ومن جديد في الإرث والتراث الكُرديين
وليد حاج عبدالقادر / دبي
منذ عدة عقود دأب عالبية المؤرّخين والباحثين في مجال العلوم الإنسانية عامةً والتاريخية خاصةً في إرفاق عمليات البحث والتقصي بجملةٍ من العلوم المساعدة كرفدٍ لعمليات التنقيب الأثري وما يُستخرج من باطن المواقع المستهدفة ، إلى درجةٍ اضحت المعطيات النظرية المستخلصة من العادات والتقاليد وأيضاً المخزون الثقافي والفولكوري ذي أهمية كبيرة تضاهي مخرجات المكتشفات المادية التي تمّت – يتمّ الكشف عنها ، وفي خاصية شعبٍ مثل الشعب الكُردي ، والذي وبكلّ أسفٍ، لا يزال يحتلّ مكانته بين الشعوب ذوي الثقافة الشفاهية ، إلا أنّ هذه الثقافة، وبذات خصائصها، واجهت وبتحدٍّ وجودي كبير ثقافات عديدة ومتنوعة تدرّجت بقوتها وأيضاً بهيمنتها السياسية ، وحافظت على مخزونها الإرثي التاريخي ، وفي عودةٍ إلى مفاصل هذا العرض وخاصةً في الإرث والتراث الكُرديين وكما في كلّ المجتمعات البشرية حيث حظيت المرأة بدورٍ ريادي بارز ، ودائماً كان دورها يرتبط بمحوريتها، إن كركنٍ أسري أساس أو اقتصادي تنتج، ولعلّنا نستطيع تلمس هذا إن لم نقل بأنّ كُردستان في الأساس هي مركز ظهور عبادة المرأة / الإلهة … المعطاءة والمتدفّقة حياةً، ولعلّ تماثيل الآلهة الأم والطينية منها خاصةً حتى قبل دخول مرحلة الشي – التحجر، كالآجر بعد استخدام الفخار خاصةً ، تلك التماثيل التي تعتبر من أقدم المجسّمات لذلك ، وأهمها تلك التي اكتشفت في واشو كاني والتي تعود إلى أكثر من 4000 سنة وخاصةً تمثال الإلهة المجسّدة بأربعة أثداء والمسمّاة بتمثال الإلهة الأم الهورو / ميتانية ، والتي اكتشفت في مدينة سري كانيي ، ولمجرد تأشكلها نسوياً وبصيغتها الأمومية أكبر دليلٍ على النمط الخصبوي الذي امتاز به ، أو وبعبارةٍ أدق متلازمة النمو والخصوبة وبشرياً ومنذ أقدم العصور عدّت المرأة وكخلاصةٍ متسلسلة على أنها نتاج ومحور، لابل العنصر الأهم في جدلية الخصوبة والإخصاب ، وقد تجلّت وبتركيزٌ شديد في خاصية الأم الإلهة تعامات أو تامات، كما اينانا السومرية أو هيرا اليونانية، ولتتشعّب منها ومن جديد مجموعة الإلهات متعدّدة المواهب ، منهنّ القديسات أو الشريرات وكذلك العابثات أو الخلوقات وفق سياقات المرحلة وتجلياتها، وبالتالي المتغيرات كانعكاسٍ لتغيير نمط الإنتاج وبالتالي مستلزماتها ، فتظهر مع الاستقرار والعيش الرغيد نماذج من الآلهة اللائي تعبثن وتستبدلن الآلهة الذكور مرةً فلاح وآخر راعٍ أو لربما محترف / الحرفة مثل: الحداد أو صناعة السلال / وقابلها دائماً وأبداً الآلهة العذراوات وكرؤوس أقلامٍ سريعة، هنا يمكننا ذكر خاتونا زمبيل فروش ، خجا سيامند ، كجكا جل كزي ، دوستا لاوكي متيني، وتبقى ژين وللحقيقة هي نقطة المحور، لابل والمرتكز من جديد وعلاقتها وكتفسيرٍ حُمّل بكثيرٍ من تراكمات إفرازات الوعي البشري خاصةً بالحياة وسر استمراريتها، وأعني المرأة !! فلو عدنا مثلاً إلى الميثولوجيا السومرية وسجل الهتها النسوية لربما كنّا اعتبرنا الترجمة الأولى لكلمة / ننتي / كسيدة العضو، ولتبيّن الدراسات المكثّفة واتفاق الغالبية العظمى من علماء السومريات بأنّ ننتي هو الاسم السومري لكلمة حواء العبرية ، وبالتالي حياة العربية وأضيف / أنا / معناها بالكُردية / ژين /، أفلا تعني لنا بشيء ؟! خصوصاً وإنّ نفس المعجم السومري يحمل لنا اسم مم كواحدٍ من النسق الأول للآلهة الأبناء كإله الينابيع والوديان / الماء العذب / كما الإله آفدار … وباختصارٍ شديد فإنّ التراث الكُردي حمل بين جنباته كلّ هذه المراحل التي مرّت بها المرأة الكُردية والتي بقيت إضافةً إلى ما ذكرناه معزوفة عشق ووله مستدام .
وهنا وفي العودة إلى تراتبية ونمط القصّ والغناء الكُرديين ، والتركيز وبرؤيةٍ بحثية صرفة سواءً في صميمتها وبالتالي تواترها مع التطور وتقدّم الوعي الميثولوجي البشري في ميزوبوتاميا ، فتلمح في البنية الأساس لهذه الميثولوجية / ميژو بالكُردية وهي غير كڤنه برست أو الكلاسيك / وكذلك انعكاسات الأنماط المعيشية والبنى الإقتصادية والمختصة بأنماط الإنتاج واستخدام كما تطور أدوات الإنتاج ومن ثم اندثار حرف مثلاً وظهور أخرى بديلة أو أكثر شيوعاً .. وباختصار شديد : تظلّ الأنشودة ، الغناء ، القصة ، كبنية أساسية ويُضاف إليها الأحدث أو لربما فقط يتمّ استبدال الأسماء فقط كظاهرة كلّ الأساطير والقصص الميدية والتي بقيت حتى بلغتها و .. بعضها فرّست / من التفريس / بعضاً من أسماء ملوكها … وهنا لابدّ لي بالمقابل بالإشارة إلى ظاهرة ذكورية مقابلة، وأعني بها ظاهرة لاوك ، حيث لاحظت ،من خلال متابعتي القديمة / الجديدة لهذه الظاهرة، وتحديداً لاوكي متيني أو معدني ، مادني !! فلو تأمّلنا كافة أنماط الغناء وطرائقها، سنلاحظ خاصةً في المقطع الأول ببداية الأغنية فهل / أري يادي ت بخوكي او ت بخودكي / فهل هي امتداد لمرحلة الآلهة الأم والتاريخ الكُردي وبحضاراتها المختلفة تؤكّد على شيوع هذه الظاهرة تاريخياً من خلال وجود تماثيل ونصوص كثيرة تثبت ذلك ؟! .. أم لعلّها من المؤثرات المسيحية كدينٍ انتشرت في كُردستان كثيراً، وهنا لابدّ من ذكر تقاطع كجك مع ظاهرة مريم العذراء !! ..
ومن ثم وأيضاً هنا / لاوكي متيني .. مادني .. معدني / وارتباطها بظاهرة اكتشاف المعدن وخاصةً الحديد وعلاقته بالإله هيفستوس إله المعدن والحديد والذي يعظ أصله حسب الأساطير الإغريقية من سهول كيليكية بمفهومها الواسع هناك ، هذا الإله الذي جُرح في قدمه وأصبح يعرج في صراعه ومنافسته ليحظى بقلب إلهة العشق والغرام هيروديت .. عشتار / وأصبح عشيقها فيما بعد … ولكن الأهم والإرث الكُردي / لاوكي زردوشي / .. ومدى تقاطعها وما قيل ويقال عن زرادشت والشجرة وظاهرة الديمومة والاستدامة والقسم ت بخوكي وه .. بخودي كي .. ومناجاة الفتاة لابل صرختها كتشبيه أو استدلال وإن كانت تعجّ بعواطف عاشقة جارفة إلا أنّ فيها مافيها من الباطنية كثير من الأمور . وقبل أن نختتم لابدّ لنا من الوقوف ملياً عند المرثية الكوجرية التي يرتقي فيها الألم إلى مصافِ التألق ليتوحّد في متوالية الوجع فينتج من مخاضه ثانية بذرة تنفلق كحبة القمح إلى فلقتين واحدة تستمرّ في إنتاج مرثيتها المستدامة والأخرى تينع بذرة الحياة المتجددة لتستمرّ .
إنّ مرثية الكوجر هي استدامة للمناحة التي لازالت كينابيع وجداول كُردستان تتدفّق ألماً بخريفه ودموع شتائه و .. ربيعه الذي تينع فيه خضاره المتدرّجة صوب الاصفرار وهات ياالخريف من جديد وهكذا دواليك … في المرثية تلك – الكوجرية – نرى كيف أنّ الكوجريات تمزجن الزغاريد مع العويل ، فتنفح من همساتها أغاني الرحيل فتصدحن : رااكن بينين بووووكي دلالي .. هي عينها الأغنية بها تودعن الشاب العريس – المتوفى – إلى القبر وتخرجن العروس من دارة أهلها إلى سكن زوجها . والمغزى هو دائماً المناحة كمتلازمة لموت سيليه حتماً ربيع تتجدّد فيه الحياة .[1]