية ومن ثم إنهاء جميع المحاولات والمساعي المستقبلية للحصول على الحرية والانعتاق من القبضة التركية.
وبالرجوع إلى أهم بنود “خطة إصلاح الشرق” نجدها تنص على تهجير الأكراد المشاركين في الثورات وتوطينهم في الغرب، أي في المناطق ذات الأغلبية التركية (المادة التاسعة)، كما منعت مجموعة من المواد (من 13 إلى 17) التحدث باللغة الكردية في الأماكن العامة، وتم حظر كل ما له علاقة بالثقافة الكردية من فنون وأدب وتاريخ تحت طائلة الغرامات المالية أو السجن.
خلاصة القول، ورغم النجاح النسبي لمثل هاته الإجراءات، الذي تتجسد في تراجع التداول باللغة الكردية بين الطبقات المتوسطة، بالإضافة إلى هيمنة اللغة التركية في التعاملات بين الأكراد في المناطق الحضرية، إلا أن رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وخضوعها إلى الأصوات المطالبة باحترام المجموعات العرقية وحقها في تقرير مصيرها والنموذج السياسي الذي يحدد تعاقدها مع الحاكم بالإضافة إلى انتشار الأغاني الوطنية الكردية وحصول أكراد العراق على حكم ذاتي موسع، كل هذه العوامل وغيرها، أعطت الأمل للأكراد في إمكانية تحقيق حلم الاستقلال عن تركيا إما كُلِّيًّا أو في إطار الحكم الذاتي باختصاصات واسعة وهو النموذج المعترف به حاليًّا في الدول التي تضم مجتمعات عرقية ذات امتداد وثقل ديمغرافي مهم.[1]