#جودت هوشيار#
تعد ملحمة (( الأمير ذو الكف الذهب )) المعروفة بأسم ملحمة ( قلعة دمدم ) من أشهر ملاحم البطولة الكردية على الأطلاق وهي تروي قصة نضال أمير كردي شيد قلعة حصينة بهذا الاسم لحماية نفسه وأبناء عشيرته وإمارته من شرور الأعداء والمعركة الدموية التي دارت بين الأمير وأبناء عشيرته من جهة وبين الشاه عباس الصفوي وجيشه من جهة ثانية حيث دافع حماة القلعة الشجعان عن حياتهم وحريتهم واستقلال إمارتهم الصغيرة حتى آخر رجل ولم يستطع الغزاة من أسر أي مقاتل كردي ولم يجد الشاه و جنوده بعد دخولهم القلعة – عن طريق المكيدة والخيانة – الا الخرائب والأنقاض، حيث فضل الأمير البطل الموت بشرف وكرامة على حياة الذل والمهانة في ظل حكم الشاه . وتشير المصادر التأريخية الى أن هذه المعركة الحاسمة وقعت في عام 1605 م على الأرجح .
تقع قلعة دمدم في شمال غرب كردستان ايران وعلى حدودها مع تركيا وقد ورد ذكرها في كتاب ( الشرفنامة) لشرفخان البدليسي – الذي دون تأريخ الأمارات الكردية في القرون الوسطى – حيث يقول إن دمدم كانت قلعة لرئيس عشيرة برادوست . و كانت هذه العشيرة تقطن اورمية و ته رغة و مه رغة وبعض المناطق الأخرى . ويبدو من هذا النص إن قلعة دمدم كانت قائمة في عام 1596 حين انتهى البدليسي من تدوين كتابه الشهير وأغلب الظن أن معركة قلعة دمدم وقعت بعد سنوات من بناء القلعة حسب بعض المصادر أو إعادة بنائها حسب مصادر أخرى , وثمة مصادر تأريخية عديدة تطرقت الى قلعة دمدم ومعركتها البطولية الدامية ولعل أهم هذه المصادر هي كتاب (( تاريخ آراي عباسي )) للمنشيء مؤرخ الشاه عباس الصفوي وكتاب (( الكرد )) للمستشرق فلاديمير مينورسكي وكتاب (( الكرد )) للمستشرق فاسيلي نيكيتين وكتب تأريخية عديدة أخرى .
إن معركة قلعة دمدم ليست من نسج الخيال وانما تستند الى وقائع حقيقية هزت مشاعر ووجدان الأدباء والشعراء الكرد على مر الأجيال المتعاقبة فنظموا فيها القصص والملاحم الشعرية وكتبوا القصص النثرية التي تمجد ابطال المعركة كما ذاعت بين ابناء الشعب الكردى فحاكوا حولها الروايات الفولكلورية ويلاحظ وجود شىء من الأختلاف فى هذه النتاجات الأدبية من حيث وسائل التعبير وأساليب الصياغة والمعالجة الفنية و ذلك أمر طبيعي لأختلاف الرؤى والأساليب و الميول لدى هؤلاء الأدباء و الشعراء، كما ان الروايات الشفاهية التي أبدعها الشعب وانتقلت شفاها من جيل الى جيل خضعت للتغير ايضا بأختلاف الرواة وقدرتهم على التعبير ونظرتهم الى الحياة وقيمها و الظروف السائدة. ومهما اختلفت هذه الروايات الا أن الرواة الموهوبين حافظوا على ما هو جوهري في مضمون ملحمة قلعة دمدم والتى تعكس مدى اصرار الكرد على مر العصور للذود عن حريتهم ومقاومة الغزاة مهما كلف ذلك من تضحيات.
و لدينا اليوم روايات فولكلورية عديدة لهذه الملحمة سجلها الباحثون و الكتاب الكرد انفسهم كما ان لدينا ايضا عدة معالجات ادبية عن هذه المعركة شعرا ونثراوكان المستشرق الروسي الكسندر زابا سباقا الي تسجيلها حيث نشر اول ملحمة شعرية عن هذه القلعة الصامدة في عام 1860 في بطرسبورغ , كما توجد ضمن مخطوطاته التي تركها بعد وفاته عدة ملاحم شعرية اخرى حول دمدم تتشابه في مضامينها وان اختلفت عناوينها ومعظم هذه الملاحم منسوبة الى الشاعر الكردي الكلاسيكي فقي طيران ولكن المستشرقة الرائدة مرجريت رودينكو تقول : ( ان فقي طيران لايمكن ان يكون مؤلف هذه الملاحم لسبب بسيط هو انه عاش في القرن الرابع عشر في حين ان معركة قلعة دمدم وقعت في اوائل القرن السابع عشر ) كما قام العديد من المستشرقين الآخرين بتسجيل ونشر ملاحم شعرية حول قلعة دمدم تعود الى الشعراء الكرد الكلاسيكيين .
وفي الادب الكردي الحديث اصبحت معركة قلعة دمدم معينا لا ينضب للعديد من الملاحم الشعرية والقصص والروايات , لعل اشهرها الملحمة الشعرية التي نشرها الكاتب والشاعر الكردي الشهيرجاسم جليل في كتابه أغاني الجبال الصادر في يريفان عام 1970 ورواية رائد الرواية الكردية الحديثة عرب شمو وهي بعنوان دمدم وصدرت في يريفان عام 1966 وثمة بحوث ودراسات عديدة حول هذه الملحمة من أهمها وابرزها وأقدمها البحث الذي قدمه الدكتور اورديخان جليل الى جامعة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا) لنيل شهادة الدكتوراه عام 1960 ودافع عن رسالته في العام نفسه بنجاح ثم اعاد نشر الرسالة على شكل كتاب صدر في موسكو باللغة الروسية في عام 1967 تحت عنوان الخان ذو الكف الذهب الكردي ( دمدم ) , وعلى هذا النحو نرى ان هذه الملحمة البطولية قد نالت اكبر قدر من العناية والاهتمام بين ملاحم البطولة الكردية لانها تجسيد رائع لطموحات الشعب الكردي ونضاله الطويل من اجل نيل حقوقه القومية المغتصبة وانشداده الى الحرية والعدالة والكرامة كما ان الملحمة طافحة بأنبل المعاني والقيم الانسانية واستعداد لا حد له للتضحية والفداء من اجل المباديء السامية .
و تبدأ الملحمة ( فى معظم الروايات الأدبية منها و الشعبية) بلجؤ امير(خان) كردى الى كردستان ايران هربا من ظلم السلطان العثماني وخيل اليه انه بذلك قد تحرر من ظلم السلطان الى الابد ولكنه كان واهما ، فالشاه الصفوى لم يكن افضل من السلطان العثمانى. وتختلف الروايات حول ظروف اللقاء بين الأمير الكردى والشاه عباس الصفوي , وتقول بعض الروايات ان الشاه قد تنكر في زي تاجر ومر على خيمة الامير الكردي قرب أورمية وان كف الامير قد احترق وهو يناول جمرة نار ليشعل بها الشاه غليونه فكافأه الشاه بكيس من الذهب وضعه في كف الامير وتشير روايات أخرى أنه قد ذهب الى بلاط الشاه من تلقاء نفسه وانه عمل سائسا لخيول الشاه وذات مرة هاجمته زمرة من قطاع الطرق فدافع عن نفسه دفاع الابطال واستطاع انقاذ الخيول وقتل معظم افراد الزمرة وولى الباقون الأدبار ولكن الامير فقد أحدى يديه في المعركة فأمر الشاه بصب يد من الذهب له ثم طلب من الشاه ان يمنحه قطعة ارض يبني عليها دورا لنفسه ولابناء عشيرته فأستجاب الشاه لطلبه ولكن الامير شيد بدلا من ذلك قلعة حصينة تضم دورا لنفسه واتباعه وأنه خطط لهذه القلعة بعناية فائقة حيث كانت أسوار القلعة متينة ولها ابواب حديدية منيعة لاتؤثر فيها حتى المدافع الثقيلة وكان داخل القلعة سراديب وانفاق سرية واحواض لمياه الشرب وخزانات للمواد الغذائية والاهم من ذلك كانت القلعة تزود بالمياه من نبع سري وتجري مياهه في جدول مغطى بالصخور ولم يكن يعلم بهذا السر سوى عدد محدود من حاشية الامير ومن بينهم احد العمال الذين شقوا الجدول وساهموا في بناء القلعة وهو محمود المركاني , وكان مجتمع القلعة المتماسك والملتف حول الامير ينعم بالحرية والرخاء بفضل حكمة الامير واجراءاته المدروسة ومهارته في ادارة شؤون أمارته الصغيرة وكان زعيم (خان) منطقة ( مه ركة ) وهي منطقة قريبة من القلعة يخشى سلطة الامير الكردي القوية وصيته ومناعة قلعته , وحين تزوج الامير الكردي من اجمل فتاة في خانية ( مه ركة) استشاط الخان غضبا لانه أراد الفتاة لنفسه وليس لغريمه فأخذ الخان يحيك الدسائس والمكائد ضد الامير الكردي ويؤلب الشاه ضده , وقال الخان للشاه : ان الامير الكردي قد شيد قلعة عظيمة ومنيعة واعلن الاستقلال ولا يعترف بسلطة الشاه فجن جنون الشاه وأمر بهدم القلعة على رؤوس سكانها, وأرسل جيشا جرارا لهذا الغرض بقيادة زعيم ( خان ) مه ركه ولكن محاولا ت جيش الشاه باء ت بالفشل الذريع حيث لم تكن لأ سلحة الجيش الفارسي وبضمنها المدافع تأثير على القلعة فقرر الشاه قيادة الهجوم على القلعة بنفسه وحاصر القلعة لعدة اشهر ولكن حظه لم يكن افضل من حظوظ قواده واستمر حصار القلعة طويلا لكن الحياة في القلعة كانت منظمة والروح المعنوية لسكانها عالية .
كانت كولبهار قد انجبت للأمير ولدين وكان محمود المركاني يعمل سائسا لخيول الامير لينعم برؤية الحسناء كولبهار فقد كان السائس مغرما بها من بعيد ويطيل التفكير فيها دون جدوى وطرأت في ذهنه فكرة جهنمية وهي أفشاء سر الجدول الذي يزود القلعة بالمياه الى الشاه أذ ربما يجازيه الشاه فيهبه كولبهار, وتمكن محمود المركاني بطريقة خادعة من اللجوء الى الشاه و افشاء سر الجدول وجاء الشاه وجلس قرب النبع مسرورا ونهل من مائه بكأس من الذهب وشربه ثم نادى ذلك الخائن وسأله :
- ما الذي دفعك الى الخيانة ؟
- أريد ان اخدم شاهي وان احقق حلمي في الزواج من كولبهار.
رمقه الشاه بنظرة ازدراء وأمر بقتله سحلا وذلك بربطه بذيل حصيان جامح كما أمر بذبح قطيع من الماشية واراقة دمائها في الجدول لتخذ طريقها الى القلعة و اضطرب سكان القلعة حين شاهدوا الدم يجري في الجدول عوضا عن الماء ولكن الامير الكردي طمأنهم بأن الاحواض والجرار مليئة بالماء وان موسم الامطار قريب حيث تمتلأ الاحواض بالمياه من جديد لحين وصول النجدات اليهم من أشقائهم الكرد في الامارات الكردية الاخرى ولكن طال أمد الحصار ولم تصل النجدات وأخذ الماء يشح وقال والد الامير وهو يخاطب رجال القرية :
- خير لنا ان نموت في ساحة الوغي من ان يحتل العدو القلعة ويجدنا نحتضر عطشا علينا ان ندافع عن شرفنا وكرامتنا قبل ان ينتهكها ازلام الشاه !
فهب شباب القلعة وتسلحوا بشتى انواع الاسلحة وبعد ان تفقد الأمير تحصينات القلعة و جاهزية جنوده ذهب ليودع زوجته و ثمة فى بعض الروايات حوار وداعى مؤثر جرى بين الأمير و زوجته الحبيبة. قال الأمير:
--جميلتى ، لقد ولدت لتعيش حرة فوق الجبال الشم وولدت ولدين كل منهما كالليث الهصور،جدى من اجل تربيتهما تجد فيهما سعادتك،وحين تكون القضية قضية شرف فأننى اعرف ماذا ستفعلين.لا تنسى هذا اليوم.
نزلت دمعتان من ما قي كولبها ر وبرقتا كالبرق وانسابتا على خديها الأسيلين وقالت:
--اذهب يا ليثى الهصور وأنت مفعم بالحب ولن يغلب رجل الحب و التضحية ولتكن كولبهار فداء لك.سأربى أولادك وأرضعهم لبانة الرجولة و الشجاعة.استودعك الله.واقسم بسيفك أن أذيع جدارتك و شهرتك واضحي بحياتي من أجلك. ثم أمر الأمير بإخراج النساء و الأطفال و الشيوخ من القلعة عن طريق نفق سرى يؤدى إلى الجبال القريبة.
كان الغروب قد لون قمم الجبال لتوها بالصفرة الذهبية حين فتحت بوابات القلعة و تدفقت سيول الرجال هادرة و بوغت العدو ونشبت معركة دموية ضارية استبسل خلالها المقاتلون الكرد ولكن ميزان القوى لم يكن متكافئا فقد حشد الشاه جيشا جرارا يبلغ تعداده اضعافا مضاعفة لعدد المقاتلين الكرد الذين كانوا يحاربون كالأسود تحت قيادة أميرهم البطل وبعد أن استشهد معظمهم , لجأ من بقي منهم على قيد الحياة إلى الجبال ولم يتمكن العدو من أسر أي مقاتل كردي وحين دخل جيش العدو إلى القلعة لم يجد سوى الخرائب والأنقاض , فقد فجر الكرد قلعتهم قبل أن يغادروها حيث كان الأمير الكردي قد خطط لكل شيء مسبقا, وحدد طريقة تفجير القلعة عند الضرورة وغدت شجاعة أبطال قلعة دمدم أسطورة تتناقلها الأجيال الكردية المتعاقبة وهي صفحة مشرقة و مشرفة من تأريخ الكرد ونضائلهم وتضحياتهم السخية من اجل الحياة الحرة والكرامة الإنسانية.[1]