الملا الجزري شيخ العاشقين .. حياته
عبد السلام داري
في جزيرة بوطان معقل العلم والأدب والثقافة ، ولد ونشأ الشاعر والعاشق الملا أحمد الجزري ، حيث كان علاَمة في العلوم الدينية والكونية ، كما رسم لنفسه ملامح معتقده واتخذ مذهب وحدة الوجود عقيدة له . وارتقى سلم العشق الإلهي بفكره ووجدانه ، وكفاه فخراً أن يلقب بشيخ العاشقين وسلطان الحب الإلهي في التصوف الإسلامي .
اسمه أحمد بن الشيخ محمد ، ولقبه الملا الجزري ،نسبة إلى جزيرة بوتان ، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ حياته ، ولكن ما اعتقد أنه أقرب إلى الحقيقة هو أنه ولد عام 1407م ، وتوفي بعد عمر ناهز 75عاماً .
وهو من عشيرة البختية المنتشرة في بلدة الجزيرة وأطرافها .
درس العلوم الدينية في بعض المدارس الأهلية ، وطاف أنحاء كردستان حتى أتم دراسته على يد بعض العلماء ،
وحصل على إجازته العلمية بجدارة .
اشتغل بعدها بالتدريس في بعض المدارس الأهلية ، ثم مدرساً بالمدرسة الحمراء. التي دفن بها بعد وفاته .
– يعتبر الملا الجزري من فحول الشعراء الكرد،وقد امتلك موهبة شعرية فائقة ،وتدخلت عوامل عدة في صقل موهبته تلك منها :
1- كان يتقن اللغة العربية ، بجانب لغته الكردية ، بالإضافة إلى اللغتين الفارسية والتركية أيضاً .
2- كان ضليعاً في سائر العلوم التي كانت تدرس في تلك الأزمنة ،من أصولٍ وفقهٍ ، وحديثٍ ونحوٍ ،
وفلسفةٍ ورياضيات ، وتنجيمٍ وغير ذلك .
يدل على ذلك ما تناوله في قصائده من مباحث تلك العلوم
3- اطلاعه على الدواوين الشعرية لكبار الشعراء الفرس ، أمثال الحافظ الشيرازي وسعدي والجامي وغيرهم .
4- أنه من جزيرة بوتان , ولهجة بوتان بفصاحتها عند الأكراد تعادل لهجة قريش بالنسبة للعرب .
5- كونه أصبح عاشقاً ,وذاق مرارة الهوى , فهو يعد بحق رائد الحب الإلهي في الشعر الكردي .
6- هو الأب الروحي للشعر الكردي . كونه أول” من أدخل الأصول والقواعد التقليدية الشعرية العربية والفارسية إلى الشعر الكردي .” ( 1 )
هذا هو الجزري الذي أثبت أنه شاعر فريد باسلوبه الشعري ، وبتناوله لموضوع الحب الالهي . فأبدع فيها وأصبح مثالا للمتفانين في العشق ، فكان شعره آية في البلاغة ، ومرآة لثقافته الواسعة التي جعلته يعتلي قمة الهرم في الشعر الكردي .
عشقه بين الحقيقة والمجاز
يذكر البعض أن الملا الجزري عشق سلمى ابنة حاكم ( حسن كيف ). وهام بها حتى وصل إلى درجة الجنون وكان يراسلها بالبريد, وقال في ذلك :
( بالدعا بلغ تحياتي لسلمى يا بريد )
وليس غريباً أن يكون حبه بادىء ذي مجازياً ,ثم تطور عشقه بعد ذلك وأخذته جذبة إلهية , ونفحة صوفية حتى وصل إلى درجة من العشق الإلهي .
وتأكيداً على ذلك يمكن ايراد هذا البيت من شعره :
* لامعا حسن وجمالى دى زعلمى بيته عين
عشقى دا زى هلبتن كي دي حقيقت بى مجاز
“إن لمعان وضياء الحسن والجمال لابد أن يخرج من طور كونه أمراً وجدانياً معنوياً ويصل إلى طور المشاهدة البصريةحتى تشتعل نار المحبة والعشق “
إذاً فلا محالة من وجود محبوب صوري مجازي,حتى يكون مطية للوصول إلى المحبوب الحقيقي .فالعشق المجازي جسر للوصول إلى العشق الحقيقي .
لكن الجزري كان لديه إستعداداً فطريا ًللتصوف بصرف النظر عن هذا الحب المادي :
* منت زخدايى كوبعبدِ خو ملايى
اكسيرِغمِ عشق نه دينار ودرم دا
“فشكراً لله لأنه رزقني العشق, ولم يجعل حظي متاع الدنيا “
ولبيان أثر هذه العلاقة بين العشق الحقيقي والعشق المجازي ,نرى أن الصوفية كانوا في مجالس وعظهم ,يضربون الأمثال بالمحبين الذين تفانوا في الهيام بمن أحبوا من حسان الخلق ,اتعاظا ًبهم وحثاً للسالكين على بذل
مجهود أكثر مما يبذلون .مثال مجنون ليلى ,شيخ صنعاني ………….الخ . وقد سار الجزري على نهج هؤلاء يقول :
* مَيْ نَه نوشي شيخِ صنعاني غَلطْ
أوْ نَه جُو نيفْ أرمنستاني غلَطْ
“ان الشيخ الصنعاني لم يشرب الخمرة خطاً ,ولم يذهب إلى بلاد الأرمن غلطاً “
إذاً لا بد من المجاهدة بغية الإتصال بتلك الحبيبة .
وفي نفس السياق أيضاً يقول :
* سَطوتَا لَيْلىِ يقين مجنونْ تَباند
وَرْ نَه قيسْ ناكت بَياباني غَلط
“إن سطوة ليلى قد أوقعت مجنون في ورطة , وإلا فما كان قيس يهيم على وجهه في الصحراء غلطاً “
والحاصل:إن المحب الالهي لكي يكون محباً صادق الحب , خليقا بأن يظفر من محبوبه الحقيقي بمتعة الوصل وبهجة القرب،لابدله أن يقدم بين يدي حبه طائفة من الرياضات والمجاهدات , وأن تختلف على نفسه جملة من الأحوال والمقامات …..وبذلك يصل إلى المحبة الحقيقية . على حد تعبير معروف زريق في كتابه “ابن الفارض عميد الحب الإلهي في التصوف الإسلامي ”
مدارس الجزري
لكل شخصية من النوابغ مدارس تعلم فيها , وأساتذة صقلوا مواهبه ،ووجهوا سلوكه بأساليب التربية والتعليم . وكان لابد لنا ونحن بصدد دراسة شخصية الملا الجزري ، من ذكر المدارس التي تلقى فيها العلم والتربية ، حتى نستوعب كيفية وصوله إلى هذه المرتبة العالية في الأدب .
حيث لعبت هذه المدارس دوراً كبيراً في شخصية الجزري . بإبرازه كشاعر متصوف خلد ذكره على مر الزمن ومن أبرز مدارس الجزري :بيئته المنزلية ،وخلوته في المقبرة ، ورحلاته من أجل العلم .
1- بيئته المنزلية :نشأ الجزري في بيت علم ودين ، وقد درس على والده الشيخ محمد ،ولا شك أن لوالده الأثر الأعظم في توجيهه وتثقيفه . وزرع في نفسه حب العلم والعبادة .
2- خلوته في المقبرة : كان الجزري يذهب إلى مقبرة الجزيرة ، للانفراد والتأمل والعزلة عن الناس وهذا تقليد صوفي درج عليه المتصوفة ، ليعيش حياة روحية خالصة ،وينصرف عن الدنيا , ويقبل على عالم الروح .
3- رحلاته من أجل العلم :يذكر أحمد الزفنكي في كتابه” العقد الجوهري ” نقلاً عن عبد القادر بن علي العمادي : أن الملا الجزري درس على والده الشيخ محمد ، وبعد مدة طاف في أنحاء ديار بكر والجزيرة والهكارية والعمادية ، لتحصيل العلوم وكان ذكياً فهيماً في تحصيله، وذا صيت حسن في الإحاطة بفنون العلوم العربية من أصول وبلاغة وبديع . وقد أخذ إجازته العلمية في قرية ( ستراباس ) من حوالي ديار بكر من عالم اسمه الملا طه ،وتوظف إماماً في قرية ( سربا ) في تلك الجهات . وسكن بعاد مدة في بلدة (حسن كيفا ) وأجاز عدداً كبيرا ًمن العلماء .
الخمرة عند الجزري
الخمرة من المواضيع الأساسية التي تناولها الجزري في أشعاره ،
واستغرقت جزءاً كبيراً من ديوانه.
وقد كان الجزري بارعاً في وصف الخمرة ، وما يعتري النفس عند احتساءها من أحوال يغيب فيها المرء عن نفسه .
فحين يجترع المرء الخمرة يتحرر من قيود الجسد ، فيأتي الإلهام الذي
يفيض على النفس في حالة الإشراق الصوفي والتجلي الإلهي .(2)
يقول :
زشهكاسا كو قرقف تى * * * ميا نورين مشرف تى
نشانك دلبرى كفتى * * * زبومن هر سحر خف تى
زوى جامى دنوشم أز * * * سحر لوني لهوشم أز
زعامى لى دبوشم أز * * * بجان هر لى دكوشم أز
كو غالب مست وسكرانم (صباح الخير يا خانم )
وره بيناهيا جهفان * * * ببينم بزن وبالايى
{من تلك الكأس الملوكية والتي صب فيها الخمرة لإسكار العاشقين ،إنها خمرة منورة مباركة ، رأيت فيها علامة تدل على أنها مرسلة من عند الحبيبة .
هذه الخمرة تصل إلي في وقت السحر ، بعيداً عن أعين الرقباء .وإنني أحتسي من تلك الخمرة مداوماً على ذلك في كل سحر ، لذا فأنا غائب عن وعيي وفي غيبوبة دائمة ، ولكنني أخفي حالتي هذه عن العوام خوفا ًمن اتهامي بسلوك طريق الضلالة . ولكن أسعى بروحي للاحتفاظ بتلك الحالة ،لذا فأنا في غالب الأحوال مخمور وسكران ، فصباح الخير يا سيدتي ، تعالي يا قرة عيني لأرى تلك القامة العالية .}
اذاً فهو لا يريد أن يصحو من سكرته ، ليسبح بروحه في عالم اخر ويتسامى عن العالم المادي حتى تنكشف له الحقيقة المطلقة :
بحق رندى خراباتم زديرى فى دمى هاتم
جه هيفي هون دكن إيرو زفي رندى خراباتى
{إنني حقاً سكير الحانات ومدمن عليها ، وإنني الان ات من معبد النصارى ،فأي رجاء لكم من هذا السكير المدمن المتردد على الخمارة.}
مفتخر بتردده على حانة الخمرة ، كيف لاوهو يرى ما لا يراه الاخرون ، ويسمع ما لاتسمعه أذن ، وينطق بعبارات بلاغية مردها الإلهام الإلهي لأنه ارتشف الخمرة منذ الأزل :
ساقي زازل يك دو قدح باده بمن دا
حتى بأبد مست وخمار وتلسم أز
{فالحبيب قد سقاه كأسين من الخمرة منذ الأزل ، وقد ظل منها إلى الأبد سكراناً ضعيفاً غير قادر على التماسك .}
إنها الخمرة الإلهية التي انتشى بها الجزري ، وأصبح أسير الحب الإلهي منذ الأزل .
وقد تتداخل الموضوعات في شعر الجزري فوجود الخمرة تقتضي بالضرورة اقترانها بالجمال ، كما أن الجمال ينتج عنه الحب :
دامه بدستى سرى جاما زرنكى درى
جذبه كها جان ودل بر شوشاندن هما
باده مه نوشي زدست جومه زخوه مامه مست
قطره به بحرى كها بحرى بعين خوما
{إن الحبيبة سقتنا الخمرة بيدها التي تسبب الجاذبية . من تلك الكأس الدرية ، فوصلت تلك الجذبة إلى الروح والقلب وشوشتهما دون سبب ظاهري . }
{شربت الخمرة من يد الحبيبة ، فغبت عن وعيي وشعوري ،ووصلت قطرة وجودي إلى بحر الحقيقة ولكن البحر بقي على حالته لم يتغير بزيادة أو نقصان . }
هنا نرى أن الخمرة والجمال والحب تؤلف نسيجاً مترابطاً حتى وصل بالجزري إلى مقام الفناء .
ويدخل في هذا السياق أيضاً :
مستانه مستان نوشا نوش * * * قرقف دجامان هاته جوش
ما دى بمينت كس لهوش * * * وقتى كوبين دردانه رقص
{ إنهم في حالة سكر شديد بسبب تجرعهم للخمرة بشكل متعاقب ، والخمر الذي يقدم لهم قد فار في الأقداح حتى وصل إلى درجة الغليان من شدة حدته ،فهل يبقى أحد محتفظاً بشعوره حين تأتي حبات الدر إلى حفلة الرقص . }
وقد أسهب الجزري في استعمال هذه الرموز الخمرية للوصول إلى مبتغاه ألا وهو إدراك الحقائق وكشف الأسرار :
مى هاته فنجانا صدف كس دى فخوت ايرو بخف
ساقي بجنك وناي ودف فرفور يا مهتاب دا
{ إن الخمرقد صب في الكأس الصدفي للشاربين ،بالإقتران مع نغمات أصوات الات الطرب من الچنگ والناي والدف ، فهل يقدر أحد في هذه الحالة أن يشرب هذه الخمرة اليوم سراً . }
إن شرب الخمرة وارتياد الحانات وقت السحر، يدل دلالة قاطعة على أن الجزري أراد أن يقول إن الإنسان يكون في أعلى درجات الصفاء الروحي وقت السحر .
وعليه فإن السحر هو الوقت الأنسب للتأمل .
مغبجه يين مى فروش هر سحرى تين سما
باده خوران نوشِ نوش مانه لدورى جما
{ إن أولئك الصبيان الحسان الوجوه الذين يقدمون الخمرة في الحانة ، يأتون راقصين كل سحر لترغيب الشاربين ،وأولئك المدمنون على الخمرة اجتمعوا حولهم يتلذذون بالشراب وبالطرب . }
اذًا لمجالس المنادمة والأنس طقوس معينة وعلى روادها دفع الثمن والتضحية حتى بالنفس :
رمزا دجاما شربتى * * * خف تيته نيفا صحبتى
هرجى كو فنجانى دتى * * * وي جان بنذرو صدقه دا
شمعا وصالى هركشه * * * شوقا شمالى آتشه
خمرا ﭙيالى بى غشه * * * ساقي عجب رنك باده دا
ساقي عجب رنك باده ريت * * * عاشق ز معشوق ف دفيت
فنجان بفنجان داوميت * * * كاما دلى بى جاره دا
{إن الإشارة التي في كأس الشراب تأتي وتصل خفية إلى وسط مجلس الأنس والمنادمة ،وكل من سقته الحبيبة كأسا ًمنها فإنه يهب روحه مقابل الحصول على هذا الكأس .ان شمعة الوصال مضيئة وضياؤها مثل لهيب النار. والخمرة التي في الكأس هي بلا غش وهذا الساقي قد سقى خمرة
بلون عجيب .أي خمرة عجيبة سكبها هذا الساقي ،إن هذا هو مراد العاشق من المعشوق .وسقاه كأساً تلو الآخر فمص ذلك بشفته وهكذا وصل القلب إلى مبتغاه .}
كان الجزري يحاول جاهداً تفسير طبيعة هذه الخمرة التي تسبب كل هذا الاضطراب والتشويش في كيانه . فيتملكه الدهشة والحيرة من أمر هذه الخمرة :
يارب جه طرفه ميوه ف رنكى مي دبخشت
شعرا مه تى بريشان نظمامه تى مشوش
ني شكرا شرين قدمه زدست ته مى دفيتن
داسينه بى جلادين روشن بكين دلى رش
حيوان لكو دمينت أم مفتيي زمانن
بيتن زدستي ساقي جاما زلال بى غش
{الهي أي فاكهة طريفة تنتج الخمرة بهذا اللون وبسببها يأتي شعرنا مضطرباً ونظمنا مشوشاً . أيتها الحبيبة التي قامتها كقصب السكر والحلوة القد نطلب أن تسقينا الخمرة من يدك المباركة لأجل أن نطهر بها صدرنا , وننور بها قلبنا من ظلمته وسواده . اذا وصل الكأس الصافي الذي لاغش فيه من يد الساقي فأين يبقى العقل ونحن الذين نفتي في هذه المسائل في زماننا . }
وهكذا نرى أن الجزري مثله مثل بقية المتصوفة قد عبر عن ذوقه برموز خمرية .و استخدم ألفاظ الشعر الخمري (كالكأس والحانة ومجالس الشرب والندمان والسكر………..الخ ) .
وواضح أن معانيه تلامس شغاف القلوب ، كما أن خمرياته لا تفسر إلا تفسيراً باطنياً .لأن خطابه متجه إلى الروح لينطلق الروح إلى فضاء أرحب حيث عالم المثل .
المراجع :
1- العقد الجوهري في شرح الملا الجزري .احمد بن الملا محمد الزفنكي
2- ابن الفارض عميد الحب الإلهي في التصوف الإسلامي . معروف زريق 3- موجز تاريخ الأدب الكردي المعاصر . د . معروف خزنه دار[1]
16 تشرين الثاني 2006/ ولاتي مه