كريم شكاكي
تظل القضية الكردية احدى القضايا الملتهبة فى الشرق الأوسط كقضية خرق وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته الطبيعية من قبل الدول والأنظمة الدكتاتورية المسيطرة كل واحدة منها على جزء معين من كردستان . تعود الجذور التأريخية للقضية الكردية بالأصل الى تجزأة كردستان بين عدة دول وحرمان الأكراد من حق تقرير مصيرهم على ارض اجدادهم عبر قرون طويلة . فتركت هذه التجزأة القسرية اثارها السلبية على التطور الإجتماعى والسياسى والإقتصادى فى المجتمع الكردي . بدأت التجزأة الفعلية بسمتها المذهبية التى حددتها #معركة جالديران# عام1514 بين الدولة العثمانية السنية والدولة الفارسية الشيعية . وثبتت حدودها رسميا بين الدولتين فى عام 1639 حيث اصبح الجزء الأكبر من كردستان المجزأة تحت سيطرة السلطة العثمانية الى نهاية الحرب العالمية الأولى .
يشهد التاريخ السياسى لكردستان على فترات كانت فيها بعض الإمارات ا لكردية مستقلة ، تمتلك معالم دويلات تتمتع بإستقلالية نسبية تحكم مناطقها المعينة ، مستغلة الصراع و التنافس المذهبى القائم بين الدولة الإيرانية الشيعية والدولة العثمانية السنية. وكانت كل من الدولتين المتنافستين- الإيرانية والعثمانية تسعيان الى كسب صداقة عشائر كردية وتعزيز توسيع نفوذهما فى المناطق الكردية . .فبدأ السلطان سليم الأول وبالتعاون مع احد مستشاريه فى الشؤون الكردية المدعو الملا ادريس من اصل كردى كسب رؤساء العشائر الكردية الى جانبهم من خلال منحهم استقلالية لإدارة اماراتهم ، بأعتبارها دويلة كردية او حكومة كردية محلية مسؤولة عن منطقتها . فوقع السلطان العثمانى اتفاقية التحالف العسكرى والسياسى مع ثلاث وعشرين إمارة كردية . تضمنت بنودا من اهمها :-
* - تحتفظ كافة الإمارات الكردية الموقعة على المعاهدة باستقلالها التام .
* - تنتقل الإمارة بالوراثة من الأب الى الأبن . او يتم تنظيم ذلك استنادا على قوانين البلاد و يقوم السلطان بالإعتراف بالوريث الشرعى بأصدار فرمان سلطانى.
1- * د. وليد حمدى الكرد و كردستان فى الوثائق البريطانية لندن 1992،ص.17.
و على الأكراد ان يساهموا بموجب الإتفاقية الى جانب السلطان العثمانى فى جميع الحروب التى يخوضها ضد اعدائه . كما اصبح رؤساء الإمارات مسؤولين عن جمع الضرائب السنوية لمصلحة الحكومة المركزية . مع مرور الوقت ومجىء حكومات عثمانية مختلفة بدات تتجاهل التزاماتها وبشكل رئيسى ما يتعلق بمسالة استقلالية الإمارات الكردية ، والتى بدات تختزلها تدريجيا الى أن جردت الإمارات منها وفرضت عليها ادارة مركزية صارمة ومباشرة. وقامت السلطات العثمانية المركزية بتعيين حكام متشددين على هذه الإمارات ويمارسون كل انواع الإضطهاد والتعسف تجاه الأكراد الذين كانوا يرفضون الإدارة العثمانية المباشرة ويواجهون أساليبها القسرية بالرفض والوقوف فى وجهها , مما جعل من بعض العشائر الكردية ان تعلن الثورة او الإنتفاضة ضد الحكام المحليين والحكومة المركزية ويطالبون بإستقلال كردستان .
فى اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ،كان العالم الراسمالى ، الذى كان يشمل انذاك بالأساس بريطانيا و فرنسا كأقدم بلدان راسمالية وأثناء ذلك لحقت بهما كل من المانيا والولايات المتحدة الأمريكية ،قد سجلت تطورا ملحوظا فى الإنتاج الصناعى، يفوق حجم حاجات اسواقها الداخلية، و كان بقاء هذا الفائض بدون تسويقه قد يؤدى الى خلق بؤرة الأزمة فى اقتصاديات هذه البلدان . فأضطرت الى ان تبحث عن اسواق خارجية لتصريف فائضها الصناعى. فاحتدم الصراع و التنافس بينها من خلال سعيها الى إيجاد هذه الأسواق فى بلدان اخرى ، والى تثبيت اقدامها وترسيخ مواقعها الإقتصادية والسياسية فيها. كان الوضع بالنسبة الى بريطانيا وفرنسا افضل بحكم وجود مستعمرات لهما تحولت بالأساس الى مصدر تستمد منه موارد الطاقة والمواد الخام الأولية الضرورية لإمداد صناعاتها الوطنية من جانب ، ومن الجانب الآخر كانت هذه المستعمرات قد اصبحت اسواق اضافية لتصريف منتوجات الدول الصناعية , فادى التنافس والصراع بينها على الأسواق الى اشتداد وتعميق التناقضات بينها واصطدمت مصالحها مع بعضها , فقادت الى توتر الأجواء السياسية والعسكرية الدولية واخيرا نشوب الحرب العالمية الأولى , التى جلبت للعالم كوارث و خسائر هائلة ماديا و بشريا.
كانت منطقة الشرقين الأوسط والأدنى من بين تلك المناطق التى تجذب إنتباه وإهتمام الدول الكبرى ، وجمعياتها ومنظماتها الخيرية و التبشيرية المختلفة ولا سيما فى بريطانيا وفرنسا وروسيا و اخيرا المانيا واميركا، وذلك لأهمية موقعها الجغرافى الإستراتيجى الذى يشكل حلقة الوصل بين الشرق والغرب من جانب ، ومن الجانب الآخر لوجود ثروات طبيعية ذات اهمية اقتصادية استراتيجية ومن اهمها ثروة النفط التى اكتشف الخبراء منابعها فى المنطقة ، و بشكل معين فى كردستان التى تقع ضمن منطقة الشرق الأوسط , ولهذا نلاحظ كما كتب المؤرخ الكردى المعروف الدكتور كمال مظهر احمد ما يلى وهكذا فإن ثروات كردستان الطبيعية وموقعها الإستراتيجى كانت تجلب اليها اهتمام الدول الكبرى يوما بعد يوم أكثر من ذى قبل . وقد أدى ذلك لأن تولى هذه الدول ولاسيما المانيا وبريطانيا وروسيا انتباها كبيرا لتثبيت مواقعها فى كردستان، و قد تجلى ذلك فى سنوات ما قبل الحرب و خلالها بوضوح*
*2- الدكتور كمال مظهر أحمد كردستان فى سنوات الحرب العالمية الأولى ترجمة محمد الملا عبد الكريم- بغداد 1977 ص. 28.
فى اواخر القرن التاسع عشر كانت المانيا تتمتع بنفوذ قوى فى اوساط عثمانية حاكمة وحصلت مؤسساتها على الأمتياز لمد خطوط سكك حديدية فى الأمبراطورية العثمانية . و من اشهر المشاريع التى حصلت المانيا على الأمتياز لأسستثماره كان مشروع مد سكة حديد بغداد، التى كانت تمر ايضا بمناطق كردية.ولكن ظلت منابع النفط والإستحواذ عليها تشكل العصب الحقيقى والقوة الفاعلة التى تتعاظم اهميتها باستمرار فى المخططات السياسية للدول الكبرى وبشكل خاص بريطانيا. بالرغم من أن ألمانيا سبق وأن حصلت فى عام 1903 على الأمتياز لإستثمار حقول النفط الواقعة على مساحة 20 كيلومتر على جانبى سكة حديد بغداد، إلا أن المنافسة كانت شديدة وتتعاظم باستمرار بين الشركات الألمانية والإنجليزية , وفى نهاية الأمر ادركت هذه الشركات بأنها تدور فى دوامة الصراعات العنيفة لا تبشرها بنهاية ايجابية ، سوى عليها أن توحد جهودها وإمكانياتها المشتركة .فإتفقت على انشاء شركة النفط التركية ، و قبل بدء الحرب حصلت على الإمتياز لإستخراج النفط فى ولاية الموصل العثمانية. وبعد الحرب وضع الإنجليز يدهم على حصة المانيا فى الشركة .
أصبحت كردستان و بشكل خاص الجنوبية منها لأسباب و عوامل مذكورة اعلاه مطمع أنظار وإهتمام الجميع ، وتحتل مكانة هامة فى مفاوضات علنية و سرية وفى اروقة دبلوماسية الدول الكبرى، تسعى كل واحدة منها لأن يكون لها موقع مميز وقوى فى كردستان، من خلال كسب ود رؤوساء العشائر الكردية والشخصيات المتنفذة . فكانت تبعث بخبرائها ودبلوماسييها للإتصال ولإقامة روابط متينة مع رؤساء العشائر الكردية والشخصيات المعروفة والإطلاع على الأوضاع الإجتماعية و السياسية والإقتصادية مع وعودها بالإطمئنان بأنها تسعى الى تحقيق آمال الأكراد وتدعيم توجهاتهم الى التحرر والإستقلال عن الحكم العثمانى المستبد . فكانت بريطانيا سبق وان اقامت وكونت روابط وعلاقات واسعة مع الأكراد منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر عندما بدأ رجال شركة الهند الشرقية يتجولون فى كردستان والإطلاع على اوضاعها الإجتماعية والسياسية والإقتصادية .
لقد شهدت السنوات ما قبل الحرب واثناء الحرب ايضا على نهوض نوعى واسع من المشاعر القومية والوطنية لدى اوساط تركية معينة من المثقفين ، فنشأت تنظيمات و جمعيات مثل حركة الإتحاديين أو تركيا الفتاة وغيرها تنشد التحرر والتقدم ، وتدعو الى إقامة نظام دستورى معاصر بدلا من النظام الإستبدادى للسلطنة العثمانية القائمة تحت راية فكرة الجامعة الإسلامية . ونشطت هذه الحركة تحت قيادة مصطفى كمال، الضابط فى الجيش العثمانى، الذى تدرج فى مناصب عسكرية قيادية وحكومية، وقامت فى عام 1908 بالثورة الدستورية ووعد ت الشعوب داخل الإمبراطورية ومن ضمنها الشعب الكردى بمنحها حقوقها القومية المشروعة . كما وجد ذلك تأثيره فى اوساط واعية من الشعوب والقوميات الأخرى الرازحة تحت النير العثمانى ، و بعضها ساهمت فى تنظيمات حركة الإتحاديين. فعلى سبيل المثال إنضم الى هذه الحركة عدد من المثقفين الأكراد , وتدل جميع المعلومات بان الأكراد قد برهنوا عن تضامنهم الوثيق وتعاونهم مع الحركة القومية التحررية التركية. فكان احد القرارات الهامة الصادرة من مؤتمر قادة الحركة الوطنية الكردية، تشكيل قطعات مسلحة كردية ، على ان تعتبر القسم الأساسى من الجيش التركى اثناء محاربته الإنكليز والفرنسيين واليونانيين. ومن دلائل التعاون مع الحركة الوطنية التركية ، هو مشاركة عدد كبير يمثلون اكراد المناطق الشرقية فى المؤتمر الوطنى العام . ولكن رغم كل التضحيات التى قدمها الأكراد وتعاونهم الوثيق مع الحركة الوطنية التركية، هو سرعان ما تخلى الإتحاديون بعد استلامهم للسلطة عن وعودهم و تعهداتهم بمنح حقوق الشعوب المضطهدة. وبدأوا يمارسون سياسة عنصرية تسعى الى القضاء على هوية القوميات الأخرى وصهرها فى بودقة الشوفينية التركية القائمة على اساس فكرة الوحدة العثمانية، وفكرة أمة عثمانية واحدة و فى واقع الأمر لا تختلف الفكرتان فى مدلولهما عن بعضهما ، وبل تشكلان فكرة واحدة، تعنى سياسة التتريك المكشوفة ، ومع اشتداد الإستبداد و الظلم صعَّد الشعب الكردى من نشاطه النضالى ليتصدى للسياسة العنصرية للإتحاديين وقام بإنتفاضات بطولية ، كما هى ثورة الشيخ سعيد بيران فى عام 1925، التى تم قمعها و القضاء عليها وعلى قادتها من قبل القوات التركية بوحشية وقدمت قادتها وشخصيات كردية معروفة الى محاكم صورية واصدرت احكام الإعدام بعدد كبير منهم . وفى ظل هذه الظروف كانت الحركة القومية الكردية تتبلور ويتعمق مضمونها الإجتماعى و الديموقراطى وتكتسب قاعدة اجتماعية شعبية اوسع واشد متانة لتقف فى وجه الأعداء الغاصبين لتربة الوطن . وتجسد كل ذلك فى توسيع انشاء منظمات و جمعيات و تفعيل نشاطها بإصدار وتوزيع مطبوعات تحمل افكار التحرر والتقدم و القيم و المبادىء الإنسانية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الطبيعية، ومكافحة الأفكار العنصرية، بهدف رفع وتعزيز الوعى القومى التحررى فى الجماهير الكردية . كما اهتمت المنظمات بنشر التعليم ومكافحة الجهل والأمية بين الأطفال والشباب والإهتمام بتطوير اللغة الكردية والأدب الكردى , وكرست شخصيات كردية جهودها خاصة فى انشاء مدارس لنشر التعليم باللغة الكردية وتدريس الأدب والتأريخ الكردى . لقد تطلب الظرف الجديد إعادة تنظيم صفوف الحركة الكردية القومية التحررية وإغناء طليعتها القيادية بالعناصر النوعية الواعية والمتسلحة بافكار التحرر والتقدم وبالقيم الإنسانية وامكانية التفاعل بسرعة مع المستجدات على الساحة الكردية والإقليمية والدولية نتيجة التطورات الإجتماعية والسياسية والفكرية والإقتصادية . لقد انعكست أثار هذه التطورات على نضوج افكار وآراء لطرح الصيغ والأشكال المناسبة تنظيميا وسياسيا ومرحليا مع ظروف تقدم الحركة القومية الكردية وتوازن القوى محليا ودوليا ، تكون مؤهلة لقيادة النضال القومى التحررى للشعب الكردى من اجل الحرية والإستقلال لوطنه كردستان ، على أساس ما وعدت به دول الحلفاء بعد انتصارها على الإئتلاف العثمانى الألمانى فى الحرب العالمية الأولى.ولكن كما تبين بأن الحلفاء خططوا الأمور وفقا لمصالحهم الإستراتيجية . فخلال سنوات الحرب العالمية الأولى واحتلال قوات الحلفاء لمنطقة الشرق الأوسط , كانت هناك محادثات سرية و علنية بين الحلفاء( بشكل رئيسى بريطانيا ، فرنسا ، روسيا القيصرية ، ايطاليا ) حول مصير الممتلكات العثمانية- الألمانية. و بعد مساومات وتنازلات بشكل رئيسى بين بريطانيا وفرنسا وروسيا توصلت هذه الدول فى 1916 الى اتفاقية تسمى اتفاقية سايكس- بيكو لتقاسم ممتلكات الأمبراطورية العثمانية الأسيوية فيما بينها. وهى احدى اخطر الإتفاقيات الإستعمارية كما يقول المؤرخ الكردى المعروف الأستاذ كمال مظهر لقد تم ابرام واحدة من اخطر المعاهدات الإستعمارية فى تاريخ الد بلوماسية السرية وهي دخلت التاريخ بأسم معاهدة سايكس- بيكو*
*3- د. كمال مظهر احمد كردستان فى سنوات الحرب العالمية الأولى بغداد 1977، ص. 306.
الجدير بالإشارة هو أن إنتصار ثورة أكتوبرفى روسيا القيصرية فى عام 1917 و إنسحاب روسيا من جميع المعاهدات التى وقعتها مع دول الحلفاء وكشف البنود السرية لهذه المعاهدات ، قد غير من ميزان القوى على الصعيد الدولى وطبيعة العلاقات الدولية . كما ان إقامة نظام بلشفي قريب من منطقة الشرق الأوسط كان له اهمية استراتيجية ، خاصة حينما طرح اسس حل المسألة القومية لشعوب الشرق، اثار قلق الدول الغربية وفى مقدمتها بريطانيا، وبدأت الدول الغربية ، تسعى لإيجاد حلول مناسبة لمعالجة مخلفات الدولة العثمانية بالصورة التى توفر الضمان لمصالحها ، ووعودها وتعهداتها تجاه شعوب المنطقة ، من خلال إقامة النظم التى تضمن مصالحها الإستراتيجية وفى مقدمتها هيمنتها على منابع النفط والتصدى للنفوذ السوفيتى . ولقد ركزت بريطانيا اهتمامها على الهيمنة العسكرية والسياسية على المنطقة , وبشكل خاص فى العراق ومع ظهور بوادر استسلام تركيا والتوقيع على الهدنة ، بدأت القوات البريطانية المحتلة للبصرة بالزحف السريع نحو الشمال الى أن وصلت مدينة الموصل فأحتلتها و طردت الإدارة العثمانية منها.ومن الطرف الآخر بادر القائد العسكرى البريطانى بإعتباره الجانب المنتصر، بالإستعجال على التوقيع على الهدنة فى 30-تشرين الأول عام 1918، الذى جرى على متن الباخرة البريطانية الراسية فى بحر إيجة بدون حضور أي طرف اخر مشترك فى الحرب باستثناء القائد العسكرى البريطانى بصفة المنتصر فى الحرب ، وقائد القوات العثمانية الذى استسلم بعد اندحار قواته فى الحرب .
بعد التوقيع على الهدنة عقد مؤتمر الصلح فى باريس الذي استمر حوالى سنة إعتبارا من 18/كانون الثانى عام 1919 – 21/كانون الثانى عام 1920 وبالرغم من ان الولايات المتحدة الأمريكية لم تشارك فى الحرب ، إلا أنها اصبحت كمشارك كامل الحقوق فى المؤتمر ضمن جبهة الحلفاء فى مناقشة وإقرار جميع المسائل المطروحة على المؤتمر. كانت المسالة الأساسية التى يدور حولها النقاش الحاد، هى إقرار مصير الممتلكات العثمانية الألمانية و مصير الشعوب الداخلة ضمن الدولة العثمانية والتى كانت تناضل بإستمرار فى سبيل تحررها و استقلال بلدانها من السيطرة العثمانية. فاستبشرت الشعوب المضطهدة بالشعارات التى حملها الحلفاء تعبيرا عن هدفهم لتحرير جميع الشعوب من النير العثمانى ، وهكذا ايضا بمبادىء الرئيس الأمريكى التى تؤكد على حق تقريرالمصير فى تحقيق طموحاتها القومية فى الحرية والإستقلال، التى تتأمل ان تتحقق فى مؤتمر الصلح فى باريس. كانت جلسات المؤتمربعضها سرية والأخرى علنية تتسم بنقاشات حادة تعكس مطامع كل واحدة من هذه الدول فى الحصول على حصة الأسد من تقسيم الممتلكات العثمانية وبشكل اساسى فى جزئها الأسيوى الذى يشمل منطقة الشرق الأوسط بما فيها ولاية الموصل العثمانية مع كردستان الجنوبية التى تحتوى على مصادر غنية من النفط , وبالأضافة الى أهمية موقعها الجغرافى الذى يربط بين الشرق والغرب . كما تمخضت النقاشات داخل المؤتمر بإقرار مبدأ الإنتداب و تطبيقه عند الضرورة.
لقد حضر المؤتمر وفد كردى برئاسة الجنرال العسكرى والدبلوماسي المعروف ومن أصل كردي ، الذي سبق له ان خدم فى الجيش العثمانى والدبلوماسية العثمانية فى السويد، وهو معروف بنشاطه واتصالاته قبل الحرب مع ممثلى الدول الكبرى لمناقشة القضية الكردية ومستقبلها .كان الوفد الكردى يتمتع بتأييد و مساندة اوسع الأوساط الكردية من جميع مناطق كردستان و بشكل رئيسي من قبل الشيخ محمود الحفيد .
كان الوفد يقوم بنشاط واسع من خلال اتصالاته مع رؤوساء وفود الدول الكبرى وغيرها من المنظمات والأحزاب الحاضرة الى المؤتمربهدف طرح القضية الكردية وتوضيح نضال الشعب الكردى من اجل حقوقه القومية المشروعة بما فيها حق استقلال كردستان . فقدم مذكرتين باسم الشعب الكردى، الأولى فى 22. أذار.عام 1919 متضمنة المطالب الكردية، و الثانية فى آذار عام 1920 مرفقة بخريطة كردستان التكاملية. وفى 20. كانون الأول عام 1919 قدم مذكرة مشتركة مع الوفد الأرمنى تؤكد على اتفاقهما حول استقلال كل من ارمينيا وكردستان وتشملان الأراض التى كانت تحت الحكم العثمانى. بالنسبة الى كردستان تشمل كردستان الشمالية وكردستان الجنوبية وكان ذلك قبل الحاق كردستان بالعراق الحديث ، مع التأكيد على ان حل اية من القضيتين الأرمنية او الكردية ، لا يمكن ان يعيق حل القضية الثانية. و اقترح الوفد لرئاسة دولة كردستان، اسماء عدد من شخصيات كردية معروفة، ورغم بعض الصفحات السوداء فى العلاقات التاريخية بين الأرمن والأكراد فى الفترات الماضية وبشكل خاص اثناء مذابح الأرمن فى 1915 التي قامت بها السلطات التركية، اثارت المذكرة والإتفاق بين الوفد الأرمنى والكردى إنتباه وإهتمام اوساط سياسية وإعلامية واسعة , ولكن المؤتمر بحث القضية الكردية فى اطار عام و بإرتباطها فى اوجه عدة بالمسالة الأرمنية والتى لإعتبارات معينة كانت لها مكانة بارزة ضمن المسالة الشرقية.فإحدى الحلول المحتملة للمسالة الكردية هو فى منح الحكم الذاتى لكردستان . طرحت هذه الفكرة ليس من قِبل احدى الدول الحليفة ، بل من قِبل الزعيم القومى الأرمنى نوبار باشا فى مذكرة قدمها الى وزير الخارجية الفرنسية ، تضمنت خطة حل المسالة الأرمنية مع مقترح منح الحكم الذاتى لكردستان بشرط ان يكون تحت حماية احدى الدول الحليفة او جميعها.*
*4- م.س. لأزاريف المسالة الكردية فى 1917 موسكو 1972،
ولكن عندما نبحث بعمق وموضوعية فى جوهر الأهداف الحقيقية للحلفاء فى منطقة الشرق الأوسط بما فيها كردستان ، نكتشف حقيقة سياساتهم الخاصة بالمنطقة التى تعكس طموحاتهم واهدافهم الإستراتيجية فى الهيمنة السياسية والأقتصادية والعسكرية فى المنطقة اما من خلال فرض حالة إنتداب إحدى الدول الكبرى على الدويلات التى يقيمونها فى المنطقة، أو بعد ان يتم تفتيت الممتلكات العثمانية وتقاسمها فيما بينها بحيث ما يتبقى من هذه الممتلكات لا يمكن أن يجعل من دولة تركيا الحديثة قوة اقليمية تسعى لإسترجاع عظمتها العثمانية. فكانت بريطانيا تراقب التطورات السياسية الجارية تحت قيادة مصطفى كمال . فإلتجأت بريطانيا الى تفتيت ولاية الموصل العثمانية الى جزئين : الجزء الشمالى الذى يتضمن كردستان الشمالية او المركزية والجزء الجنوبى أى كردستان الجنوبية التى خططت لإلحاقها بالعراق العربى , ولإستخدامها كلما إقتضت مصلحتها كورقة ضغط سواء على الحكومة الكمالية او العراقية المرتقبة. وفى نهاية الأمر طبخت بريطانيا #معاهدة سيفر# التى تم التوقيع عليها فى اليوم العاشر من أب ، عام 1920 بين بريطانيا ، فرنسا، أيطاليا، اليابان، بلجيكا، اليونان، رومانيا، بولونيا، البرتغال، جيكوسلافيا، يوغوسلافيا، الحجاز، وأرمينيا من جهة و الإمبراطورية العثمانية من الجهة الأخرى. تحتوى على 13 بابا و 433 بندا , فقد لعب الإنجليز دورا أساسيا فى صياغة بنودها المتعلقة بالمسالة الكردية ، التى كانت تشمل الباب الثالث والبنود 62، 63، 64.وأن نص هذه المواد ملحق فى نهاية المادة منقول من كتاب كردستان فى سنوات الحرب العالمية الأولى للمؤرخ الكردى المعروف الدكتور كمال مظهر احمد .
بغض النظر عن ما آلت اليها هذه المعاهدة ببنودها المتعلقة بالقضية الكردية التى تدور حولها اراء متباينة فى تقييمها كما بين المثقفين والكتاب الأكراد وهكذا بين الخبراء بالشؤون الكردية. يقيِّمها البعض ايجابيا باعتبارها صورة من صور العدل فى حل المسالة القومية.وثمة آراء سلبية فى تقييمها، لأنها لم تحقق هدفها الرئيسى فيها..أجل انها لم تأت من فراغ ، بل هى النتيجة المعقدة للحركة القومية الكردية ومستوى تفاعلاتها مع المستجدات، وهى حقا ثمرة نضال الأكراد واضطهادهم وتشريدهم وتضحياتهم من اجل حرية وطنهم كردستان وهى ثمرة تمسك الكرد وتعلقهم بهويتهم الكردية. وهى الوثيقة الدولية الأولى التى تعترف بكل ما اشرنا اليه اعلاه ، بالرغم من انها تجمدت والغيت قبل ان يجف حبرها على الورق الذى كُتبت عليه بنودها، لقد كُتبت صفحات فى تقييمات ايجابية وسلبية سوف نشير اليها مع ملاحظات بسيطة. فالمعاهدة كوثيقة دولية اولى من نوعها تشير بصراحة الى اقامة حكم ذاتى لكردستان فى اطار تركيا ومع حق تحويلها الى كردستان مستقلة ولكن ما يفضح مدى مصداقية الدول الكبرى، فى أهتمامها ورعايتها لمصير الشعوب المضطهدة ، هو ما يشير اليه المؤرخ الكردى الدكتور كمال ..... وهو انه فى اليوم نفسه الذى تم فيه الإعلان عن التوقيع على معاهدة سيفر ، عقدت بريطانيا وفرنسا وايطاليا اتفاقا ثلاثيا خاصا لتقسيم مناطق النفوذ فى كردستان الشمالية فيما بينها مستندة على بنود معاهدة سيفر نفسها .*
* 5- د. كمال مظهر كردستان فى سنوات الحرب العالمية الأولى بغداد 1977، ص. 348 .
و لكن الدبلوماسى الروسى المعروف والخبير بالتأريخ الكردى. ب. نيكيتين يقيِّم المعاهدة من منظور الأهمية الدولية للأعتراف بالقضية الكردية التى لحد ذاك الوقت لم يهتم بها الراى العام العالمى رغم ممارسة ابشع اساليب القمع والإضطهاد والتشريد بحق الأكراد، بسبب نضالهم العادل من اجل حقهم المشروع فى الحرية والإستقلال.، فيقول نيكيتين رغم أن معاهدة سيفرالتى وقعت فى 10.اب.1920 ظلت حبرا على ورق، الا أنها تعتبر مع ذلك نقطة تحول خطير جدا فى تطورالقضية الكردية. فلأول مرة فى التأريخ بحثت وثيقة دبلوماسية فى فصلهاالثالث ( المواد62-64 ) الإستقلال المحلى للمناطق التى تعيش فيها اكثرية كردية. *
* 6- باسيلى نيكيتين الأكراد الطبعة العربية – نقله عن الفرنسية د. نورى طالبانى - الطبعة الثالثة، سليمانية 2007 ، ص. 328
اراد الخبير الكوردولوجى نيكيتين أن يؤكد على انه اصبح من الصعب تجاهل اهمية الحركة الكردية، ليس فقط بحكم ما تتميز كردستان باهمية استراتيجية لموقعها الجغرافى الذى يربط بين الشرق والغرب وبل ايضا بعدالة القضية التى تمثلها و تحملها، وان حلها حلا ديموقراطياً سيكون عاملا فعالا للإستقرار فى المنطقة . هذه الحقيقة قد اثبتتها الأحداث السياسية حتى فى ايامنا الراهنة حيث لا يمكن أن يسود الإستقرار فى المنطقة ما لم تحل هذه القضية بشكل عادل ومنطقى، فيقول نيكيتين لمنطقة كردستان اهمية جغرافية واقتصادية كبرى فهى احدى الصلات بين الشرق والغرب وفيها تنفجر ينابيع غزيرة من النفط الحيوى للعالم. فمن مصلحة العالم كله ان يسود السلام فى هذه المنطقة...... ولا شك أن الضمير العالمى يود ان تسود مبادىء العدالة و مبادىء حقوق الأنسان*
* 7- ب. نيكيتين الأكراد الطبعة العربية ص. 11.
اجل أن الأحداث الأخيرة التى تعرض لها الشعب الكردى تؤكد على تشخيص نيكيتين. فالراى العام الديمقراطى لم يتجاهل هذه المرة مصيبة الأكراد على يد النطام الفاشى البعثى فساعدهم فى اقامة الإدارة الفيدرالية فى كردستان العراق، وأقرها الدستور الجديد للعراق. لقد اصبحت هذه التجربة كما يشخصها ساسة معروفون كنموذج ناجح للعراق فى المستقبل فى ممارسة الديمقراطية لإدارة جهاز الدولة والمجتمع.
هناك اراء مختلفة عن ذلك فى تقييم هذه المعاهدة بشكل اخر منهم المؤرخ الكردى المعروف محمد امين زكى يقول بأن هذا المؤتمر العالمى الذى كان يتمشدق بكلمات العدل والإنصاف والعمل على إنقاذ الشعوب المحكومة وتحريرها قد اثبت ببرهان جلي ودليل ساطع امام الإنسانية جمعاء ان هذه الكلمات جوفاء لا معنى لها ولا مدلول فى عالم السياسة والواقع*
* 8- محمد امين زكى خلاصة تأريخ الكرد و كردستان تاجزء الأول الطبعة الثانية بغداد 1961، ص.27.
أن حقيقة البنود المتعلقة بحل القضية الكردية لم تخرج عن اطار ارتباطها مع حل القضية الأرمنية التى كرست لها معاهدة سيفر بجزئها الأعظم، ضمن مسالة الولايات الشرقية، و اقامة ارمينيا الكبرى على اربع ولايات كبيرة عثمانية سابقا من خلال تفتيت الممتلكات العثمانية الآسيوية وكما اشرنا سابقا بهدف قطع الطريق امام تركيا لتتحول على حساب الممتلكات العثمانية الى دولة اقليمية قوية. ولكن المسالة الهامة التى تجاهلتها الدول الكبرى، ما يتعلق الأمر بمصير كوردستان الشرقية ، التى نتيجة لمعركة جالديران بين ايران والإمبراطورية العثمانية فى عام 1514 ظلت ملحقة بايران قسرا وبغض النظر عن ارادة الشب الكردى ونضالاته من اجل التحرر والإستقلال . بهذه الخطوة كرست المعاهدة تجزئة كوردستان ومنحتها صفة الشرعية الدولية بهذه المعاهدة . بالرغم من النشاط السياسى الذى قام به الوفد الكردى، ولكن يبدو لم يكن كافيا لكسب ثقة الحلفاء الى جانب الأكراد. وعدا ذلك كان تحقيق البنود الخاصة بالأكراد مشروطا بإجراء استفتاء بين السكان الأكراد فيما أذا كانوا راغبين فى الإنفصال عن الأتراك ام لا ، و الشرط الثانى تخضع نتائج الإستفتاء الى دراستها واقرارها من قبل عصبة الأمم فى ضوء جدارة الشعب الكردى بالإستقلال أم لا .فى الواقع تدل هذه الشروط على القصد الحقيقى لأطراف المعاهدة ، بامكانية المضاربة والتلاعب بهذه الشروط حسب ما تمليها مصالحهم فى المنطقة.
كانت سياسة بريطانيا تجاه مسالة انشاء دولة كردية مستقلة مترددة غير ثابتة و يدور حولها اراء ووجهات نظر متباينة بين مختلف مراكز القرار البريطانى، ومرتبط ايضا بمدى اطمئنان الإنكليز على تعزيز سيطرتهم على المنطقة من خلال دويلة خاضعة لمصالحهم وإمكانية صد توسع النفوذ السوفيتى نحو الجنوب حيث حقول النفط الغنية. كما ان تطور الأحداث السياسية فى المنطقة وتغير توازن القوى تبدو لم تتمكن القيادات الكردية والشخصيات المعروفة انذاك من استيعاب الأحداث والتطورات السياسية والتفاعل معها والإنتفاع منها فى كسب التأييد الكامل لقضية انشاء دولة كردية مستقلة على غرار ما جرى من حالات عديدة من هذا القبيل. لهذا السبب كانت معاهدة سيفر ولادة مشلولة وضعيفة المدلول قبل ان يجف حبرها، والدليل على ذلك هو فى المادة 62 نفسها قد ألزمت تركيا بأن توافق عليها وأن تتنازل عن جميع حقوقها وإمتيازاتها فى المناطق التى شملتها. إلا أنها فى حقيقة الأمر كانت تخضع لإرادة المنتصر ومصالحه. يقال بأن التأريخ يكتبه المنتصرون ، وهذا يعنى بالنسبة الى الأكراد ، بأن أعداءهم كتبوا التأريخ ، بغض النظر عن فترات معينة من تأريخهم كانوا بفضل طبيعة جبالهم الشامخة بين حين وآخر يتمتعون بنوع ما من الحرية والإستقلال عن حكامهم المستبدين . ولكن بقدر ما كان الحماس والشوق عميق فى داخلهم ، للأسف الشديد ، لم يكن ما توازيه وحدة متماسكة لصفوفهم ، غنية بمواهب سياسية كدستها خبرة النضال البطولى عبر قرون طويلة لمواجهة مساعى أعدائهم الذين يسعون لحد الآن أن يظل الأكراد متفرقين و منقسمين ويفتقرون الى قيادة سياسية محنكة صقلتها الخبرة والتجربة النضالية قادرة على قطع رؤوس أخطبوط اعدائهم . لهذه الظروف لم تكن ارادة الشعب الكردى هى التى وضعت بنودها ورسمت خطوطها ، بل كما يريد ان يقول الدبلوماسى الأميريكى والخبير بالشؤون الكردية وليم الأبن ليعبر عن المدلول السيا سى لهذه المعاهدة التى الغيت قبل أن يجف حبرها ، كما ارادها الجانب الكردى، فيقول الكاتب إلا أن المعاهدة كانت وثيقة ميتة ساعة التوقيع عليها، لأن يد مصطفى كمال كتبت التأريخ بصورة تختلف عما رسمته*
*9- وليم أيغلتن الأبن جمهورية مهاباد 1946 الكردية الطبعة الثان]ة أربيل 1992 ، ص.31.
وهذه الصفحة من تأريخ الشعب الكردى لم تمليها ارادته الصلدة، بل ارادة الد اعدائه وفرضتها مصالح القوى العظمى، بالشكل الذى تقول بأنه لامكانة فيما بعد لشعب كردى أو شعب أرمنى ، و أى عنصر اثنى آخر فى تركيا الحديثة.وهذا لا يعنى مجرد رفض الحق المشروع للشعب الكردى ، بل اراد مصطفى كمال أن يضمن لدولة تركيا الحق القانونى فى مكافحة كل حركة قومية تطالب بحقوقها المشروعة، وقمعها كحركة خارجة عن القانون، كحركة يقوم بها قطاع الطرق والمخربون.فكانت تركيا تبحث عن دعم دولى لهذه السياسة، فوافقت على التنازل والمساومة مع بريطانيا فى حل مشكلة الموصل العثمانية بما فى ذلك كوردستان الجنوبية ( كوردستان العراق الراهنة) بإلحاقها بدولة العراق الحديثة ، من خلال عقد اتفاقية دولية ، تحل محل إتفاقية سيفر، بدون الإشارة الى اقامة حكم ذاتى ، أو أى شكل آخر من الإدارة الذاتية للأكراد او اية جماعة اثنية اخرى .كانت بريطانيا مصممة على إلحاق كوردستان الجنوبية التى كانت ضمن ولاية الموصل بدولة العراق والتى كانت تحت سيطرتها فعلياً. فكانت بريطانيا تستهدف من سياستها هذه ، تأمين مصالحها البترولية فى هذه المنطقة. فلما جلس الحلفاء مرة اخرى مع الحكومة التركية عام 1923 لوضع معاهدة جديدة تجاهل الحلفاء تاييدهم للكرد، كما تجاهل الأتراك وعودهم المعسولة لهم. وفى 23/تموز/1923 وقعت تركيا مع الحلفاء على معاهدة لوزان لتحل محل معاهدة سيفر . فجاءت معاهدة لوزان كما ارادها مصطفى كمال منذ البداية.
من وجهة نظر القانون الدولى ووضع الحركة القومية التحررية الكوردية، تعتبر معاهدة لوزان خطوة الى الوراء مقارنة مع معاهدة سيفر وضربة خطيرة للحركة الكردية وتراجعا الى الوراء من وجهة نظر القانون الدولى ، وهى المخاض العسير الذى تعانيه الحركة القومية الكردية منذ نشأتها ، مما يجعلها عرضة لتنازلات ومساومات فرضتها عوامل ذاتية وموضوعية منها:-
اولا- فقدان قيادة عصرية موحدة وواعية بمصالح الشعب الكردى فى تمييزها بين الأطراف ذات الصلة بالقضية الكردية التى تتمثل اولا بالإمبراطورية العثمانية، و فى الوقت الراهن النظم الدكتاتورية المعادية للديمقراطية، التى دوما تجسد قوانين واساليب القرون الوسطى للمرحلة الإقطاعية فى ادارة المجتمع و تفتقر الى الأفكار والقيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان وحرياته.
الطرف الثانى يتمثل بالعالم الغربى الذ ى رغم انانيته الإمبريالية ونظامه الإستعمارى الذى مارسه و طبقه على بلدان اخرى فى اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية عقود طويلة، إلا أنه قد وصل الى مرحلة متقدمة فى بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة القائمة على منظومة ديمقراطية من المبادىء والقيم والأحكام التى تحترم حقوق الإنسان وحرياته الطبيعية وبدأ بتطويرها وتحسينها وفقا لمتطلبات كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع.
ثانيا - ظهور طبقة واعية من داخل المجتمع التركى متأثرة بالتقدم الفكرى والإجتماعى الحاصل فى العالم الغربى واخذت تناضل ضد اشكال واساليب القرون الوسطى التى تمارسها السلطة العثمانية . تميزت هذه الحركة بصعود جماهيرى يقودها مصطفى كمال وإلتفت حولها قوى وطنية تركية وإنضمت اليها مجموعة من المثقفين الأكراد. استطاع مصطفى كمال أن يسيطر على الحكم ويقوم ببعض التحولات التقدمية ، منها فى عام 1924 اعلن الغاء الخلافة الإسلامية وقيام جمهورية تركيا العلمانية اكتسبت هذه الفئة نفوذا واسعا من الشعب التركى وفئات مثقفة من الشعوب المضطهدة ضمن الإمبراطورية العثمانية.ولكن هذه الفئة لم تستطع ان تتحرر من جذور التعصب القومى الشوفينى فاستندت على فكرة الوحدة العثمانية او الجامعة العثمانية ،تدعو الى سياسة التتريك لجميع الشعوب والقوميات غير التركية.
ثالثا- النجاحات التى حققتها حكومة الكماليين فى دحر القوات اليونانية و طردها من الأراضى التركية( الأناضول) و فى انسحاب القوات الفرنسية . كانت للقوات الكردية مشاركة فعالة الى جانب القوات التركية فى طرد القوات الأجنبية من تركيا.
رابعا- مارست النخبة الحاكمة من انصار كمال اى من الكماليين سياسات مساومة مع الغرب و موالية له، بشرط ان تتخلى بريطانيا ودول غربية اخرى عن مساندة اقامة ارمينيا الكبرى وكردستان المستقلة اى بمعنى آخر الغاء معاهدة سيفر بدلا عنها وإقرار معاهدة لوزان التى تم التوقيع عليها فى 23تموز عام 1923. نتيجة تآمر الأمبراليين الحلفاء والرجعية التركية*
* 10- البروفيسور.م.أ. هسرتيان كردستان تركيا بين الحربين رابطة كاوا للثقافة الكردية بيروت 1987 ، ص.56.
. خامسا – فرضت معاهدة لوزان على الدول الكبرى كبريطانيا وفرنسا وغيرها التى سبق وان خرجت قريبا من الحرب العالمية الأولى منتصرة ، ولكن منهوكة من الخسائر البشرية والمادية الهائلة غير مستعدة لمواجهة عسكرية اخرى ومزيداً من الإنفاق . فأضطرت أن تتساوم على مسائل كثيرة تواجهها فى العلاقات الدولية ، مادامت توفر ضمانات لمصالحها الإستراتيجية فى منطقة الشرق الأوسط ، و دعم انقرة للغرب فى مواجهة نفوذ الإتحاد السوفيتى . فهكذا اصبحت تركيا فيما بعد عنصرا هاما فى مرحلة سيا سة الحرب الباردة.
سادسا – حققت بريطانيا هيمنتها على اغنى حقول النفط بعد الحاق ولاية الموصل العثمانية بما فيها كوردستان الجنوبية الغنية بحقول النفط المتواجدة فيها.
فى تقييمه لمؤتمرى سيفر ولوزان كتب نيكيتين يقول لتكن معاهدة سيفر خطة غير موفقة من
الناحية السيسية و لهذا، من الجائر، انها غير قابلة للتطبيق. وليس فى نيتنا تعديل تاريخ دبلوماسية ما بعد الحرب فى آسيا الأمامية . إلا انها باعترافها بمبدأ الحكم الذاتى لكردستان ، من جملة المبادىء الأخرى اكدت هذه المعاهدة على القانون الدولى , فى حين ان معاهدة لوزان لم تفعل هذا، وتعتبر طبعا من وجهة نظر تطور القانون الدولى خطوة الى الوراء *
* 11- ب. نيكيتين الأكراد الطبعة العربية بيروت ، ص. 308.
ويمكن ان نقول بان هذه المعاهدة هى بمثابة ازالة الصفة الشرعية عن الحركة الكردية القومية التى تناضل من اجل تحقيق إستقلال كردستان من جانب ، ومن الجانب الآخر وفرت الحق القانونى للسلطات التركية بأن تقوم بقمع كل حركة او انتفاضة كردية تطالب بحقوق الشعب الكردى المشروعة ، بحجة اتهام هذه الحركة بخلق الإضطراب و القلاقل فى البلاد.وكما يقول نيكيتين بانه من وجهة نظر القانون الدولى فمعاهدة لوزان هى ضربة قاضية على الحركة التحررية الكردية لأنه تبين بالأساس بان بريطانيا استخدمت القضية الكردية كورقة ضغط على تركيا حول مصير ولاية الموصل بما فيها كردستان الجنوبية و مسألة استقلال كردستان. فاستطاعت بريطانيا ان تحصل على ولاية الموصل والحقتها بدولة العراق الحديثة التى اقامتها تحت انتدابها. بهذه الخطوة دفنت بريطانيا فكرة استقلال كردستان التى كانت تراود ولحد الآن كل كردى وطنى غيور لتحقيقها فيما اذا توفرت فى الوقت الراهن الظروف الذاتية والموضوعية لضمان الإستقرار والتقدم السلمى فى المنطقة .
و خلاصة الأمر كانت معاهدة لوزان بديلا معاكسا لمعاهدة سيفر التى قبل ان يجف حبرها بدأت الدول التى وقعت عليها تقلقها الظروف المستجدة من النجاحات التى تحققها الحركة الكمالية بطرد القوات الأجنبية من اراضيها و تطوير علاقاتها مع روسيا السوفيتية من جانب ومن الجانب الآخر بسبب التنافس القائم بين الدول الكبرى فى سبيل الهيمنة وضمان مصالحها فى المنطقة بما فيها كردستان، كما كان يبدو لم يكن هناك اجماع حقيقى لإبرام معاهدة سيفر، لهذا السبب تعرضت منذ البداية الى الهجوم على بنودها و تنصل عن الإلتزام بها. فبدات بريطانيا التراجع عنها. و فى مؤتمر وزراء خارجية انجلترا وفرنسا وايطاليا بباريس( كانون الثانىمن العام 1921) تقرر عقد مؤتمر خاص فى لندن لإعادة النظر فى ( معاهدة سيفر) حيث اصبحت البنود 62، و 63، و64، الضحية الأولى.*12
*12- د. كمال مظهر احمد- كردستان فى سنوات الحرب العالمية الأولى – ترجمة محمد الملا عبدالكريم- بغداد 1977، ص. 351.
اما الشخصية الكردية المعروفة يكشف حقيقة مدلول سياسة بريطانيا بالنسبة الى القضية الكردية فيقول كانت بريطانيا تسعى الى منح الأكراد حق تأسيس دولة كردية مستقلة ولكنها موالية لسياستها فى المنطقة ، لضمان سيطرتها فى المنطقة ولدرء توسع النفوذ السوفيتى.*
*13 د. قاسملو، عبد الرحمان كوردستان والأكراد – بحث سياسى و اقتصادى ترجمة عبد الله زاده الى الكوردية عام 1973.
و لكن تتجلى الحقيقة بشكل ساطع اكثر من اتفاقية موقعة بين بريطانيا والعراق وتركيا بهدف ترسيم الحدود بين العراق وتركيا كما ارادتها بريطانيا.فتم بشكل نهائى إلحاق كوردستان الجنوبية بدولة العراق الحديثة والقائمة تحت الإنتداب البريطانى، فالقضية الكردية لم تكن سوى مداورات سياسية وموضوع مساومات رخيصة ليس إلا *
*14- محمد امين زكى خلاصة تاريخ الكرد و كردستان الجزاء الأول- الطبعة الثانية – بغداد 1961، ص. 267.
اى أن لا وعود الحلفاء ولا المبادىء ال 14 التى اعدها الرئيس الأميركى ويلسن حول حقوق الشعوب المضطهدة الرازحة تحت النير العثمانى، ولا الوعود المعسولة لكمال اتاتورك التى وعد بها الأكراد ، حققت شيئا جوهريا من التطلعات القومية للأكراد، ورغم كل ذلك ورغم ان بريطانيا العظمى العريقة فى تقاليدها الديمقراطية – منها احترام حقوق الإنسان وحرياته الطبيعية والقائمة على اساس المساواة فى مبدأ حق تقرير المصير لجميع الشعوب،إلا انها بحكم مصالحها الإمبريالية الأنانية قد حفرت قبرا عميقا للإنسان الكردى ليدفن أحد أجمل احلامه الإنسانية ، وهى الحرية ، حرية الإنسان الكردى ان يعيش تحت راية كردستان حرة مستقلة ، لا كردستان متجزأة ومتقطعة الأوصال ، فى الوقت الذى يشكل الأكراد رابع أكبر قومية فى الشرق الأوسط وربما اكبر جماعة اثنية فى العالم ليس لها دولة خاصة بهويتها القومية التى لا تربطها باية صلة عرقية بالأمم التى ارتبطت بها قسرا وبلا ارادتها.
حقا حينما يردد المثل الكردى ليس للكردى اصدقاء سوى الجبال
++++++++++++++++++++++++++++++
المراجع العلمية الرئيسية
1- د. وليد حمدى الكرد و كردستان فى الوثائق البريطانية لندن-عام 1992،.
2-د.كمال مظهر احمد كردستان فى سنوات الحرب العاملية الأولى بغداد 1977
3- البروفيسور لازاريف المسالة الكردية – موسكو، عام 1978
4- ب. نيكيتين الأكراد الطبعة العربية ، نقله من الفرنسية الى العربية الدكتور نورى طالبانى.
5- محمد امين زكى خلاصة تأريخ الكرد وكردستان الطبعة الثانية بغداد 1961،
6- البروفيسور م.أ. هسرتيان كردستان تركيا بين الحربين بيروت -1987[1]