#جودت هوشيار#
المستشرق الروسى الشهير ميخائيل لازاريف (05-08-1930– 07-03-2010 ) غنى عن التعريف ،. و تعد مؤلفاته الرائدة حول القضية الكردية فى ضؤ العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط (1) من أهم الأسهامات العلمية الأساسية الجادة فى التأريخ الكردى الحديث . و علاوة على ذلك ، نشر خلال نصف قرن من البحث العلمى الدؤوب أكثر من 200 دراسة و مقالا حول الكرد و كردستان ، تتناول شتى جوانب حياة الشعب الكردى السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية و الثقافية
لازاريف أحد رموز الكوردولوجيا الأكثر موضوعية والأوسع علما فى الشأن الكردى فى العصر الحديث ليس فى روسيا فحسب ، بل فى العالم أجمع .
أدرك لازاريف من خلال التحليل المعمق و الأستقراء التأريخى لآلاف الوثائق الرسمية و غير الرسمية حول الكرد و كردستان و القضية الكردية المحفوظة فى الأرشيفات الروسية و البريطانية و غيرها من دول العالم ، مدى الظلم الذى لحق بالشعب الكردى - و بخاصة عند رسم خارطة الشرق الأوسط من قبل الحلفاء ( انجلترا و فرنسا فى المقام الأول ) بعد الحرب العالمية الأولى - و التضحيات السخية التى قدمها هذا الشعب فى سبيل نيل حقوقه المغتصبة.
لم تكن روسيا القيصرية تختلف كثيرا عن بقية الدول الأمبريالية و لم تفكر فى منح رعاياها الكرد ، فى ما وراء القفقاس و آسيا الوسطى الحد الأدنى من حقوقهم السياسية و الثقافية.
أتفاقية سايكس – بيكو( السرية )، بين أنجلترا ا و فرنسا ، أبرمت بموافقة الحكومة القيصرية لقاء حصول الأخيرة على جزء من كردستان الشمالية المتاخمة لحدودها الجنوبية . و قد تم كشف النقاب عن هذه الأتفاقية ، سيئة الصيت و نشر النص الكامل لها ، بعد ثورة أكتوبر فى روسيا فى العام 1917 من قبل الحكومة الثورية الجديدة ، التى أدانت بشدة هذه الصفقة الأمبريالية على حساب الشعوب المضطهدة ، و بادرت السلطة السوفيتية الى تأسيس أقليم كردستان الحمراء (2) و حصل الكرد فى السنوات العشر الأولى بعد الثورة البلشفية على مكاسب اجتماعية و ثقافية مهمة ، حيث تم و ضع أول أبجدية لاتينية متكاملة للغة الكردية و تأسيس المدارس الرسمية ، التى كان التدريس فيها باللغة الكردية ، ربما لأول مرة فى تأريخ الكرد و تأسيس أول معهد كردى لأعداد المعلمين و صدرت أول جريدة كردية فى يرفان فى العام 1927 و هى جريدة ريا تازه و شرعت فرق من المثقفين الكرد بتوثيق التراث الشعبى الكردى و تأسيس أول مسرح كردى و غيرها من الأنجازات التى أشاد بها المثقفون فى كردستان بأجزائها الأربعة و المستشرقون الأجانب كثيرا . ، و لكن ذلك لم يدم طويلا ، و مع بدأ العهد الستالينى الشمولى تم تجريد الكرد من مكاسبهم الأجتماعية و الثقافية تدريجيا و بحلول أوائل الثلاثينات من القرن الماضى لم يتبقى شىء يذكر من تلك المكاسب .
و لم يكتف ستالين بذلك ، بل لجأ الى ترحيل الكرد من مناطقهم الأصلية الى مناطق أخرى صحراوية و جرداء لا تتلائم على الأطلاق مع الأجواءالتى كانوا يعيشون فيها و قضى عدد غير قليل منهم نحبه خلال عملية الترحيل القسرى و جرى نفى و سجن آخرين ، بينهم عميد الأدب الكردى السوفييتى عرب شامو الذى قضى نحو عشرين عاما فى المنفى فى أصقاع سيبيريا المتجمدة الموحشة . و لم تنته هذه التراجيديا الأنسانية الا بعد وفاة ستالين بثلاث سنوات أى بعد التقرير السرى الشهير ألذى ألقاه الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف فى الأجتماع المغلق للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى فى العام 1956، و الذى شجب فيه عبادة الفرد و الجرائم المرتكبة فى العهد الستالينى .
و يرجع الفضل الى نيكيتا خروشوف أيضا فى أعادة الأعتبار الى ضحايا الستالينية و بضمنهم الكرد و فى أحياء الآداب و الفنون الكردية فى مناطق ما وراء القفقاس و آسيا الوسطى ، و قد اطلق الكاتب الروسى ايليا ايرنبورغ على هذه افترة اسم ذوبان الثلوج . و فى ظل أجواء الأنفتاح هذه شهدت ألكوردولوجيا الروسية أنتعاشا واضحا .
و ترجع الى هذه الفترة تحديدا و صول عشرات الطلبة الكرد من كردستان العراق للدراسة فى الجامعات و المعاهد السوفيتية ، و قد لعب هؤلاء بعد تخرجهم و عودتهم الى الوطن دورا بارزا و مشهودا ، كل فى مجال تخصصه ، و بخاصة فى تطوير الدراسات الكردية .
و من الأنصاف القول أن الأهتمام بالكوردولوجيا و القضية الكردية عموما كان جيدا حتى فى عهد ليونيد بريجينيف ، الذى يوصف فترة ولايته بعهد الجمود فى كافة مناحى الحياة السوفيتية .
و لكن بعد تولى ميخائيل غورباتشوف الحكم فى العام 1984 و طوال فترة البريسترويكا ، تم تجاهل ليس القضية الكوردية فقط ، بل حتى مآسى الأنفال و حلبجة و حرق و أبادة الاف القرى الكردية .
بعد تفكك الأتحاد السوفييت و بسبب تضييق الخناق على الكرد فى جمهوريات ما وراء القفقاس و خصوصا فى أرمينيا و جورجيا و أذربيجان أضطر عدد كبير منهم الى ترك مناطقهم الأصلية و اللجؤ الى الأتحاد الروسى و خصوصا الى مدن كراسنودار و موسكو و بطرسبورغ . و فضل عدد من العلماء و المهنيين الكرد الهجرة الى الدول الغربية .أى ان عدد الكرد فى تلك الجمهوريات ، والتى عاشوا فيها منذ مئات السنين ، فى تناقص مستمر.
ولم تشهد الفترة الممتدة من حرب الخليج الثانية و حتى سقوط النظام الصدامى اهتماما كبيرا بالقضية الكردية و تقلص الى حد كبير نشاط أقسام الكوردولوجيا فى معاهد الأستشراق فى روسيا و أرمينيا و جورجيا و أذربيجان .
و قد كان هذا التجاهل للقضية الكردية و تحجيم الكوردولوجيا فى روسيا ، مصدر أستياء للازاريف ، الذى أدرك ، أن هذه السياسة لا تخدم مصالح روسيا العليا ، و أن القضية الكردية قضية محورية فى منطقة الشرق الأوسط ، و لن تشهد هذه المنطقة الساخنة ألأستقرار المنشود ، من دون حل عادل للقضية الكردية . و تجدر الأشارة هنا الى أن لازاريف كان يعتبر القضية الكردية أهم بكثير من القضية الفلسطينية .
لازاريف كان يحث دائما ، صانعى القرار السياسى فى بلاده على الأهتمام بكردستان التى تشغل موقعا ستراتيجيا مهما من وجهة نظر جيوبوليتيكية . و عندما تقرأ بتمعن كتابات هذا العالم الجليل ، تحس ، كيف كان ينتابه القلق على مصير الكوردولوجيا فى روسيا و سياسة روسيا فى الشرق الأوسط ، التى لم يحظ فيها الكرد بالموقع الذى يستحقونه.
فى العام 1993 نشر لازاريف فى جريدة نيسافيسيميا غازيتا مقالا فى غاية الأهمية ، تعبر عن خلاصة ما توصل اليه من أستنتاجات معمقة بعد دراسة القضية الكردية بكل أبعادها طوال أكثر من خمسين عاما . يقول لازاريف :
الغرب يكثف جهوده لحل القضية الكردية و نحن صامتون . روسيا لا تسهم فى السياسة العالمية بقدر تعلق الأمر بهذه القضية . و دعا لازاريف الى عدم نسيان مصالح الدولة الروسية فى الشرق الأوسط و خصوصا الأساسية منها ، على المدى الطويل .و بضمنها و ربما فى مقدمتها فى كردستان الناهضة و اقترح على السلطات الروسية تنفيذ عدد من الأجراءات ذات التكلفة المنخفضة و لكن الواعدة للغاية ، فى سبيل الحفاظ على النفوذ الروسى فى كردستان ،حيث نشط الغرب لأحتلال مكان روسيا حسب رأيه وكان هذا هو المقال الوحيد عن السياسة الروسية ازاء القضية الكردية فى تلك الفترة ، ونرى أن لازاريف أختار الجريدة المذكورة لنشر مقاله لسببين أولهما أنها جريدة يومية وواسعة الأنتشار أوجريدة قومية على حد تعبير الأخوة المصريين . و ثانيهما أنها جريدة و ثيقة الصلة بصانعى القرار السياسى فى روسيا . و مع ذلك فأن المقال لم يحدث التأثير المطلوب ، لأن روسيا كانت تمر بمرحلة أنتقالية قلقة و لم تكن لديها من الحوافز ما يكفى للأهتمام بالقضية الكردية على نحو جاد و مكثف .
و فى مقال آخر له تحت عنوان دروس التأريخ و المهمات الجديدة نشره فى المناخ الكردى (3) فى العام ، 2001 لا حظ بأن الكرد بعيدون حقا عن اهتمامات موسكو . و أضاف قائلا رغم ان روسيا تمر الآن بفترة عصيبة و مأساوية فى تأريخها و لكنها لا يمكنها ان تظل محايدة ازاء الأحداث الجارية فى كردستان . و لكن روسيا ، كما نعلم ، لا تزال تتغاضى عن رؤية تلك الأحداث .
و حول المصالح الروسية فى فترة ما بعد تفكك الأتحاد السوفييتى اشار لازاريف الى ضرورة حل القضية الكردية على اساس منح الشعب الكوردى بأسره ، حقه الطبيعى ، القانونى ، المشروع ، غير القابل للتصرف ، و المعترف به من قبل المجتمع الدولى المعاصر ، فى تقرير المصير و صولا الى تأسيس دولته المستقلة و أكد لازاريف ان هذا الحل يسمح بمعالجة التوتر الدائم القائم فى الشرق الأوسط و وذلك بأزالة أحد أسبابه الرئيسية ، و بالتالى ازالة احد مصادر التهديد الدائم لروسيا . و علاوة على ذلك فأن الأستقلال الكردى ، اذا لم يصبح بعد ، فأنه يجب أن يصبح هدفا ذا اولوية فى سياسة روسيا الشرق اوسطية ، لأن هذا الأستقلال يصب فى مصلحة روسيا الجيوبوليتيكية ، و التى للأسف لم يفهم او يدرك بعد من قبل الجميع و مضى لازاريف يقول ان عدم وجود سياسة روسية خارجية متماسكة فى هذه الفترة الأنتقالية من تأريخها أدى الى التقليل من قيمة وجود قضية كردية مستقلة بالنسبة الى مصالح الدولة الروسية .
المبادىء الأساسية التى يجب أتباعها فى سياسة روسيا الكردية - عندما تصبح روسيا الجديدة قوية و تبدأ فى التمهيد لطريقها المستقل فى كردستان و فى عموم الشرق الأوسط و بقية انحاء العالم هى اولوية حقوق الأنسان و ضرورة ، تدويل القضية الكردية والأعتراف بحق الشعب الكردى فى تقرير المصير و صولا الى أقامة دولة كوردستان المستقلة ، التى تعمل على قدم المساواة مع الدول الأخرى فى منظمة الأمم المتحدة و المنظمات الدولية الأخرى .
فى السابع من شهر آذار 2012مر عامان على رحيل ميخائيل سيميونوفيج لازاريف ، أحد أخلص أصدقاء شعبنا الكردى و أحد أكبر المستشرقين الذين أسدوا خدمات جليلة للكرد و كردستان . و أزعم أننى كنت من أوائل من ادرك أهمية أعمال لازاريف العلمية ، حيث ترجمت كتابه الشهير القضية الكردية 1981- 1917 ترجمة أمينة الى اللغة العربية و نشرتها على شكل حلقات مساسلة فى مجلة شمس كردستان (4) التى كانت تصدر فى بغداد عن جمعية الثقافة الكردية.
و أننى أنتهز هذه الفرصة لأناشد الأكاديمية الكردية بترجمة مؤلفات لازاريف الى اللغة الكردية و نشرها على نطاق واسع .. ربما يقول البعض أن معظم مؤلفات لازاريف قد ترجم الى اللغتين العربية و الكردية فى لبنان و أقليم كردستان ، و هذا صحيح و لكنها كانت ترجمات تلخيصية مبتسرة و غير دقيقة ، خصوصا تلك التى أصدرتها دور النشر اللبنانية لأغراض تجارية .
كما أدعو رئاسة جامعة صلاح الدين و عمادة كلية الآداب فيها الى تسمية احدى قاعاتها بأسم هذا العالم الكبير و أخيرا و ليس آخرا من حق لازاريف علينا أن تقوم بلدية أربيل بتسمية أحد شوارع المدينة بأسم من أفنى عمره فى دراسة قضية شعبنا العادلة و تعريف العالم بها . لقد آن الأوان - و نحن نمتلك اليوم زمام أمورنا – أن لا ننسى من وقف بكل شجاعة مع شعبنا فى أحلك الظروف .
--------------------------------
(1) ان أهم مؤلفات ميخائيل لازاريف حول القضية الكردية هى الآتى :
-- كردستان و القضية الكردية من تسعينات القرن 19- 1917 ، موسكو ، 1964
-- القضية الكردية 1891 – 1917 موسكو ، 1972 و هى طبعة منقحة و موسعة من الكتاب السابق
-- الأمبريالية و القضية الكردية ( 1917 – 1923 ) موسكو ، 1989
كردستان و القضية الكردية (1923 – 1945 ) موسكو ، 2005
(2) كردستان الحمراء و حدة أدارية تأسست بين عامى (1923 – 1929 ) و كانت تقع بين منطقة قره باغ و جمهورية أرمينيا الحاليتين و مدينة لاجين عاصمة لها . و قد تعرضت حدودها الى عدة تغييرات أدارية ، حتى أصبحت فى فترة من الفترات متاخمة للحدود الأيرانية .
(3) المناخ : مطبوع غير دورى يضم مجموعة من النتاجات فى موضوعات متشابهة أو متقاربة لعدد من الكتاب أو الشعراء .
(4) مجلة شمس كردستان العدد المزدوج ( 19-20 ) الصادر فى آب عام 1974 و الأعداد اللاحقة.[1]