#هوشنك بروكا#
في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد سقوط آخر صنم لديكتاتور العراق الأوحد)، حامي البوابة الشرقية، الفاتح السابق، وحامل راية الله أكبر التي فصّلها على مقاس فتوحاته لبلاد المجوس الأعداء، وبلاد العرب الأشقاء سواءً بسواء، صدام حسين، وبعد أن أصبح العراق الجديد عراقاً مفتوحاً على أكراده كعربه، ازداد الإهتمام العربي والإسلامي، الرسميين بأكرادهم/أكراد الجنوب، الذين ذاقوا الأمرّين من إخوتهم في الوطن الواحد(عربهم)، كما من إخوتهم في الدين الواحد والجهة المكّية الواحدة(مسلميهم)، على امتداد تاريخهم الوعر، وجغرافياتهم الصعبة.
فأكراد ما بعد صدام هم غير أكراد ما قبل سقوط الصنم.
أكراد الآن، أي أكراد العراق الجديد، يشكلّون ضلعاً أساسياً نافذاً، في مثلث الحكم (الشيعة+ الكرد+السنة)، القابض على زمام السلطة في عراق الملك الراهن.
ربما لهذا ولأشياء أخرى كثيرة، لا مجال لحصرها، بات الأكراد الجنوبيون، اليوم، في حسابات أخوتهم العرب والمسلمين، أكراداً آخرين؛ أكراداً يلعبون في حلبات عراق المتن، بدل أن كانوا في عراق أيام زمان(عراق الله أكبر، مثلما أرادها الديكتاتور الأوحد)، أكراداً ملعوبين بهم، في عراق الطالع وعراق النازل؛ في عراق بعث الوحدة التي ما أتت، والحرية التي ما نزلت، والإشتراكية التي ما قامت وما بُعثت.
الأكراد الجدد، يلعبون اليوم مع شركائهم العرب، بشيعتهم وسنتهم، كجزء حقيقي من عراق المتن، وكلاعبين فاعلين، حقيقيين، فيه، لا كملعوبين، أو مفعولين بهم، مدشرين في عراق الهامش.
وهم، فوق هذا وذاك، باتوا من المحسوبين على الشعوب الحليفة، والمتجاورة، لأقوى دولةٍ في العالم، والتي هي أمريكا.
ولولا الجارة أمريكا، الوفية لأكرادها(أكراد الجنوب/ أكراد كردستان العراق)، حتى اللحظة، لما كان الأتراك وجنرالاته قد ترددوا، منذ أن أصبح للأكراد محلاً من الإعراب(حيث الويل والوعيد، بنكهته الطوارنية، يُطلق عنانه في استعراضاتٍ عسكرية وسياسية لا تعد ولا تحصى) للحظةٍ واحدةٍ، من القيام بغزو كردستان واستباحة كل أراضيها، وما فيها، وماعليها.
فالقادة الأتراك(مدنيين وعسكريين)، أعلنوا جهاراً نهاراً، أكثر من مرةٍ(ولا يزالون)، أنهم سيحاربون كردستان، و سوف يطاردونها حتى لو كانت في جنوب إفريقيا، أو في جزر الواق واق. فكيف بكردستان العراق، وهي المرخصة والمدعومة أمريكياً، والواقعة، والقائمة، والمزروعة، في خاصرتها الجنوبية الشرقية، برئيسها وحكومتها وبرلمانها وكل مؤسساتها، التي تمتد، يوماً إثر يوم، عمودياً وأفقياً.
منذ موافقة البرلمان التركي(بأغلبية 507 صوتاً) في السابع عشر من أوكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على مذكرة الترخيص لتركيا العسكرية بحق التدخل العسكري، لسنةٍ كاملةٍ، لأجل مطاردة عناصر العمال الكردستاني، في عمق الأراضي الكردستانية العراقية؛ مذاك تمارس تركيا كافة أشكال التهديد والوعيد، للي عنق العراق وكردستانه، والرضوخ تالياً، للشروط التركية، كاملةً مكملةً، وذلك بجعل العراقيين(أكرادهم قبل عربهم)، جيراناً تحت الطلب، تماماً مثل لعبت اللعبة ذاتها، مع سوريا وأسدها من قبل.
بالرغم من بكاء رئيس الجمهورية، الكردي، جلال الطالباني على شهدائه الأتراك، الذين فقدوا حياتهم في المواجهات الأولى للجيش التركي مع كَريلا العمال الكردستاني(الذين وصفهم الرئيس بالقتَلة الإرهابيين)، في أورَمار(هكاري)، و بالرغم من محاولة الرئيس أن يكون تركياً أكثر من أتاتورك، وتراجعه(كعادته) في بغداد، وبشهادة الصحفي التركي المعروف حسن جمال، عما قاله في هولير(يُنظر حوار صحيفة ملييت التركية مع جلال الطالباني، 31.10.07)، رغم ذلك يمكن القول، أن تركيا فشلت، للآن، في تحقيق أحد أكبر أهدافها من هذه الحملة الخامسة بعد العشرين على كردستان العراق، ألا وهو استمالة هولير وأكرادها، لمحاربة ومطاردة دولة الجبل العمالية الكردستانية، وذلك لتقتيل الكرد بالكرد، وكردستان الشمال بكردستان الجنوب، وكريلا العمال ببيشمركة كردستان (بيشمركة الإتحاد الوطني+ الديمقراطي الكردستاني).
كل تصريحات رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، حتى هذه الساعة، تؤكد أن الإقتتال الكردي الكردي، هو خط أحمر، وأن زمان حرب الإخوة قد ولّى إلى غير رجعة، وأن كردستان ليست ولن تكون طرفاً في الحرب القادمة، على العمال الكردستاني.
الخط الأحمر الكردي هذا(فيما لو استمر موقف أكراد الجنوب وأكراد الشمال، هكذا أحمراً ثابتاً)، سيشكل علامةً فارقةً، في تاريخ نضال الأكراد، وفي رسم ملامح بعض مستقبلٍ للقضية الكردية، في الكردستانات الأخرى، واكرادها المشتتين، الموزعين بين تركيا وإيران وسوريا.
السيناريو الأرجح والشبه معلن، بعد زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لواشنطن، هو، أن أمريكا ستشارك تركيا، استخباراتياً وعسكرياً، في العبور إلى دولة الجبل، من خلال القصف الجوي والمدفعي لمواقع ال ب ك ك، المتحصنة في جبال قنديل النائية، والأكثر من وعرة، و الخارجة عن سيطرة الإقليم الكردي.
امتناع الرئيس الأمريكي جورج بوش عن الاجابة، على سؤالٍ عن الآثار المحتملة لتوغلٍ تركيٍّ محتمل، ووصفه إياه، بالسؤال الإفتراضي، يؤكد أن التوغل التركي، من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، ووفقاً لحساباتها الخاصة في المنطقة، إن هو إلا توغلٌ افتراضيٌّ، بعيدٌ، لن يقع.
ولم يخفِ بوش قلقه، من أن أي هجوم، قد يزعزع الإستقرار في جزء من العراق، نجا حتى الآن، من معظم العنف الذي يعصف بمناطق أخرى من البلاد. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تعقيد وتوسيع الأزمة في المنطقة. وهذا ما لا تريده امريكا، ولا تتمناه بالطبع.
الواضح، من كلام بوش واستراتيجيته في العراق، هو أن أمريكا لن تقبل من تركيا بعبورٍ، من شأنه أن يزعزع الإستقرار والأمن في جزءٍ من العراق(كردستان)، سلم حتى الآن، مما أصاب أنحاءه الأخرى، من إرهابٍ منظمٍ، وتفخيخٍ، وصناعةٍ للقتل.
الشبه الأكيد، إذن، هو، أن أمريكا ستتعامل مع القضية الكردية، وفقاً لأجندتها الخاصة في المنطقة، بذات الوجه المزدوج، والموقف المزدوج، وكيل الأكراد، من ثم، بمكيالين.
هي ستقف إلى جانب الأكراد الجنوبيين، وسوف تدافع(راهناً على الأقل)، عن كردستانهم ، بإعتبارها كردستاناً صديقاً وحليفاً، وبعض وطنٍ أو عراقٍ حقٍ لأكرادها/ أكراد الله.
وهذا حقٌ يستحقونه الأكراد، بالطبع، في العراق، مثلهم، مثل سائر المكونات العراقية الأخرى، بعد عقودٍ عجافٍ من الكيمياء، والقتل بالجملة، والأنفالات السيئة الصيت.
أما الأكراد الشماليين، في الجهة المقابلة لكردستان الله وأكرادها الأصدقاء الصدوقين، أمريكياً، فسوف تحاربهم واشنطن، مع حليفتها الإستراتيجية الأكيدة، منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان، بإعتبارهم أكراداً أعداءً، أو أكراداً للشيطان.
لا شك، أن للعمال الكردستاني، هو الآخر، أخطاءه وزلاته وسقطاته، كأي حزب أو منظمة أو تيار سياسي آخر، اختار السلاح والجبل، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، طريقاً ليس سهلاً، لبلوغ أهدافه.
من الناحية الرسمية، وحسب العهود والمواثيق المتعارف عليها دولياً، يمكن القول بلاشرعية وجود العمال الكردستاني، ولاقانونية تموقعه في الأراضي العراقية، فيما لو كان هناك، فعلاً، شبه شرعية دولية، أو شبه قانونٍ دوليٍّ، يحكم هذا العالم، على امتداد دوله وشعوبه.
ولكن ذلك لا يبرر، في المقابل، أبداً، شرعية الدعم الأمريكي لتركيا، أو أحقية الإستعداء الغربي/ الأمريكي التركي المشترك لدولة الجبل، بهدف ضرب مواقع الحزب المتحصنة هناك، طالما أنه يطالب علناً، بحلٍّ عادلٍ، لقضيته/قضية أكراده الشماليين، في إطار تركيا واحدة موحدة، لكل شعوبها ومكوناتها الإثنية والقومية واللغوية، وبإشرافٍ مباشرٍ من أمريكا وكل المعنيين، المحتكرين لالشرعية الدولية، الضائعة أصلاً، بين شرائع الأقوياء.
العمال الكردستاني، بكل حسناته وسيئاته، نجاحاته وإخفاقاته، صعوداته ونزولاته، مطالباته وتنازلاته، لايزال الممثل الأقوى والأجدر، في الواقع وعلى الأرض(على الجبهتين السياسية والعسكرية، وفي داخل تركيا وخارجها)، لشعبٍ مهمشٍ، بملايينه الكثيرة(حوالي 20 مليون كردي نكرة في الدستور التركي)، ومحرومٍ من أبسط حقوقه القومية، والثقافية، المشروعة، والمنصوصة عليها في صكوكٍ أمميةٍ، وقعّت عليها كلٌ من أمريكا وتركيا وأخواتهما الأخريات، المناديات بحقوق الحيوان، أسوةً بأخيه الإنسان.
في آخر تصريحٍ له(04.11.07)، وعلى خلفية الإفراج عن الجنود الأسرى الأتراك الثمانية، قال المسؤول والقائد الميداني الأول للعمال الكردستاني مراد قَره يلان، مخاطباً الرأي العام العالمي، وتركيا والغرب وعلى رأسه أمريكا، ما معناه: لسنا طلاب حرب، بل طلاب سلام...نحن لا نطالب بالمستحيل، بل نطالب بحقوقنا المشروعة، وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان، وفي إطار الشرعية الأممية...نحن لا نريد الإنفصال عن تركيا، وأنما نطالب بالعيش كأكراد، جنباً إلى جنب، معها...نحن نريد تركيا واحدة موحدة، تعترف بهويتنا الخاصة التي خُلقنا بها...نريد العيش مع تركيا، ولكن بلغتنا وثقافتنا، أسوةً بأتراكها... نحن نريد السلام ونسعى إليه، ومستعدون للجلوس مع تركيا والتفاوض معها.. مشروعنا واضحٌ، وجداً بسيط...نحن لا نريد أكثر من حقوقنا التي تقرّه الشرعية الدولية، وبإشرافٍ مباشرٍ من المجتمع الدولي...فلتقدم تركيا أيضاً مشروعها. أو لتتدخل أمريكا، أو أية جهة أخرى معنية، وتقدم خارطة طريقٍ، نتفاوض عليها...وسوف نلتزم بكل ما يقرره المجتمع الدولي، من حلولٍ، تمنحنا حقوقنا المسلوبة...نحن جاهزون لإلقاء سلاحنا مقابل نيل حقوقنا، ضمن تركيا واحدة ديمقراطية، وفي أوروبا هناك أكثر من نموذج اتحادي، اختياري، للدولة الديمقراطية، يمكننا اقتداءه ...ومبادرة إفراجنا عن الجنود الأسرى الأتراك الثمانية، هي رسالتنا المفتوحة، إلى كل العالم، بأننا طلاب حقٍ وسلام، لا طلاب أباطيلٍ وحروب.
الرسالة، واضحة، لا أغوار، لا طلاسم، ولا لبسَ فيها: أين الإرهاب، وأين التهديد بالإنفصال والإنسلاخ من تركيا، وأين التشدد والتزمت، وأين التعطش للموت والقتل، وأين الشر والنزعة العدوانية لتركيا وأتراكها ، وأين الباطل، وأين الخطأ، في هذه الرسالة.
هم، لا يطالبون بأكثر من حقوقهم، التي نصت عليها معاهدات الشرعية الدولية.
والسؤال المطروح، ههنا، هو، لماذا وكيف يكون هؤلاء الأكراد/ أكراد الجبل، في نظر أمريكا، أكراداً أعداء، فيما أخوانهم في السهل، يكونون أكراداً أصدقاء؟
كيف يكون الكردي الصديق، أمريكياً، في العراق، كردياً مدنياً، فيما شقيقه الذي يحق له ذات الحق، وذات كردستان، في تركيا، يكون عدواً، ووحشياً وإرهابياً؟
كيف يكون الأكراد، هنا، المتجاورين لأمريكا، أكراداً لله، فيما هم أنفسهم، يكونون هناك، أكراداً للشيطان وإلى الشيطان؟
والحال، ماذا يمكن أن يُنتظر من العمال الكردستاني، وجمهوره الواسع بملايينه الكثيرة، إذ تعلنه أمريكا إرهابياً وعدواً لها، أسوةً بحليفتها اللامدنية تركيا، المسجلة، وبالخط العريض، في الدستور، بإسم العنصر التركي فقط، والتي تقول سعيدٌ من يقول أنه تركي، والتركي يساوي العالم؟!
مناسبة هذا العبور الوشيك(جوياً)، كانت، بحق، فرصةً ذهبيةً، لتركيا أردوغان وأكرادها على السواء، للخروج من أزمة العمال الكردستاني، الذي أعلن الحرب على التعنت التركي المتمثل بسلاطين تركيا الأتاتوركية الرافضة للوجود الكردي، جملةً وتفصيلاً، منذ حوالي 23 سنةٍ مضت(15 أغسطس/آب 1984).
ولكن الظاهر، هو أن حكومة أردوغان، على مستوى الإعتراف الدستوري بالحقوق الكردية، لا تختلف عن سابقاتها من الحكومات الرافضات، لأي وجود قومي، أو إثني يُذكر، خارج الوجود القوموي، العصبوي، الأتاتوركي.
الفرق، بين هذه وتلك، وبين أردوغان وأولئك، هو الصلاة الطويلة، والحجاب ومشتقاتهما، وتوابعهما.
بات شبه أكيداً، أن دولة الجبل في قنديل، ستشهد في القادم من الزمان(الأرجح قبل حلول فصل الشتاء)، ضرباتٍ أمريكيةٍ تركيةٍ(جوية+مدفعية)، مشتركة.
ولكن المؤكد في المقابل أيضاً(على ما يبدو من باطن تصريحات قادة العمال الكردستاني الميدانيين)، هو، أن العمق التركي المتوتر أصلاً، سوف لن يسلم هو الآخر أيضاً، من كارثية الحرب القادمة.
الأرجح(والأخطر أيضاً)، هو أن الحرب ستنتقل هذه المرة، إلى المدن التركية الكبرى، وسوف يشهد الداخل التركي، ضرباً أو عنفاً مضاداً.
فاتورة الحرب القادمة، فيما لو احتدمت، واشتد أوارها، ستكون باهظةً على الجميع، من منطلق أن ليس هناك من رابحٍ في الحرب، ولكن المتوقع، هو، أن تركيا(التركيَتين المدنية والعسكرية، سواءً بسواء) ستكون الخاسر الأكبر، فيها.
والسببُ، بسيطٌ جداً، وهو، لأن الدولة التركية، ثابتةٌ، فيما العمال الكردستاني المتحرك، بإمتياز، يدير دولةً متحركةً، وجمهوراً متحركاً، وحرباً متحركة، في داخلٍ وخارجٍ، تركيّين متحركَين، متنقلَين، متحوّلَين.[1]