الروائي السوري #حليم يوسف#: وظيفة الأدب رصد التشوهات التي يعيشها المجتمع
القدس العربي
حاوره: مصطفى الخليل
يفكك الروائي السوري حليم يوسف حالة العطب الاجتماعي، طويل الأمد، معتمدا على عناصر الإدهاش والصدمة، فيبرز صراعا مركبا يبدو في ظاهره عبثيا، كونه يندرج في قالب الملهاة السوداء، أما في العمق، فتتجسد المأساة التاريخية لعلاقة الإنسان مع ذاته ومحيطه الذي ينتمي له من جهة، ومع القوى القمعية من جهة أخرى.
يكتب يوسف باللغتين العربية والكردية، وهو من مواليد مدينة عامودا عام 1967 وتعد أعماله الأكثر قراءة وتداولا في الشارع الكردي، وتعتبر «سوبارتو» الصادرة عام 1999 الأكثر جدلية من بين أعماله، كونها حطمت التابوهات السياسية والاجتماعية.
في هذا الحوار يتحدث حليم يوسف عن الوظيفة الحقيقية للأدب، وعن أسباب حضور الجنس في غالبية أعماله، وعن حضور الثقافة الكردية، رغم كل المحاولات التي تسعى لطمسها..
■ أنت متهم بتشويه مجتمع عامودا في روايتك «سوبارتو» ما رأيك؟
□ عملية رصد التشوهات في مجتمع ما من قبل كاتب ما في رواية أو في مجموعة قصصية، لا يعني أن هذا الكاتب يعمد إلى تشويه المجتمع، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على هذه التشوهات والبحث عن طرق ووسائل ناجعة لمعالجتها، ومن ثم تمهيد الطريق أمام المجتمع للتخلص منها. وهذه إحدى وظائف الأدب الأساسية. سأحاول هنا التطرق إلى ثلاث فئات تقف وراء توجيه مثل هذه الاتهامات لي، أو إلى غيري من الكتاب الذين يتناولون مواضيع إشكالية، من خلال كسر التابوهات الاجتماعية والسياسية والدينية. هناك فئة تعمد إلى التفاخر الكاذب بمجتمع يرتع في الانحطاط الأخلاقي والنفاق، لمجرد انتمائهم إليه من باب حرصهم على «عدم نشر غسيلنا الوسخ على الملأ» ومن يفعل ذلك يتعرض إلى الرجم من قبلها. وهناك فئة أخرى هي جزء من هذا التشويه، ومن المشاركين في تكريسه، عندما يأتي كاتب ويكتب عنهم، أو عن ممارساتهم يجن جنونهم ويهاجمون هذا الكاتب، ويعتبرونه مارقا. هنا يكون هذا الأدب كالمرآة التي تعكس حقيقة وجوههم المشوهة، وهي حقيقة يفعلون كل شيء لإخفائها في مجتمع يصفق للمنافق ولمتعدد الوجوه، وينبذ الصادق مع نفسه ومع الآخرين. وأخيرا هناك فئة بسيطة تخلط بين الأدب بمعناه الأخلاقي والأدب الذي نتحدث عنه بمعناه الفني والتنويري. ويعتقدون أن وظيفة الأدب هي إجراء العمليات التجميلية لمجتمع هو مشوه أصلا، ولا يد للكاتب في هذه التشوهات التي تقف وراءها عوامل سياسية وتاريخية وتربوية. فوظيفة الأدب بين ما هو جمالي، فني، وما هو تنويري، كاشف. وبذلك يمكن للأدب أن يجعل العالم أقل بشاعة وأكثر قدرة على التحمل.
■ ولماذا الأديب دوماً عرضة للاتهام؟ مقابل غض المجتمعات الطرف عن هفوات رجال الدين والسياسة؟
□ الكاتب أو الأديب في مجتمعاتنا مكشوف الظهر، وحيد، محبط، منكسر، مهزوم، ما من قراء له، ليشكلوا قاعدة شعبية واسعة تخلصه من عزلته، وما من مؤسسة تحميه لدى تعرضه للأذى، وما من سند يلجأ إليه عندما تشتد المحن وتضيق به الحال. إنه مسلح بعزلته وبإرادته وبشغفه بالكتابة، وبسبر أغوار الحقيقة، كما يراها هو، لا كما يملى عليه من قبل المؤسسات السياسية والدينية، لذلك ترى القلة من الكتاب تستمر، في حين تجرف مصاعب الحياة الغالبية العظمى، منهم ويديرون ظهورهم للكتابة والقراءة، وكل ما له علاقة بالأدب والمعرفة، التي لا تخلف وراءها سوى الفقر والعوز. إذا كان الوضع كذلك بالنسبة للكتاب، فإن الأمر مختلف تماما لدى رجال الدين والسياسة، المحاطين بحماية المؤسستين الدينية والسياسية، ومن خلفهما أرضية اجتماعية واقتصادية صلبة تقيهما السقوط في فخ الانعزال، وتحمي ظهرهما من طعنات المهاجمين. رغم أن حماية رجال السياسة تستند إلى المؤسسات والأجهزة السلطوية، إلا أنها تبدو وقتية وهشة، مقارنة مع صلابة الحماية التي يتمتع بها رجال الدين، الذين يتمتعون بحصانة متعددة الأوجه، تصل أحيانا إلى تخوم المقدس.
■ (هوفو) شخصية جدلية في روايتك «سوبارتو» وهو شخص يمارس الجنس بطريقة مرضية، لماذا تنظر هذه الشخصية لنفسها على أنها بلا قيمة؟
□ (هوفو) إحدى الشخصيات المنسجمة مع نفسها، ومثله مثل الكثير من الشخصيات في «سوبارتو» كان قد اكتسب اسمه من خلال ممارساته وصفاته الشخصية، وغلب لقبه كشخص متهور، أرعن هوف على اسمه الحقيقي. إذ أن الواقع اللامعقول يفرز شخصيات لا معقولة، غير متوازنة، وتتصرف بطريقة لا تخطر على البال، في ما إذا قارنا الأمر مع المنطق السليم. من هنا جاء تصرفه الذي يبدو عجيبا والمتجسد في ممارسة الجنس مع قطعة حديدية، وهو تصرف يأتي غريبا في ظاهره، لكنه تصرف «مألوف» إلى حد ما ومنسجم مع عوالم سوبارتو الواقعية؛ لأن الواقع اليومي بحد ذاته بعيد عن المنطق وأقرب إلى الخيال، بمعناه اللامعقول. من هنا فإنني لا أرى هوفو شخصا مدانا، شاذا، جانيا، بقدر ما هو نتيجة طبيعية لظروف غير عادية ولد في ظلها. وتأتي تصرفاته كتحصيل حاصل لتربية عائلية غير سليمة، ولطفولة مسلوبة، ولسياق اجتماعي ونفسي وسياسي مشوه. طفل يولد في بيئة مشوهة، ويقضي طفولته في أجواء عائلة فقيرة، ومسلوبة الحقوق، ويكبر في ظل استبداد سياسي، ويتلقى تربية خاطئة، حيث الخوف متغلغل في مفاصل مجتمع ممزق، محبط، مهمش يعوم في الجهل والخرافة، كيف لمثل هذا الطفل أن يعيش مستقبلا مراهقة طبيعية، وأن يصبح شابا عاقلا ورجلا ناجحا يتصرف وفق المنطق السليم الذي يتفق عليه معظم الناس. هذا مستحيل، لذلك فإن معظم الشخصيات في روايتي هذه هم بقدر ما هم جناة، فهم ضحايا أيضا، خاصة من خلال العلاقة الإشكالية المركبة مع الحيوانات والتعامل الشاذ معها.
■ في روايتك «خوف بلا أسنان» سلطت الضوء على السلطة الحاكمة، وعلاقتها مع الكرد، وكيفية استثمار النظام الحاكم في سوريا لأساليب القمع محاولا طمس الثقافة الكردية، يا ترى ما هي المناعة الذاتية التي تمتلكها هذه الثقافة؟ ومن أين تستمدها؟
□ الثقافة الكردية ثقافة أصيلة، تمتد جذورها في أعماق هذه الأرض منذ مئات، إن لم نقل آلاف السنين، وهي ليست ثقافة طارئة أو وافدة، لذلك فإنها تستمد مناعتها من هذه الأصالة، التي يمكنها أن تهتز وقد تضعف أو تجرح، إلا أنها عصية على الزوال. ومع ذلك فهي، ونتيجة للغبن التاريخي الذي تعرض له الكرد، تعرضت إلى الكثير من التآكل والانحسار. هناك ملايين من الكرد تحولوا مع الزمن إلى ترك وعرب وفرس في تركيا وايران وسوريا. وانحسرت لغتهم وثقافتهم مع صهرهم وانحلالهم في تلك المجتمعات، التي تدار من قبل دول قومية، في حين بقي الكرد وإلى هذه اللحظة محرومين من إقامة دولتهم القومية الخاصة بهم، كما أنهم حرموا من التمتع بالحقوق القومية في هذه الدول التي تقاسمت وطنهم، عدا عن بقاء ثقافتهم شفوية وقابلة للسرقة والنهب بسهولة. هذا المنع الطويل الأمد للغة الكردية خلّف وراءه أجيالا من الكرد. الذي نجا من الصهر والانحلال لم يستطع النجاة من الأمية الثقافية، حيث لا يتقن كردي واحد من أصل ألف لغته كتابة وقراءة. وفي «خوف بلا أسنان» بحثت عن منابع الخوف الذي يمزق أرواح الملايين من البشر المحاصرين في المربع الجهنمي بأضلاعه التركية السورية العراقية الإيرانية. وتوقفت مطولا عند المحاولة الأولى لهدم جدران ذلك الخوف الأرعن، التي برزت في انتفاضة الثاني عشر من آذار/مارس عام 2004 أو ما سميت بانتفاضة قامشلو، كأول صرخة كردية عالية في تاريخ «الجمهورية العربية السورية» منذ الاستقلال وحتى الآن.
■ في روايتك «الوحش الذي في داخلي» شخصت مخاوف التماهي ما بين الضحية والجلاد، التي تفضي إلى الإصابة ب(متلازمة ستوكهولم). إلى أي مدى يتحول المصاب بهذه المتلازمة إلى عبء وخطر على هويته القومية والثقافية؟
□ «الوحش الذي في داخلي» هو الوحش الذي كان طوال الوقت قابعا في داخل الجلاد، فيقلقه ويدفعه إلى ممارسة العنف ضد كل من يفكر أن يقول له يوما «لا». وكذلك هو الوحش الذي كان طوال نصف قرن نائما في داخل الضحية، فاستيقظ أخيرا وهو يمارس العنف المضاد، مقلدا الجلاد بطريقة أكثر شراسة. وهكذا بعد أن التحف العنف الوحشي بصمت طويل، بات عاريا، مقيتا، دمويا، يوزع الخراب والقتل والتشرد والموت على كل الجهات. وهذا ما آلت إليه التراجيديا السورية المستمرة. أذهلني حجم الوحشية التي مارسها أناس عشنا معهم طوال الوقت.
بعضهم أكلنا وشربنا معا، وكانوا يعيشون بين ظهرانينا. في رواية «الوحش الذي في داخلي» حاولت البحث عن عنوان هذه الوحشية التي أذهلتني وأرعبت العالم برمته. حتى بات قطع الرقاب وتدفق الدماء أمام الكاميرات أمرا مألوفا، وبات القتل حالة يومية. فجأة أصبح الجميع متهما وبات الكل عدو الكل وما زال النهش والسعي إلى الإبادة بين الجماعات والفئات المتناحرة مستمرا. كل جماعة تتحدث عن وحشية الجماعة المقابلة، كل يتحدث عن وحشية ولا بشرية الآخر. وإذا تبادلنا المواقع نجد أن الوحشية تتوزع في جميع الجهات، رغم الاختلاف في الجرعة، وهذا ما أرعبني. لست بصدد المساواة بين الجلاد والضحية أو جمعهما في سلة واحدة. لا، على الإطلاق. ما أود قوله بأن الجلاد نجح في هذه المعمعة الدموية في تحويل الضحية إلى شبيه له.
■ الجنس حاضر في غالبية أعمالك، وفي الغالب يتجاوز وظيفته البيولوجية ويكون مرافقا لكل التحولات التي يمر بها الإنسان، لماذا؟
□ لا أتوانى عن الكتابة عن أي شيء أو أي موضوع يلعب دورا ما في حياتنا بغض النظر عن تقييم الآخرين لهذا الموضوع. والجنس مثله مثل أي موضوع حيوي يلعب دورا مهما في حياتنا، وبالتالي في حياة الشخصيات التي أتحدث عنها في رواياتي، خاصة أنني أكتب عن مجتمع يعاني من كبت جنسي مزمن نتيجة إحاطته بطوق صارم من المحرم الديني والاجتماعي. إن ما لا يدركه الكثيرون هو أن الجنس هو المحرك الخفي لتصرفات الأشخاص الغامضة، التي تبدو في ظاهرها لا منطقية، وهو من الأهمية بمكان إلى درجة أنه يلعب دورا حاسما في تحديد مصائر الكثير من الشخصيات حولنا. واستخدامي لموضوع الجنس في الرواية هو استخدام وظيفي تقتضيه الحاجة الفنية، لاستكمال بناء الشخصية أو الحدث الذي أتناوله. وأنأى بنفسي عن المغالاة في تناول موضوع الجنس أو غيره من المواضيع الداخلة في حدود التابوهات الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، خاصة عندما لا تكون هناك ضرورة فنية تقتضي ذلك. لأن الامتحان الأساسي لديّ لدى إنجاز العمل الأدبي هو التناغم الكامل بين الشكل والمضمون وعدم التضحية بأحدهما في سبيل الآخر.[1]