«قصة فاطمه صالح أغا، بين جمال الموسيقى وروعة التراث»
إدريس شيخة
تعتبر الحكايات انعكاسٌ لحياة الكُردي ومنعشّ لذاكرتهِ بين الفينة والفينة، لجمال وتنوع أحداثها ، فالكثير منها تناقلها الشعراء والقاصون على شكل أبيات شعرية تحوّلت إلى أغاني، وهذه الأغاني الفلكلورية ما زالت حيّةً وحاضرةً بقوة في الثقافة الشعبية الكُُردية، وهي نتاج مخزونٍ تراكمي، بعضه وصل إلينا والكثيرَ منه ضاع ،ومنه ما عرفناه وقد أُدخل إليه بعض التغييرات أو الإضافات، وتعتبر الملحمة الغنائية روح ونبض التراث بما يرد فيها من سرد أحداث ووقائع تعكس قيم ومعطيات معرفية في حقبة تاريخية معينة.
الملحمة الغنائية الكُردية استقت من طبيعة كُردستان الجميلة أبهى الصور وأروع الحكايا لتجسد شخصية الإنسان الكُردي وملامحه مع جبالها الشامخة و ألوان الربيع في ربوعها الخلّابة ، فتظهر العشق الحقيقي الأصيل وملاحم البطولة في صورة حقيقية للحالة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. ولقد قلت سابقاً في مقالٍ لي إنّ هذا النوع من الغناء هو بحد ذاته الأوبرا.. النموذج الكُردي. واليوم سوف اتناول قصة إحدى هذه الملاحم وأعالجها موسيقياً وأسرد سرداًكاملاً للقصة.
ملحمة فاطمه صالح أغا تعتبر من الحكايات المعروفة عند الكُرد السوريين ،وخاصةً كُرد قامشلو والجزيرة، اكتسبت شهرةً كبيرةً لكونها من القصص التي تحوّلت إلى لونٍ غنائي تمّ سرد أحداثه وفق نمطٍ يُعرف بغناء ال(شر)، لذلك كان من السهولة تناقلها من جيلٍ إلى آخر .
قام بسرد هذه الحكاية عدد كبير من الفنانين في سوريا أمثال (عبدلو و رفعت داري) وفنانون آخرون، لكن أجمل حنجرةٍ غنّت الاغنيه بكلٍ جوارحه هو رفعت داري قبل ربع قرن ،وهذا لأنّ طبقة صوته تخطّت العلامة الموسيقية (صول) عبر التنظيم الرائع للجمل والسلم الموسيقي، وهذا ما جعله يستمرّ في سرد هذه القصة غنائياً لمدة ساعة ونصف ، وهي اغنيه على مقام ( العجم) بدأت القصة حينما كان الشبّان يلتقون على بيادر منطقة هوسكا، يتسلّون بلعبة الكرة المصنوعة من القش والخرق البالية واسمها (gogê).
ويُقال إنه كان بين اللاعبين شخص يُدعى محمد وكان وسيماً بهيي الطالع وشجاعاً مغواراً مغرور متباهي مفتخر بحسبه كونه ابناً لأحد الآغوات المتنفذين الأغنياء. وبينما هم مستمتعون باللعب قذف محمد الكرة واصطدمت بصدر أحد اللاعبين ،وهو ابن إحدى عجوزات القرية، فوقع على الأرض مغشياً عليه، وكانت والدته تشاهد سقوط ولدها فبدأت بالصراخ والعويل وتنعت محمد ( متذمره) قائلة(لما كلّ هذا التكبر والتعالي على الغير وكأنك متزوج من فاطمه ابنة صالح أغا) ترسّخ كلام تلك العجوز في ذهن محمد، وظلّ يفكّر بها طوال الليل، فلم يغمض له جفن فذهب إلى تلك العجوز طالباً إليها إرشاده إلى مكان فاطمة، لكنها امتنعت لتنتقم منه ، فما كان منه إلا أن هدّدها بالقتل فارشدته إلى مكانها وأخبرته بأنها خارقة الجمال وراجحة العقل وللوصول إليها عليه أن يقطع الجبال والانهار بصبرٍ وجَلَد.
في تلك الليله لم يستطع محمد النوم ومضى يفكّر بوسيلة توصله لتلك الفتاة التي هجّرت النوم من عينيه.
مع بزوغ فجرٍ جديد انطلق محمد إلى رحلته المجهولة، لا يعرف لها نهاية باحثاً عن فتاته التي لا يعرف عنها سوى اسمها.
قبل أن يغادر اتخذ بعض التدابير اللازمة للدخول إلى عشيرة ضالته، فخلع عنه ملابسه الأنيقة ولبس ملابس الرعاة ،وبعد رحلة شاقة استغرقت ثلاثة أيام بلياليها، التقى محمد ببعض الرعاة الذين كانوا يرعون الأغنام والماعز ، فسأل عن أصحاب القطيع.
فقالوا له إنها لصالح أغا.
لم يصدّق الشاب ما سمعه ، وطلب منهم أن يصطحبوه إلى القرية، لأنه يبحث عن عملٍ يغنيه الحاجة إلى أي إنسان،
فقالوا له لا تتعب نفسك لأنّ أهل القرية لن يقبلوا به راعياً لأغنامهم؛ كونه غريب عن القرية.. فقال: لماذا..؟ فقالوا: له لأنهم يضيعون أغنامنا ويسرقون بنادقنا ويخطفون شاباتنا.
فمضى محمد مكسوراً، يبحث عن حل في اختراق القرية، وضع نصب عينيه الخيمة الكبيرة ويراقب عن كثب حركةمُضيف القهوة (القهوجي) الذي لا يستكين وصوت( دمدم) جرة القهوة وضباب دخانها فارشاً غيمةً فوق الخيمة، وكثرة ارتياد الضيوف التي تدلّ على أنّ صاحب الخيمة له شأن كبير في القبيلة. فقال في سره إذا توجّهت مباشرةً إلى الخيمة الكبيرة لن يهتمّ بي أحد . فقرّر أن يكون ضيفاً على أقرب خيمة لهذه الخيمة، وهي خيمة حديثة لزوجين حديثين فارتاد الخيمة فرحّبوا به ضيفاً عزيزاً وذبحوا له وبعد العشاء قال محمد لصاحب الدار :ألا تأتي نذهب إلى المضافة للتعليل؟ فقال صاحب الدار : والله كان هذا بخاطري أيضاً، فاستحيت منك كونك ضيفي وغادرا الدار إلى المضافة، وجلسا وهنا لعب الحظ دوره. حين دخل راعي صالح أغا، وكان قد مضى على آخر مرةٍ زار فيها عائلته ستة أشهر ، وطلب من الأغا أن يأذن له بزيارتهم كونه مشتاق لهم، فقال الأغا يا ولدي لو أخبرتنا منذ ثلاثة أيام لبحثنا عن راعٍ آخر حتى حين عودتك.، وهنا قفز مضيف محمد وقال للاغا. إذا كنت تريد راعي فهذا ضيفي يبحث عن عمل، ففرح الأغا ونظر إلى محمد ومدى رقته وجماله، فشكّ أن يكون قادراً على ممارسة الرعي كون هيئته لا تدلّ على أنه مارس هذه المهنة من قبل لكن فصيح كلامه ورجاحة عقله التي تدلّان على الشجاعة والجرأه اقنعت الأغا على الموافقة.
فاعطوه عدة الرعي وتوجّه نحو القطيع ، وعندما حلّ الظلام استلقى بين الأغنام يفكّر بمحبوبته وكيف سيكون اللقاء ، لكن رائحة الغنم وخشونة اجترارها نغصت عليه خلوته، فهو ابن البكوات، لم يألف حياة الرعاة .
كانت من العادات السائدة أنّ الراعي كان له مساعد وهذا المساعد يسمّى (دو شفان) وهذا الراعي من غلمان القرية وفقرائها، ويعمل بدون أجر بلقمة غذاءٍ البسطاء جداً أما الراعي فله أجر وطعامه لذيذ وجيد، وعند الصباح أيقظ المساعد واسمه علي محمد ليسوق الغنم إلى المضارب لسقايتها وحلبها، فلاحظ مدى تخبط وتشتت محمد وهو يسوق الغنم فقال علي في نفسه هو جديد ولا يعرف معالم بيادر القرية، سوف اسوق اليوم القطيع بدلاً عنه حتى يتعوّد على إيراد الغنم ،ولكنه لاحظ في اليوم التالي تكراراً لما فعله محمد في أول يوم وتكرّر ذلك في اليوم الثالث، فقرّر علي ان يشكو محمداً للآغا كونه، اي محمد يأكل الذ طعام، والذي يتعب ويشقى هو، وعندما اقترب من الخيمة ليشكو محمد ، وكانوا قد جهزوا خرج زاد الراعي الجديد محمد، ويبحثون عن شخص يوصل الزاد إلى محمد وهنا عندما رأوا علي صاحوه وطلبوا منه أن يوصل الزاد، وعندما وصل قال محمد ما هذا قال علي هذا زادك فقال علي لمحمد لو أعطيتني كل يوم القليل من الزاد فسأقوم بالرعي بدلاً عنك وهنا فرح محمد وأعطاه طعامه واعتمد عليه في الرعي .
وكانت جارية فاطمة قد جهّزت نفسها لتذهب للحلب فاستأذنت من أميرتها وتأبّطت آنية الحلب وتوجّهت إلى طرف المضارب لحلب الغنم وهنا كان محمد يجمع القطيع للحلب فلم يفرّق ما بين الكبش والخرفان الصغار ،ظناً منه انها تُحلب جميعاً فتصبّب عرقاً وخلع عنه ملابس الرعي، وبان طوله الممشوق ويُقال إنّ الجارية، وكانت جميلة جداً ، حينما جلست تريد حلب الغنم وقعت عينها على محمد أغا ومن حسن جماله وبهاء منظرة لم تحلب نقطة حليب واحدة داخل الانيه ،بل سال على الأرض حتى ابتلّ ثوبها.
أما محمد وهو الذي يتحيّن الفرصة لرؤية فتاته، وقعت عيناه على تلك الفتاة فطار عقله هوساً من جمالها وقوة شخصيتها وبقي يعاني ثلاث ليالي في البرية دون أن يتجرّأ ،ويسأل الرعيان عن تلك الفتاة الجميلة وابنة من ظناً منه أنها فاطمة، أما الجارية فكانت تجهّز له ألذّ الطعام وتنتظر ساعة الحلب بفارغ الصبر لتشبع ظمأها برؤية محمد أغا . ولم يرَ أهل البيت نقطة حليب طيلة هذه الأيام الثلاث لأنها لم تكن تشيح بنظرها عنه وهي تحلب . وغاب عنها النوم وهي تفكّر براعي صالح اغا، وتتفحص في مخيلتها جسده الممشوق وشموخ شخصيته. قائلة في سرها إنه لا يشبه أبدا الرعاة، وكانت فاطمة تشرف على عملية وضع الحليب في القربة (meşk)، لتصنع منه الجبن والزبدة، واحتارت في أمر جاريتها، لأنها لم توصل نقطة حليب إلى المنزل منذ يومين، فسألت الجارية واسمها ناريمان: أين الحليب يا ناريمان؟
فوقعت في حرجٍ كبير، ثم ما لبثت أن اعترفت للخاتون أنها قد وقعت فريسة إعجاب بالراعي، ولم تعد تطيق متى يبزغ الفجر حتى تذهب إلى الحلب لتراه ،وهنا قالت فاطمة لناريمان: سوف أذهب معك غداً إلى المرعى، وإذا كنت تكذبين ستنالين العقاب الذي تستحقّين.
وفي اليوم التالي جهّزت نفسها ولبست ثوبها الأميري وتقلّدت وشاحها الملكي، وتوجّهت إلى طرف المرعى لتحلب الغنم بنفسها. ورأت محمد كيف يجلب الكبش للحلب ، فابتسمت من طرف شفتيها قائلة في سرها ( لم أرَ في حياتي راعياً يجلب الكبش للحلب) . فصاحت بنت صالح أغا بصوتٍ ملؤه الاستغراب والإعجاب والحرقة مخاطبةً محمد :أيها الضيف الغريب، والله لا تستحقّ أن أقول لك أيها الراعي، فقسماً قدماك ليست قدمي حذاء وجوارب الرعي، كتفاك ليسا لحمل اللباد وأمتعت الرعي يداك ليس لحمل النبوت (cnih) وعصى الرعي، فهلا أخبرتني ما الذي دفعك لتغامر بحياتك لتكون راعياً لوالدي، أيها الضيف.
فردّ محمد أيتها الملاك المنزل من السماء أيتها القبرة الجميلة، حبك هو الذي جعل سيف والدك الذي سلّ من غمده ربيعي وقطعت القفار والوديان لأصل إليك وأطفئ نار حبي بالزواج منك .
وهنا قالوا أعجبت فاطمة صالح أغا بتفانيه لبلوغ حبيبتهودخل حبه قلبها وأحبّته حباً عظيماً وقام محمد بيك بطلب يدها من والدها ووافق الأغا على الزواج لأنه أعجب بهذا الفتى الشجاع الذي تحدّى الصعاب من أجل ابنته وأقيم عرساً عظيماً لمدة سبعة أيام بلياليها لتنتهي قصة محمد وفاطمه صالح أغا بدوام حبهما إلى الأبد.[1]