خطة سلام من أجل سوريا (03): مناطق السيطرة واللامركزية والإدارة الدولية
يعد هذا المنظور هو الثالث من نوعه في السلسلة التي يقترح فيها المؤلفون من مؤسسة راند (جيمس دوبّنز ، فيليب غوردون ، جيفيري مارتيني) مجموعة من الخطوات العملية التي تهدف إلى الحد من الاقتتال في سوريا لإنقاذ الأرواح والحد من تدفق اللاجئين لمحاربة الإرهاب والتطرف وتوفير المزيد من الوقت لتنفيذ العملية الانتقالية بنجاح.
ركز المنظور الأول (خطة سلام لأجل سوريا 1) – صدر في كانون الأول/ ديسمبر 2015 – على ضرورة إقامة مناطق آمنة مقترنة بضمانات خارجية لتثبيت آلية وقف إطلاق النار، فيما ركز المنظور الثاني (خطة سلام لأجل سوريا 2) – صدر في حزيران/يونيو 2016 – على أن اللامركزية أصلح نموذج للحكم في سوريا المستقبلية. وفي الوقت الذي تتواصل فيه الجهود لإنهاء الحرب الأهلية السورية، فإن المنظور الثالث (خطة سلام لأجل سوريا 3) – صدر في شباط/فبراير 2017 – أن التطورات الأخيرة في سوريا والمنطقة بما في ذلك اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي رعته روسيا وإيران وتركيا سيعزز الآفاق لوقف إطلاق النار على أساس وطني متفق عليه وهو ما سيفرز مناطق سيطرة تدعمها قوى خارجية، ويقدم المنظور الثالث أيضاً خطة دولية لإدارة محافظة الرقة – معقل داعش.
وبعد ما يزيد على ستة سنوات من الكوارث الإنسانية والاضطرابات الجيوسياسية في سوريا تظهر احتمالات “عزل الأسد” والانتقال إلى حالة “المعارضة المعتدلة” أكثر بعداً من أي وقت مضى. ولكن تبقى هناك أمام الإدارة الجديدة في واشنطن لإحراز تقدم حقيقي في مجال تخفيف حدة الصراع والمساهمة في الوصول إلى حالة من الاستقرار في سوريا، ويتم ذلك عبر التركيز على الحل الواقعي والذي يمكن تحقيقه عبر: الوصول إلى دولة لامركزية في سوريا على أساس المناطق المعتمدة والمتفق عليها من قبل الشركاء الخارجيين.
مناطق السيطرة (Zones of Control) واللامركزية والإدارة الدولية
في المقترحين السابقين الذين سبق وأن أشرنا لهما قدمنا مقترحاتنا بطريقة واقعية لنقل سوريا إلى الأمام، واعتمدنا هناك على خمسة عناصر أساسية هي : تأجيل الانتقال السياسي الشامل ومسألة مصير بشار الأسد حتى الوصول إلى اتفاق أكثر ملائمة و تجميد الصراع في أكثر المناطق المضطربة إن لم يكن كلها، والاتفاق على لا مركزية راديكالية في حكم سوريا وتسييرها، بالإضافة إلى الحصول على ضمانات أمنية من قبل القوى الخارجية التي تشرف على تنفيذ وقف إطلاق النار في المناطق الإقليمية المتفق عليها (agreed regional zones) وأخيراً بدء المفاوضات بين جميع القوى المحلية والإقليمية ذات الصلة بالوضع السوري من أجل الوصول إلى الإصلاح السياسي في نهاية المطاف. 1
والمنطق وراء هذه المقترحات هو الحقيقة التي وصل الجميع إليها، بأنه وبرغم الرغبة الأمريكية الواضحة عبر سياساتها المعلنة في دعم جماعات المعارضة المناهضة لنظام الأسد لإجباره وداعميه الإيرانيين والروس على القبول باستبدال الأسد بحكومة سورية معتدلة أخرى، ثبت أمام الجميع أن هذه الرغبة لا تملك أي فرصة للنجاح تقريباً.
وبات من الواضح أن استمرار دعم المعارضة المناهضة للأسد سيفيد فقط في زيادة التصعيد، ولن يملك سوى تأثير ضئيل على الأرض أو مفاوضات السلام. وفي الوقت نفسه، يظهر أن تدخل الجيش الأمريكي المباشر لا يمثل فقط احتمالاً للدخول في منحدر زلق مع روسيا هناك، بل إنه لا يملك سوى فرص قليلة للنجاح في إنهاء الحرب وإنتاج الاستقرار أو التمكين للمعتدلين في سوريا.
وفي ظل هذه الظروف، وبعد ما يزيد على ستة سنوات من الحرب والكوارث الانسانية وتطرف المتطرفين وزعزعة استقرار الدول المجاورة لسوريا، فإن التوصل إلى تسوية سياسية ناقصة للغاية والتي تنهي الحرب الأهلية على غرار ما اقترحناه سابقاً لا تزال تبدو أفضل بكثير من مجرد الاستمرار في النزاع بهذا الشكل الذي تترتب عليه هذه العواقب، وكما قلنا في مقترحنا الأول فإن أي سلام سيكون أفضل من هذه الحرب.2
ومنذ نشرنا لتلك الورقة قبل أكثر من عام، تغير الوضع الميداني في سوريا كثيراً، لكن المبادئ الأساسية التي قمنا بطرحها لا تزال صالحة – هذا إن لم تكن الآن باتت تحظى بقبول أعلى وفاعلية أكبر لدى الجهات الفاعلة ذات الصلة مقارنة بالقبول الذي حظيت به في المرة الأولى. وبناء على عملنا السابق، فإننا وعبر هذا المنظور نعمل على تحديث مقترحاتنا لإيقاف لهيب الحرب الأهلية المتصاعدة والوصول إلى استقرار سوريا.
ومن خلال تقييمنا للتطورات التي شهدتها سوريا والمنطقة خلال العام الماضي، قمنا بشرح كيف يمكن لهذه التطورات أن تعزز من آفاق المناطق المتفق عليها للسيطرة من قبل القوى الخارجية (agreed zones of control backed by external powers) وأجنبا عن سؤال مهم للغاية هو:” كيف يمكن حكم الأراضي التي يتم انتزاعها من سيطرة داعش” وذلك عبر تقديم خطة إدارة دولية مؤقتة لمحافظة الرقة.
ومع ذلك، تبقى احتمالات الانتقال السياسي الشامل في سوريا فقيرة، لكن هناك فرصة أمام الإدارة الجديدة في واشنطن لإحراز تقدم حقيقي إذا ما عمدت الإدارة إلى التركيز على حل نهائي واقعي وقابل للتحقيق قوامه: دولة سورية لا مركزية تستند على المناطق الإقليمية المتفق عليها والمعترف بها والمدعومة من قبل الشركاء الخارجيين.
تأثير التطورات الأخيرة
تغير الوضع على الأرض وأدوار القوى الخارجية خلال الأشهر الأخيرة بشكل ملحوظ. ولعل التطور الأهم كان في تمكن نظام الأسد من السيطرة على مزيد من الأراضي وضمها لحكمه، ولا سيما سيطرته على مناطق شرق حلب في ديسمبر 2016. وتمثل حلب أهمية رمزية كبيرة كونها ثاني أكبر المدن السورية، وتصدرها كمعقل للمعارضة منذ أن تمكن مقاتلوا المعارضة من السيطرة على أجزاء من المدينة عام 2011.
وبسقوط حلب، حرمت المعارضة من مركز سكاني كبير، ومن “عاصمة” محتملة عدا عن التأثير الكبير الذي ضرب خطوط الإمداد الخاصة بها، إذ أصبح من المستحيل المحافظة على خطوط الإمداد التي كانت تعمل كشريان للحياة للعديد من قوات المعارضة. وبالتالي، فإنه ومع سقوط حلب تم القضاء فعلياً على أي تهديد واقعي يمكن للمعارضة أن تشكله على نظام الأسد وسيطرته على الحكم، وهكذا تمكن الأسد من بسط سيطرته على معظم مناطق غربي سوريا، باستثناء جزء كبير من محافظة إدلب ومناطق ريف دمشق –الغوطة الشرقية وبعض الجيوب المعزولة هنا وهناك. فيما تهيمن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة) على إدلب الآن، في حين تسيطر جماعات أكثر اعتدالاً على معاقل في الجنوب وتحديداً قرب درعا على طول الحدود الأردنية.
واستفاد النظام في تقدمه العسكري على الأرض من القوة الجوية الروسية الضخمة (لعبت دوراً رئيسياً في غزو حلب) بالإضافة إلى القوات بالوكالة المكملة (معظمهم من الكتائب الشيعية الناشطة في سوريا وتضم مقاتلين من إيران والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى). ولم تكن السيطرة على حلب قليلة التكلفة من الناحية الإنسانية، بل جاءت تكلفتها الإنسانية ضخمة للغاية وبشكل غير عادي أظهر النظام وحلفاؤه وحشيتهم المطلقة بشكل يزيد من العوائق التي تواجه أي حد يمكن تصوره لإنهاء الصراع في سوريا.
وفي شمال سوريا، كانت هناك تطورات هامة أخرى، فبدعم كبير من الولايات المتحدة وقوى أخرى تمكنت وحدات حماية الشعب الكردي (YPJ) من تعزيز سيطرتها على مساحات كبيرة من الأراضي على طول الحدود التركية بما في ذلك تجمعات “كنتونات” كوباني في مناطق شمال شرق البلاد و”عفرين” في شمال غرب البلاد.
وبنجاحهم في العمل كشريك أساسي في القتال على الأرض ضد داعش، وامتلاكهم لبعض أكثر القوات الموحدة والفعالة على الأرض تمكن الأكراد السوريون من الحصول على درجة من الاستقلال السياسي التي من غير المرجح أن يتم سلبها منهم في الوقت القريب سواءً من قبل النظام السوري أو تركيا المجاورة والتي مع بعض التبرير ترى في (YPJ) ذراعاً مرتبطاً بحزب العمال الكردستاني الإرهابي (PKK).
في الواقع، وفي شهر أغسطس 2016، تدخلت تركيا مباشرة في سوريا ولكن ليس ضد نظام الأسد بل من أجل منع توحيد المناطق التي يسيطر عليها الأكراد. وفي عملية درع الفرات، شارك المئات من القوات البرية السورية وبدعم من القوات الجوية التركية جنباً إلى جنب مع جماعات المعارضة السنية التي تلقت تدريباً في تركيا، لينجحوا في الاستيلاء على إقليم شمال حلب الممتد من جرابلس على نهر الفرات وصولاً إلى عزاز – تقع على بعد 50 ميلاً الى الغرب (وتمتد بقدر 20 ميلاً إلى الجنوب من منبج).
وخلال تدخلها في سوريا، خاضت القوات التركية معارك ضد داعش وقوات وحدات حماية الشعب الكردي، والتي سعت تركيا لإبعاد نقاط تمركزهم بعيداً عن مناطق شرق الفرات. وهكذا، نجح التدخل التركي في منع توحيد المقاطعات الكردية، لكنه حول أيضاً المقاتلين السوريين السنة بعيداً عن معركتهم مع نظام الأسد ووجههم أكثر نحو الأولويات التركية الناشئة حديثاُ ضد الأكراد وداعش.
وفي الأجزاء الشرقية والجنوبية من البلاد، حقق التحالف الدولي تقدماً جيداً في حملته الأخيرة ضد داعش في الأشهر الأخيرة. وحتى في الفترة التوقف فيها الجهود الرامية لإنهاء الصراع بين النظام والمعارضة، نجح التحالف وعبر قواته البرية – قوات سوريا الديمقراطية وهي عبارة عن مزيج من القوات الكردية والعربية وتهيمن YPG عليها- في استعادة عدد من الأراضي والضغط على داعش في مدينة الرقة التي يتخذها التنظيم كعاصمة له.
وتم بالفعل قطع طريق الإمداد للرقة في ظل الاستعداد لهجوم متوقع ينتظر أن تنفذه قوات سوريا الديمقراطية في أوائل العام الجاري. وفي حال سقطت الرقة فإن هذا من شأنه ان يجعل دير الزور الواجهة الحضرية الوحيدة في المنطقة الشرقية من سوريا والتي تقع تحت سيطرة داعش – يستمر النظام في سيطرته على النصف الغربي المتنازع عليه- ولكن في المقابل، هذا من شأنه إبراز أسئلة جديدة حول هوية حاكم المحافظة “الرقة” فور تحريرها، وهي القضية التي نناقشها هنا.
وإلى جانب هذه التطورات، شهدت سوريا تطورات هامة على الناحية الدبلوماسية طوال فصل الخريف 2016، حيث عملت الولايات المتحدة إلى جانب روسيا وعلى نطاق واسع من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين النظام والمعارضة والذي من شأنه أن يوفر المساعدات الإنسانية للمدنيين. هذا بالإضافة للسماح للنظام بتوجيه ضربات عسكرية مستمرة ضد الجماعات المتطرفة وتنسيق هذه الضربات عن طريق مركز تنفيذ مشترك يعمل به ضباط روس مع مسؤولين أمريكيين.
وسبق أن تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على خطوط التماس في سبتمبر 2016، لكن سرعان ما انهار الاتفاق بعد ادعاءات بتسبب الولايات المتحدة الخطأ 62 جندياً من جنود النظام عبر غارة خاطئة في إحدى المناطق الحدودية، وتبع ذلك أيضاً حالات قصفت فيها روسيا او النظام قوافل مساعدات كانت في طريقها للوصول إلى المواطنين المحاصرين في مناطق شرق حلب.4 اتهم كل طرف الآخر بسوء النية، وانهارت اتفاقات وقف إطلاق النار الواحد تلو الآخر، وهو ما دفع إدارة أوباما للإعلان عن عدم نيتها التعاون مع موسكو لتنظيم أي اتفاق جديد.5
وبحلول نهاية عام 2016، وفي الوقت الذي كانت إدارة أوباما تستعد فيه للخروج من البيت الأبيض، وجدت الولايات المتحدة نفسها بعيدة على هامش الدبلوماسية في سوريا. فروسيا وبالتنسيق مع تركيا وإيران، أخذت زمام المبادرة بشكل متزايد، وباتت الجهات الإقليمية الراعية للمعارضة تتعامل مع موسكو بشكل متزايد.
وفي ديسمبر 2016 أعلنت كل من روسيا وتركيا وإيران اتفاقهم الخاص المتعلق بوقف إطلاق النار – كان شبيهاً لدرجة كبيرة بالاتفاق الذي تفاوضت الولايات المتحدة مع روسيا عليه. لكن هذا الإصدار من الاتفاق نص على أن قوات النظام وعدد من جماعات المعارضة الرئيسية ( بما في ذلك أحرار الشام – مجموعة متطرفة تحظى بصلة وثيقة بجبهة فتح الشام) هذه الجماعات ستوقف العمليات العسكرية ضد بعضها البعض، فيما يمكن لجميع الأطراف أن تستمر في استهداف الجماعات المتطرفة كداعش وجبهة فتح الشام.6
وتم مناقشة آليات وقف إطلاق النار وتنفيذ هذا المقترح في أستانا، عاصمة كازخستان حيث اجتمعت نفس القوى الخارجية مع نظام الأسد وممثلين عن المعارضة السورية في يناير من عام20177 وأياً كان المصير النهائي لهذا الجهد، فإن اهم ضربة دبلوماسية في هذا الصدد كان عدم مشاركة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى عمل تركيا بشكل وثيق مع اثنين ممن كانوا أبرز منافسيها في سوريا.
كيف تحسنت آمال وقف التصعيد
تمثل هذه التطورات انعكاسات هامة بالنسبة لمستقبل الصراع، وبينما لا يوجد شيء دون تكلفة أو تعقيد في الوضع الطبيعي، يمكننا القول أن سوريا لم تملك أبداً أي إجابات سهلة، ولكننا نقول أن هناك آفاقاً مشجعة لوقف تصاعد الحرب وتحقيق اللامركزية في البلاد.
فأولاً، بات من الواضح الآن أن لا في المدى القريب لإزالة الأسد، سواء عن طريق المفاوضات او القوة العسكرية، وليتأكد من ذلك، سيستمر النظام في مواجهة جيوب المعارضة في المناطق الغربية حتى وإن لم يكن قادراً على تعويض النقص الخطير والحاد في القوى العاملة وهو ما يزيد من اعتماده على الدعم الخارجي.
وعلى الرغم من نقاط الضعف هذه، بات من الواضح الآن أكثر من أي وقت مضى أنه حتى لو تم توفير المزيد من الأسلحة المتطورة للمعارضة ( بما في ذلك الصواريخ المضادة للطائرات التي سبق للكونغرس أن وافق على توريدها للمعارضة في ديسمبر 2016) لن تتسبب في إحداث تكاليف على النظام أو رعاته تجبره على التخلي عن السلطة أو حتى تقاسمها. وعلى مدار السنوات الماضية، رآى أنصار المعارضة العسكرية أن المبالغة في هذا النهج سيكون ضرورياً لإجبار الأسد على قبول التحول السياسي (الذي كان ينظر له الأسد وكثير من أنصاره على اعتبار أنه تهديداً لحكمهم وحياتهم ولمكانة جميع مكونات المجتمع السوري غير السنية) والآن، باتت كل هذه الاحتمالات باهتة بشكل كبير. بل إن ما يحدث يمكن النظر إليه على أنه انقلاب كامل على نهج الولايات المتحدة تجاه تحقيق مشاركة واسعة النطاق على الصعيد العسكري والمواجهة العسكرية والسياسية مع روسيا، كل هذا مع الاستعداد لتقديم المزيد من الدعم لجماعات المعارضة بما فيها الإسلاميين والذين يبدو انه غير محتمل الآن في ظل توجهات إدارة ترامب الحالية والتي باتت تقبل على نطاق واسع بقاء الأسد في السلطة في المستقبل المنظور.
ثانياً، يمكن القول إن آفاق وقف إطلاق النار المستدام تطورت في سوريا لأن النظام ورعاته تمكنوا إلى قدر كبير من تحقيق جل أهدافهم الرئيسية. وبطبيعة الحال فإن الأسد يرغب في استعادة السيطرة على كامل البلاد، ولعله يسعى لكسب تأييد روسيا وإيران للقيام بذلك. وهنا لا يجدر بنا التقليل من طموحات الأسد نفسه أو حتى من الضغط المتولد من المقربين منه.
وعلى أي حال، فإن معظم أهداف الأسد الحيوية تمثلت في الحفاظ على السلطة والسيطرة على المراكز الاقتصادية والسكانية الرئيسية على طول العمود الفقري الغربي من سوريا، ويبدو أن الأسد بات قريبا من تحقيق ذلك بعد أن تمت له السيطرة على حلب وغيرها من جيوب المعارضة الباقية – او على وشك السيطرة عليها.
وبشكل واقعي، فإنه ومن دون كميات هائلة من الدعم الإضافة من الخارج – والتي من غير المتوقع ان تصل للمعارضة- فإن النظام سيتمكن من إخماد جيوب المقاومة خارج دمشق وحمص وسيتمكن أيضاً من احتواء المتطرفين في محافظة إدلب.
وهذا يعني أن النظام سيعاني من نقص في القوى البشرية والموارد اللازمة لتحدي الأكراد او الأتراك في الشمال والشرق أو حتى المعارضة في معاقلها بالجنوب. ولعل حاجة النظام للانسحاب من مدينة تدمر خلال مراحل متقدمة من الهجوم النهائي على حلب، أظهر صعوبة سيطرة وإدارة النظام لجميع الأراضي التي تخضع لسيطرته. والأهم من ذلك في هذا الصدد، أن الدول الراعية للنظام السوري تمكنت من تحقيق أهدافها الأولية إلى حد كبير.
فبالنسبة لروسيا فقد كانت أهدافها الرئيسية متمثلة في منع تغيير النظام (اعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تغيير النظام السوري ينضوي على تهديد لروسيا نفسها) بالإضافة إلى إظهار قدرات الجيش الروسي جنباً إلى جنب مع السلطة السياسية الروسية ومنع المتطرفين السنة من الوصول إلى السلطة في دولة إقليمية مهمة (تنظر روسيا لهم على أنهم تهديد لها). ويمكن القول هنا أن كل هذه الأهداف قد تحققت، دون أن تحتاج روسيا إلى اتخاذ تكلفة أعلى أو الدخول في مهمة محفوفة في المخاطر لمساعدة نظام الأسد في استعادة السيطرة على كامل البلاد.
أما إيران، فإن أهدافها تمثلت في الحفاظ على الجسر البري لوكيلها في المنطقة “حزب الله” ومنع الدول المنافسة لها ذات الأغلبية السنية مثل السعودية وقطر من الحصول على نفوذ متزايد في سوريا، ويمكن القول أن إيران ستظل راضية طالما بقي الأسد في السلطة.8
وأظهرت كل من إيران وروسيا على حد سواء استعدادهم للإنفاق بشكل كبير – لدرجة صدمت الغرب – من أجل تحقيق مصالحهم الأساسية عبر الإبقاء على الأسد في السلطة. لكنهم يبدون موقفاً أقل وضوحاً تجاه استعدادهم لتحمل التكاليف والمخاطر المختلفة المنضوية على حملة الأسد للسيطرة وحكم المناطق التي لا يسيطر عليها حاليا والتي تمثل حيوية أقل لحكمه.
وأخيراً، يمكن القول أن آفاق دحر التصعيد واللامركزية تحسنت بشكل كبير بسبب تراجع خيارات المعارضة وضيقها إلى حد كبير. ففي حين كان هناك أساس معقول للاعتقاد بسقوط الأسد تحت الضغط كما حدث مع الطغاة خلال أحداث الربيع العربي الأخرى -كثير من الخبراء وقادة المعارضة اعتقدوا بذلك، بات هذا الاعتقاد الآن غير فعال. وكانت مطالب المعارضة في تخلي الأسد عن السلطة كجزء من أي اتفاق لإنهاء الحرب مفهومة بكل تأكيد نظراً لجرائمه الكبيرة ضد الشعب السوري، لكنها أصبحت غير واقعة على نحو متزايد بعد انحسار احتمالات الإطاحة به وإصرار إيران وروسيا على منع هزيمته مهما كانت النتائج.
وفي خريف 2016، كانت المعارضة لاتزال تأمل في انتخاب هيلاري كلينتون التي ظنوا أنها ستقوم باتباع استراتيجية أكثر تدخلاً من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في سوريا وبدأوا مطالباتهم بتوفير مناطق حظر طيران ومناطق آمنة في سوريا كذلك، وهو ما كان من شأنه أن يساهم في تحويل الدفة لصالحهم. ولكن وفي ظل التطورات الأخيرة، وبعد سقوط حلب بأيدي النظام، وتخلي تركيا عن مطلبها في تغيير النظام وإعادة تمحورها إلى أولويات أخرى، وتورط المملكة العربية السعودية في اليمن واتخاذها كأولوية أكبر، كل هذا يدفع المعارضة إلى تبني أهداف أكثر واقعية.
ويعتمد منتقدي السياسة الأمريكية في سوريا على أن التدخل العسكري الأمريكي المبكر كان يمكن أن يؤدي إلى إسقاط النظام من البداية أو إجباره على تقاسم السلطة وتحقيق الاستقرار في سوريا في ظل حكومة أكثر اعتدالاً وبالتالي تجنب خسارة العديد من الأرواح وبالطبع منع روسيا و إيران من امتلاك نفوذ أكبر في سوريا.
سيستمر المحللون في مناقشة هذه النقطة إلى حد كبير، لكن المهم الآن هو ما يتعلق بالحقائق الراهنة على أرض الواقع. فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تنهي صراعاً لا يمكن وصف عواقبه الإنسانية والجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية إلا بالكوارث العظيمة.
مقاربة واعدة: منع التصعيد واللامركزية
في وجهات النظر الأوليتين قلنا وإنه نظراً للبدائل فإن الطريقة الواقعية الوحيدة للمضي قدماً في سوريا تنص على تأجيل حسم مسألة مصير الأسد، والتركيز عوضاً عن ذلك على المضي قدماً في تركيز الجهود – الذي ينطوي على جهد داخلي وخارجي – للتفاوض حول وقف إطلاق النار في البلاد وتحديد طبيعة الحكم اللامركزي في سوريا. واعترفنا حينها أن من بين العقبات الرئيسية أمام تطبيق هذا النهج هو حقيقة تفضيل اللاعبين الرئيسيين داخل وخارج سوريا للقتال بدلاً من الاستمرار بالإذعان لحكم الأسد.
وكانت حينها الجغرافيا والديمغرافيا في أجزاء كثيرة من سوريا، بما في ذلك حلب معقدة وتشير إلى أن أي نوع من اللامركزية قد يغدو شبه مستحيل. ولم تظهر المعارضة ولا النظام أي علامات تدل على قرب التوصل إلى “توافق مرض للطرفين” واقترح البعض حينها أن إنهاء الحرب الأهلية واجب فيما رفض آخرون أي تسوية على أمل التوصل إلى أهدافهم المتطرفة في نهاية المطاف.9
وفي أعقاب التطورات المذكورة أعلاه، يمكن القول أن هذه العقبات شهدت تراجعاً بعض الشيء وبات الآن من السهل نجاح خطة اللامركزية في سوريا عبر إنشاء مناطق متفق عليها يمكن أن يتم التحكم بها جزئياً من قبل القوى الخارجية. ونقول هنا “إنشاء” لأننا نرى أن السيناريو الأكثر رجوحاً لن يكون في اجتماع النظام والمعارضة والقوى الخارجية لتوقيع معاهدة سلام مفصلة، بل إنه من المرجح أن يتم فرض مجموعة من الاتفاقات من أعلى لأسفل وفق ما يتم التفاوض عليه بين الدبلوماسيين ووفق التفاهمات المحلية التي توصلت إليها الأطراف على الأرض. وهذا قريب لما حدث في البوسنة في منتصف التسعينات، حيث تم تسهيل عملية السلام من خلال إحداث تغييرات ديمغرافية على أرض الواقع وهو ما تبعه توقيع اتفاق خارجي لتثبيت تلك التغييرات واستنفاذ الأطراف المتحاربة لأدوات القتال بينها.
وخلافاً لما حصل في البوسنة، فإن السلام سوف يظهر في سوريا وفق سلسلة من التفاهمات المحلية والدولية عوضاً عن اتفاق رسمي مفصل.
والوصول إلى تفاهمات من هذا القبيل سيكون ضرورياً، ويمكن القول أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع بين روسيا وتركيا وإيران يصلح كمكان جيد للبدء لكنه غير كاف أبداً. وينتظر أن تتسم الترتيبات الجديدة بفعالية أكبر إذا ما شملت موافقة الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة وشركائها في الخليج وباقي داعمي المعارضة.
ويجب أن تجتمع هذه الدول في أقرب وقت على طاولة المفاوضات من أجل إيجاد ترتيبا توضح المشاركة في وقف إطلاق النار ( بما في ذلك الناحية المثالية للعديد من جماعات المعارضة – يمكن استبعاد جبهة فتح الشام وداعش على اعتبار تصنيفهما الإرهابي وفق الأمم المتحدة ) بالإضافة إلى تحديد الترتيبات اللازمة لتقديم المساعدة الإنسانية والإفراج عن المعتقلين والبدء بعملية الإصلاح السياسي في سوريا.
وهنا لا ينبغي التركيز على المسار الأخير بقدر ما يتم التركيز على خطوات صغيرة على الطريق منها طبيعة تعامل أعضاء المعارضة السورية داخل سوريا والمؤسسات الحكومية فيها وإضفاء الطابع الرسمي على قدر من اللامركزية عبر إصلاح دستوري يمكن أن يبدأ عبر إطلاق مصالحة شاملة وينتهي نحو التعاون في نهاية المطاف. وبشكل عام، ستكون مسائل تثبيت وقف إطلاق النار والاتفاق على مناطق السيطرة صعبة للغاية، لكن يمكن ان تعتمد هذه الخطوات على تفاهمات مع القوى الخارجية التي ستستفيد جميعها من وقف القتال.
كيف يمكن لهذا الترتيب أن يبدو على أرض الواقع؟ هنا الخريطة تشير إلى ما قد ينتج عن الاتفاق (مناطق السيطرة في سوريا).
مناطق سيطرة النظام.
مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية
مناطق سيطرة المعارضة وتركيا.
مناطق مقترحة للإدارة الدولية
ملاحظة بخصوص هذه الخارطة: يجب أن تعامل هذه الخريطة على اعتبار انها انهيار نظري للأراضي الخاضعة لسيطرة كل طرف وهو ما يتضمن احتمال حدوث العديد من التغييرات في النتيجة النهائية. وتشمل هذه المناطق بشكل أكثر تحديداً السيطرة التركية على منبج وسيطرة النظام على الغوطة والجيوب المتنازع عليها في حمص وتدمر. أما بالنسبة لدير الزور، يمكن أن تخضع لسيطرة متكاملة من الإدارة الدولية أو يمكن أن تقع تحت سيطرة النظام. ونظراً لعدم اليقين بشأن هذه النتائج وغيرها فإن هذا المخطط حافظ على الإشارة إلى النتائج المحتملة.
————————————
في المناطق الغربية، سيركز النظام في المقام الأول على ترسيخ حكمه والقضاء على جيوب المقاومة والتعامل مع تهديدات المتطرفين من جبهة فتح الشام في إدلب بالإضافة إلى إعادة بناء المناطق التي دمرتها سنوات الحرب الطويلة. روسيا وإيران من جهتهما تبديان التزامهما بالحفاظ على نظام الأسد ولكن لا يُظهرون أي استعداد لخوض معارك جديدة للسيطرة على المناطق التي لم يسيطر عليها النظام حتى الآن، فيما ستتركز مساعداتهم على إعادة الإعمار والدفاع بدلاً من الاستمرار في العمليات الهجومية.10
ومع أخذ النقص العددي الكبير في القوى العاملة فمن الممكن أن يتجه النظام وحتى المتطرفين في إدلب إلى الالتزام بهدنة غير مستقرة، على الرغم من أن النتيجة الأكثر احتمالاً أن هذه المنطقة وبغض النظر عن الدعم الخارجي الموجه لها ستقع تحت سيطرة النظام في نهاية المطاف.
أما في الشمال، فسيكون الوضع أكثر استقراراً بشكل متراوح وفق لحال خطوط المعارك الحالية. وبعد نجاحها في السيطرة على بعض المناطق لتمنع توحد المحافظات الكردية، يبدو أن تركيا لن تتراجع من تلك المنقطة. وبالتأكيد فإن عبء تسيير هذا الإقليم أقل صعوبة من عبء السيطرة عليه، ومع استمرار الهجمات الإرهابية الكردية في تركيا وارتفاع حدة التوترات فمن الممكن أن تسعى تركيا لتوسيع رقعة الأراضي التي تسيطر عليها. وفي الواقع، فإن منطقة سيطرة تركية تمتد من الباب وصولاً إلى الفرات وتشمل منبج كذلك من المتوقع أن تكون منطقة طبيعية مستقرة أكثر من غيرها.
لكن أنقرة ستكون بلا شك مترددة في محاولة السيطرة على كل المناطق الكردية في شمال سوريا، والتي يمكن أن تكلفها نشر قوات كثيرة وإحياء المزيد من العنف في تركيا. وبنفس همة الأكراد وسعيهم لتوحيد أراضيهم وتحقيق أكبر قدر من الحكم الذاتي والاستقلال السياسي في نهاية المطاف، فإنهم يعلمون أنهم يفتقرون حالياً لوسيلة تضمن دفع تركيا للانسحاب العسكري من المنطقة، هذا عدا عن افتقارهم لوسائل تمكنهم من السيطرة وحكم التجمعات السكانية العربية السنية بشكل قسري.
وفي مقابل مساعدتهم في الاستمرار بتحرير الأراضي من سيطرة داعش، يطمح الأكراد للحصول على المزيد من الدعم السياسي والعسكري من الولايات المتحدة، لكنهم يدركون أنهم لن يحصلوا على اعتراف رسمي أو أي دعم ضد تركيا. وبالتالي، فإن الوضع على الأرض في مناطق شمال سوريا يمكن أن ينتج عنه ثلاثة مناطق سيطرة اثنتين كرديتين مفصولتين وأخرى عربية تدعمها تركيا.11 ويمكن للولايات المتحدة أن تستمر في دعم وكبح جماح الطرفين (التركي والكردي).
أما في الجنوب، فيمكن للمرء أن يتخيل أن يثبت الوضع على الأرض بشكل مماثل لما هو الواقع على الأرض الآن. وخلافاً لما حدث في إدلب، حيث تسيطر الجماعات المتطرفة على الأرض، تنتشر جماعات أكثر اعتدالاً ومدعومة من الغرب على طول الحدود الأردنية. وفي الواقع، فإن هذه الجماعات لم تعد تشكل تهديداً استراتيجياً للنظام، والتي قد يكون لها مصلحة في التصالح مع النظام في إطار وقف إطلاق نار وطني شامل.
ويمكن للولايات المتحدة والدول التي دعمت هذه المجموعات أن تستمر بالقيام بذلك مقابل تعاونها في وقف إطلاق النار واستمرار مقاومتها لداعش. وحتى إذا ما قرر النظام اللجوء إلى خيار استهداف هذا الجيب أو أحد الجيوب الواقعة تحت النفوذ التركي في الشمال، فقد أظهرت محنة الحرب الأهلية هذه أنه من الصعب أو المستحيل حتى القضاء على تجمع متمردين يمكنهم الوصول إلى ملاذات عبر الحدود وهو الشرط الذي يتحقق في مناطق جرابلس ودرعا.12
ولعل التحدي الأكبر للجميع في سوريا أمام اللامركزية سيكون في ما يجب القيام به في الأراضي التي تم انتزاعها من داعش، وفي حين تبدو القوات الكردية والعربية المدعومة من الولايات المتحدة في طريقها للسيطرة على الرقة، تبرز الكثير من الأسئلة حول قدرتها على حكم المدينة. فالسماح للأكراد بحكم الرقة لا يعد خياراً قابلاً للتطبيق على المدى الطويل خاصة وأن المدينة والمحافظة المحيطة بها تحظى بأغلبية عربية سنة وستقاوم الهيمنة الكردية عليها –وهو ما ستقوم به تركيا وبعض حلفاء الولايات المتحدة كذلك. وبالمثل، تبرز مشكلة دعوة النظام للسيطرة على الرقة بعد تحريرها، حيث يمثل الأمر استعداءً لمعظم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عدا عن أن النظام غير قادر على منع عودة داعش للمدينة بشكل فعال.
ولا يمكن وصف القيام بمساعدة قوات سوريا الديمقراطية في السيطرة على الرقة ومن ثم الانسحاب وترك الفصائل ومقاتليها هناك إلا كوصفة جديدة لإعادة إشعال النزاع – الذي سيساهم بلا شك في إحباط جهود السلام في باقي مناطق سوريا وسيساهم بلا شك في عودة ظهور داعش.
وفي الوقت الذي يعتمد استقرار المناطق الأخرى على التفاهمات الضمنية بين اللاعبين الخارجيين، قد تتطلب الرقة تدخلاً دوليا أكثر حزماً وتعاوناً وبحد أدنى يكون على شكل اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا. ولذلك فإننا نوصي بوضع محافظة الرقة بمجرد تحريرها تحت وصاية دولة مؤقتة، وبالتالي خلق منطقة محايدة لا تخضع لسيطرة النظام أو المعارضة في انتظار نتيجة الحرب الأهلية النهائية.
إدارة دولية في محافظة الرقة
يعتمد اقتراحنا هذا على توفير إدارة دولية لمحافظة الرقة بعد طرد داعش منها على أيدي قوات عربية وكردية مختلطة وبدعم جوي من القوات الأمريكية وربما بالتعاون مع روسيا وغيرها من الجهات الدولية الأخرى. وتقتضي الخطة أن يغادر المكون الكردي المدينة بمجرد السيطرة عليها تاركين وراءهم المقاتلين العرب بالإضافة إلى أي ميليشيا إضافية محلية. وسيستمر عدد صغير من الموظفين الأمريكيين في تقديم المشورة والدعم لهذه القوة. على أن تدار المحافظة ومحيطها من قبل الأمم المتحدة والتي ستعمل من خلال مجالس محلية بعد إصلاحها وتجديدها. لاحقاً، سيتم نشر قوة صغيرة من الخوذات الزرقاء التابعة للأمم المتحدة التي ستعمل إلى حد كبير كحماية للمشرفين الدوليين. وسينسق ممثلو الأمم المتحدة بالتعاون مع المجالس المحلية عملية دخول المساعدات الدولية والإنسانية وعوضاً عن قوة السلام التي تقودها الأمم المتحدة ستعمل قوة التحالف بتفويض من الأمم المتحدة والتي من المحتمل أن تنشئها كل من روسيا والولايات المتحدة سوياً.
وتتطلب الإدارة الدولية لمحافظة الرقة الحصول على موافقة مجلس الأمن وبالتالي يتوجب الحصول على الدعم الروسي. وفي حين فشلت كل من الولايات المتحدة وروسيا في الوصول إلى أرضية مشتركة كافية للعمل فيما بينهما، فقد تنجذب موسكو إلى ترتيب قد يساعد في إيصال الصراع إلى نهايته، ومواجهة مقاومة داعش بشكل فعال ومنح روسيا حصتها في التحكم في المنطقة.
مثل هذه الخطوة ستعطي روسيا فرصة للرد على نهج الولايات المتحدة بشكل أقل تصادمية، ويجب على إدارة ترامب التحرك في هذا الاتجاه، عدا عن أن هذه العملية ستوفر فرصة حقيقية لترامب لإثبات نظريته عن إمكان روسيا والولايات المتحدة من التعاون سوياً بشكل أفضل.
ومن المحتمل أن تفضل تركيا وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة الإدارة الدولية على أي بديل آخر في هذه المنطقة بما فيها تواجد الأكراد أو داعش أو حتى النظام. ويمكن ان تكون النتيجة على شكل إنتاج مناطق آمنة في شرق البلاد تضم ثلاثة تجمعات تحت السيطرة الكردية ومحافظة الرقة تحت الإدارة الدولية وجميعها تحظى بدرجة من حماية الولايات المتحدة او حماية دولية أوسع.
ومن شأن هذه المبادرة أن تملك آثاراً رمزية وعملية كثيرة. فالموصل والرقة هما المدن المرتبطة بالمظالم العربية السنية والتي يسعى الجميع إلى استغلالها. والاستثمار في مستقبل الرقة وحمايتها من تكرار الصراع سيكون مسألة حاسمة في حملة مكافحة داعش.
وهناك ايضاً اعتبارات عملية في المسألة. ولأن القوات التي ستشرف على طرد داعش من المدينة ستكون على الأغلب من ميليشيا قوات الدفاع الذاتي وسوريا الديمقراطية فإن تركيا ستحاول منع الوصول إلى أي حالة من الاستقرار في هذه المدينة خوفاً من أن يؤدي هذا التطور إلى تمكين مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بشكل غير مقصود أو مقصود حتى. أما كردستان العراق – التي تملك الحدود الوحيدة التي يمكن تقديم الدعم عبرها- فمن المتوقع أن تكون أكثر استيعاباً لهذا الأمر نظراً لنفوذ تركيا لدى قيادات الأكراد العراقيين والتنافس الحاصل بينهم وبين أكراد سوريا.
ولن تكون أنقره وحدها من تملك مشاكل مع تقديم المساعدات لتحقيق الاستقرار لهياكل الحكم المستقبلي في الرقة. فعلى سبيل المثال، تبدي الولايات المتحدة وشركائها الغربيون استعدادهم لتقديم المساعدة الإنسانية فقط على أساس الحاجة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى المساعدة في استقرار الأوضاع بشكل أكثر صرامة أي أن تملك المحافظة هيكل حكم محلي شامل، وحين تمكن الأكراد من السيطرة على المناطق ذات الأغلبية العربية في سوريا مثل تل أبيض ومنبج لم ينجحوا في إعداد هياكل حكم شاملة. وبدلاً من ذلك استمروا في العمل من خلال المجالس العسكرية المحلية أو من خلال مجالس الأعيان الخاضعة للنفوذ الكردي. وان تركت الرقة تحت السيطرة الكردية فمن المرجح أن تكون عائقاً أمام معظم أشكال المساعدات الدولية المختلفة.
وبكل تأكيد فإن العمل على إنجاز كافة التفاصيل وكسب التأييد الدولي لإدارة دولية مؤقتة في الرقة لن يكون سهلاً ويمكن أن تفشل أيضاً، شأنها شأن كل الجهود السابقة لاستدراج اللاعبين الخارجين معاً نحو خطة جامعة في سوريا. ولكن إن نجحت، ونحن نعتقد أن تضارب المصالح الحالي سيتيح هذا الأمر، فإن محافظة الرقة يمكن أن تمثل جزيرة صغيرة من الحياد لا تتماشى مع النظام أو المعارضة، وستقف بجانب مناطق أخرى سواء تخضع لسيطرة النظام أو المعارضة إلى جانب مناطق أخرى تخضع لمراقبة الأطراف الدولية المعنية وصولاً إلى وقف إطلاق نار وطني شامل، فضلاً عن هذا كله فإنها ستمثل أساساً لزيادة التعاون الدولي في سوريا. وفي نهاية المطاف، ستؤول السيطرة على محافظة الرقة إلى أي حكومة تنتج عن مفاوضات السلام بين النظام والمعارضة غير المتشددة وبدعم دولي طبعاً.
وبمجرد الاتفاق على تفاصيل السيطرة وإدارة الرقة، يتوجب على موسكو وواشنطن مناقشة إمكانية بذل المزيد من الجهود المشتركة لطرد داعش من معقلها الأخير – حينها- في سوريا وهي المحافظة الغنية بالنفط “دير الزور”، والتي يمكن أن توضع تحت رقابة دولية في انتظار الوصول إلى تسوية دولية أوسع في سوريا، ولكن بالنظر إلى وضع النظام موطئ قدم له هناك، فإنه من المرجح أن تسقط هذه المنطقة تحت سيطرة النظام بمجرد دحر داعش منها.
وبالطبع فإن هناك احتمالاً كبيراً أن ترفض الأطراف الرئيسية هذه الخطة او حتى ان تنحى منحاً منحرفاً، فلربما تذهب إيران وروسيا نحو تأييد عملية عسكرية للنظام للسيطرة على الرقة وطرد داعش منها. أما تركيا فقد ترى في نفوذ الأكراد هناك مصدراً للقلق، وقد ترى الولايات المتحدة أن “المهمة أنجزت” ويتركوا الرقة غير محررة أو أن يتركوها للنظام ويتركوا حلفاءهم الأكراد ليدافعوا عن انفسهم. ولكن بغض النظر عن الخطوة التي سيلجأ لها أي طرف، ينبغي على المجتمع الدولي أن يتوخى الحذر في القرارات التي يتم اتخاذها في سوريا التي دمرتها الحرب.
هذا الجانب السلبي بعض الشيء، ولكن لن تخسر الولايات المتحدة شيئاً إذا ما قدمت هذا الاقتراح، وان امتنع اللاعبين الرئيسيين الآخرين عن هذا المقترح، فلن تخسر واشنطن شيئاً وسيكون أمامها مجال مجاني لاستكشاف خيارات أخرى. وفي حال موافقة اللاعبين الرئيسيين على مقترح الإدارة الدولية هذه سيساهم الجميع في إنجاحه، وسيسعى الجميع لمنع وقوع المدينة تحت سيطرة داعش او أي من الجماعات المتشددة.
خاتمة
بعد ستة سنوات من الحرب في سوريا ومقتل أكثر من نصف مليون شخص، وزعزعة استقرار جيران سوريا والتسبب في أكبر أزمة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية وانتشار التطرف الإسلامي في المنطقة وحول العالمي وتكثيف الانقسامات الطائفية والجيوسياسية في المنطقة وجلب القوى الدولية في مواجهة سياسية وعسكرية مباشرة. تبرز مصلحة الولايات المتحدة في إنهاء الصراع الدائر حالياً أكثر من أي مصلحة أو مشروع آخر بما في ذلك إنهاء حكم الأسد أو جلب قادة نظامه إلى المحاكمة ومواجهة العدالة أو حتى الحد من التدخل الروسي والإيراني في المنطقة.
ان الاستمرار في محاولة تحقيق هذه الأهداف دون جدوى يمكن ان يكون الوصف الوحيدة لدمار وصراع أكبر والإصرار على القيام بهم سوف يحمل تكاليف باهظة ويمكن ان يقود إلى مجموعة من العواقب غير المرغوب بها التي لن تقتصر على تصاعد الحرب أو زيادة مأساة اللاجئين ونشر الفوضى بدل الحكم المعتدل في دمشق.
والبديل الذي نقترحه هنا يتمثل في الوصول إلى تفاهم حول وقف إطلاق نار وطني لأجل غير مسمى وظهور سوريا اللامركزية على أساس المناطق المتفق عليها والتي تخضع لسيطرة وتحكم من قبل القوى الخارجية وإيصال المساعدات لإعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية وإطلاق سراح السجناء باتفاق تبادلي والاتفاق على خطة لإدارة دولية لمحافظة الرقة في انتظار اتفاق أوسع نطاقاً يتعلق بالمتطلبات اللازمة للوصول إلى بيئة مستقبلية وسياسية في البلاد تضمن وتوفر خيارات وبدائل واقعية. وعليه فإن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تملك ما تخسره لكنه تملك ما يمكنها السعي لتحقيقه من خلال جهودها.
جيمس دوبّنز: الرئيس الفخري لوحدة الأمن والسياسة في راند، وهو مساعد سابق لوزير الخارجية الامريكي
فيليب غوردون: زميل أقدم في مجلس العلاقات الخارجية، وشرق إفريقيا ومنطقة الخليج (2013-2015). ومساعد لوزير الخارجية للشؤون الاوروبية والأوراسية (2009-2013)
جيفيري مارتيني: محلل للشرق الأوسط في راند وقضى عام 2014 في وزارة الخارجية في لجنة النزاعات وعمليات توطيد الإستقرار.[1]