الطواحين المائية
وليد حاج عبد القادر
2 من 2
استكمالاً لِما ورد في القسم الأول لهذا العرض والمنشور بجريدة يكيتي عدد شهر آذار الماضي ، حول طواحين الماء ودورها في السياق التاريخي ، كواحدةٍ من أهمّ عوامل الاستقرار ومن ثم التوجّه لبناء القرى والتجمّعات السكنية ، والتي تركّزت على ضفاف ومحيط السواقي والجداول المائية والينابيع الجارية ، والتي عُدّت عاملاً رئيسياً في اختيار المواقع ، كون الماء هو العنصر الحيوي الأهمّ لاستمرار الحياة ، ودائماً كان عامل سلاسة الحصول عليه وبشكلٍ شبه دائم من الأولويات ، كضمانٍ أساس ومساهمٍ في دعمٍ لبقاء مستدام من جهة ، وكعامل أساس في بناء وتطوير التجمعات ، وفي واقع مناطقنا الكُردية و ( كأنموذجٍ خاص منطقتي ديريك وعفرين ) ، يمكننا الاستدلال – كمثال – في غالبية تجمعات بوطان الإقليم – سنلاحظ أنّ خط الاستقرار الدائم منه وشبه المستقرّ، وبما فيه المتنقّل ( الكوجر ) بقيت محطاتها تلتفّ وتتحوّط في الغالب على حزم سواقٍ ومجاري نهرية سواءً منها السواقي ( جم ) الصغيرة ولكن دائمة الجريان ( سفان ) ، أو أنهار رئيسة مثل ( دجلة ) ، هذه المجاري النهرية التي استُخدِمت للسقاية والتنقل وما شابه ، وأيضاً بُنِيت على ضفافها سلسلة من التجمعات السكنية البشرية التي سهّلت ووفّرت لها كلّ إمكانات دعم الإستقرار السكني .
وعود على بدء ، وفي وقفةٍ مع الذات والمشاهدات العينية ، والتي تمتدّ لأكثر من نصف قرنٍ ، إضافةً إلى السرديات الشفهية المتناقلة عن سلسلة الطواحين المائية التي طوّقت بوطان المدينة ومحيطها ، وبالأخصّ تلك السلسلة المتتالية التي غطّت جنوبها ، حتى قبل تطبيق اتفاق سايكس بيكو ، حيث نشاهد في القرى التابعة لمنطقة ديريك مثلاً طواحين عديدة تكاد أن تكون متقاربة من حيث المسافة مثل :
– طاحونة – بركي – والتي تقع جنوب القرية والتي كانت تستفيد من -جمي قسر ديبي –
– طاحونة – بره بيظا – : ويُعتقد بأنها الأقدم وتجاور الكنيسة القديمة جداً في المنطقة وهي تتغذّى أيضاً – على ما أعتقد – من جم قسر ديب- طاحونة – بانه قسر – : وتقع في جنوب بانه قسر على جم باجريق .
– طاحونة كاساني ..
– طاحونة ديرشوي – في ديريك : كانت تقع في شمال غرب ديريك على جمّها – – طاحونة زغات على جمّ زغات
– طاحونة موزلان على نهر سفان .
وكذلك سلسلة من الطواحين المبنية كانت على خط نهر سفان ، ويؤكّد المعمّرون على أنّ هذه الطواحين بُنيت منذ أكثر من قرنٍ ، وتكاد أن تتشابه في هيكليتها البنائية وطرازها كما هندستها وطريقة عملها ومجرى الدفع المائي ، لا بل حتى في توزيع الغرف والإسطبلات وكذلك مجاري جلب الماء وصرفها ، وفي ميكانيكية العمل وتطبيقاته ، وفي دردشة أواخر تموز عام 1980 مع الراحل ملا أمين حاجي زاكر الجزيري والمتوفّى سنة 1992 ( والذي كان تلميذا ومن ثم نائباً لمفتي بوطان وعالمها المشهور وواحد من أشهر الكتاب في مجلة شمس كُردستان الملا شمس الدين الزفنكي ) ، حيث ذكر – ملا أمين – اثناء جولةٍ لي معه في محيط قلعة بوطان ، ووقف فجأةً أمام القسم الأعلى من جدارها وبالضبط عند مآخذ لجرّ المياه من دجلة الى القلعة وكانت مسارب أنابيب للصرف الصحي وأخرى للماء النظيف لاتزال ظاهرةً للعيان ، والتي كانت تخترق الجدار وبطريقةٍ هندسية بارعة ترفع المياه النظيفة إلى المسارب ومنها إلى مواضع في جدار القلعة ومن ثم كانت تتفرّع من الداخل -حسب وصفه – كما شبكات المياه الحالية ، وربطها حاجي زاكر كلّها بإبداعات واختراعات بديع الزمان الجزيري ، واستطرد بأنّ هذه الآلية – تطبيقات الجزيري – كانت من أهمّ عوامل تطور وانتشار الطواحين المائية أيضاً في المنطقة ، ومن وحي إبداعاته كانت هذه الآلية في إيصال الماء بسلاسةٍ الى الأراضي المرتفعة عن منسوب ومجرى المياه ، هذه المعلومات والمشاهد العينية كان لها دور كبير – لي شخصياً – لأعود إلى لحظات (الدهشة الكبرى ) ، وأتذكّر لحظات تأمّلي الطفولي ، وأنا أتأمّل مجرى الماء القادم من – جمّ – ديريك المنخفض نسبياً وهو يتدرّج بسلاسةٍ من الشرق صوب الطاحونة ( شرقي منزلين فقط كانا لعائلتين من الشرابية ) وهي تتّجه نحو الغرب ، وفي جدولٍ منتظم لأكثر من خمسمائة متر ليصل إلى المجرى الحجري المبني على ظهر بناء الطاحونة وتندفع إلى الرحى الفوقي وتخرج بعد أداء دورها من مسربٍ خاص وإلى جدولٍ يسري بذلك الماء إلى الساقية من جديد غرباً وفي الوسط ما بين – كهنيا چنا – و – كهنيا عسكريي – .. ( كما سنرى في الصور المرفقة ) .
وفي تقصٍّ ميداني لتقدير العمر الزمني لغالبية هذه الطواحين المنتشرة في المنطقة ، كان لابدّ لنا من العودة إلى السيد أبو شفان مؤسّس وصاحب متحف ديريك ، والذي أكّد على أنه سمع من الراحل سامي كنو بأنّ عمه الراحل كان يعمل مساعداً للقرّاش في طاحونة ديريك سنة 1929 لأكثر من عشرة سنين ، ويقدّر معمّرون آخرون طواحين برك وبربيظة لأكثر من قرنٍ . *
وفي هذا السياق أيضاً تكاد الطواحين المائية في جيايي كرمينج – عفرين أن تتطابق في منهجة البناء والهندسة وحتى آلية العمل وكذلك السياق الزمني مع مثيلاتها في المنطقة عموماً ، وذكر الزميل رمزي عفريني مشكوراً ( أهمّ الطواحين التي كانت تُدار بالمياه الجارية في منطقة عفرين ) هي :
1 _ طاحونة ميدانكي كانت بجانب نهر عفرين وتُدار بواسطة مياه نهر عفرين أنا رأيتها بعيني قبل أن تطمرها مياه بحيرة سد ميدانكي في عام 2005 م .
حيث كانت تغطّي حاجيات ناحية شران وريفها، عفرين . لطحن كافة أنواع الحبوب .
2 _ طاحونة مستكا . تابعة لناحية شيه ( شيخ الحديد ) . عفرين .كانت تُدار بواسطة مياه نهر وادي شيه وقد رأيت ٱثار الطاحونة منذ عدة سنواتٍ وقد اختفت ٱثارها حالياً ، بعد أن أخذ مواطنو القرى المجاورة حجارتها .
3 _ طاحونة علوش الواقعة على نهر وادي شيه أيضاً ، وقد رأيتها بعيني كانت تُدار بواسطة المياه الجارية لنهر وادي شيه وقد أخذ أهالي القرى المجاورة حجارتها قبل عدة سنوات .
بقي أن ننوّه بأنّ الذهاب الى الطواحين إياها كانت تستغرق عدة أيام وروّادها كانوا يأتونها على شكل قوافل ، وكان هناك فترات فصلية تتوقّف فيها الطاحونة عن طحن الحبوب وتحدّد فترةً مثلاً لطحن – السمسم – أو حتى الجرش ، حيث ينادي منادٍ خاص في التجمعات المحيطة يحدّد الفترة الزمنية تلك .
والصور أدناه تمثّل الهيكلية التي ذكرناها في شكل وطرز البناء :
… * كل الشكر والتقدير للسيد سردار اوسي وزوجته الزميلة ليلى قمر وللصديق رمزي عفريني للجهد الميداني والكم الكبير من الصور والإضافات .[1]