#جودت هوشيار#
شهدت الثقافة الكردية في الأتحاد السوفيتي السابق نهضة حقيقية خلال تلك الفترات التي اتيح المجال خلالها لكرد مناطق ماوراء القفقاس وبخاصة في أرمينيا , التمتع بقسط وافر من الحقوق الثقافية وذلك في أعقاب ثورة اكتوبر وحتى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين وكذلك في فترة حكم الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف . وكان رواد هذه النهضة نخبة واعية من الكتاب والشعراء والباحثين وفي مقدمتهم عرب شمو وحاجي جندي وجاسم جليل . أما الدكتور جليلي جليل فهو من الجيل الثاني الذي واصل مسيرة الرواد . وهو مؤرخ وباحث كردي من أرمينيا ويعمل حاليا أستاذا للكوردولوجيا في جامعة فيينا بالنمسا . وقد أسهم ( خلال أربعين عاما من الجهد العلمي المتواصل وعبر العديد من الكتب وعشرات البحوث والدراسات الجادة المنشورة باللغات الكردية والأرمنية والروسية ) في دراسة وتوثيق مراحل وأحداث مهمة من تأريخ الكرد الحديث وفي تحقيق ونشر روائع التراث الأبداعي الشفاهي الكردي .
ينتمي جليلي جليل الى أسرة كردية امتلأت قلوب أفرادها بحب الكرد وكردستان وكرست حياتها لخدمة الشعب الكردي وتراثه القومي . فقد كان والده جاسم جليل كاتبا وشاعرا معروفا , متعدد المواهب والأهتمامات وله اسهامات كثيرة في شتى المجالات الثقافية الكردية وهو أحد مؤسسي الأدب الكردي الحديث في ماوراء القفقاس ويعود الفضل اليه في استحداث القسم الكردي في أذاعة يريفان عام 1955 وماعدا الدكتور جليلي جليل فأن شقيقه الدكتور اورديخان جليل باحث معروف في مجال تحقيق ونشر التراث الكردي بشقيه الشفاهي والمدون , كما أن شقيقته جميلة جليل – موسيقية معروفة بذلت جهودا كبيرة في جمع واحياء الألحان الكردية الشعبية ووضع النوتات الموسيقية لها ونشرها .
تخرج الدكتور جليلي جليل في كلية التأريخ / جامعة يريفان في عام 1959 ثم واصل دراسته العليا بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية حيث نال شهادة الد كتوراه في عام 1963 عن رسالته الموسومة ( حركة التحرر الكردي من خمسينات الى تسعينات القرن التاسع عشر ) وقد نشرت أجزاء رئيسية من هذه الرسالة باللغة الروسية عام 1966 في موسكو تحت عنوان ( الأنتفاضة الكردية في عام 1880 )
يتحدث المؤلف في الفصول الثلاثة للكتاب عن الأوضاع السياسية والأحوال الأقتصادية – الأجتماعية في كردستان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و التطورات والظروف التي ادت الى اندلاع انتفاضة عام 1880 بقيادة عبيدالله شمزيني ومنها الأزمة السياسية – الأقتصادية في كردستان التي نجمت عن الوهن الذي أصاب الأمبراطورية العثمانية وايران والضرائب الفادحة التي كان يرزخ تحت أعبائها الثقيلة الفلاحون والفقراء الكرد والخسائر الجسيمة التي منيت بها الجيش التركي والدولة العثمانية في حربها الدموية ضد روسيا القيصرية خلال عامي ( 1877 - 1878 ) والأنتفاضة التي نشبت في بوتان بقيادة كل من عثمان بك وتحسين بك في عام 1878 والأضطرابات في منطقة هكاري كل هذه الاسباب مجتمعة أدت الى نشوب انتفاضة كردية كبرى في عام 1880 بقيادة الشيخ عبيدالله شمزيني الذي كان يتمتع بشخصية قوية ونفوذ واسع في كردستان بأسرها وتميزت هذه الأنتفاضة بزخمها وقوتها وسيطرتها على أجزاء جد واسعة من كردستان مما أثار قلقا بالغا لدى الأوساط الحاكمة في كل من الأمبراطوريتين العثمانية والفارسية . كما أن الدول الأمبريالية وفي مقدمتها انجلترا وروسيا القيصرية حاولت بكل السبل تشويه أهداف الأنتفاضة و نشر الأكاذيب الملفقة ضدها تأمينا لمصالحها الحيوية في المنطقة . وقد تم القضاء على الأنتفاضة ليس بسبب الحملات العسكرية الموجهة ضدها أو المواقف العدائية للدول الأمبريالية تجاهها وحسب , بل أيضا وربما في المقام الأول بسبب العوامل الداخلية المتمثلة في ضعف التنظيم العسكرية لقوات الأنتفاضة والصراع الداخلي بين القيادات العسكرية هذا الصراع الذي استنزف قوى الأنتفاضة وقضى على زخمها وكان من الشدة بحيث أن شخصية عبيدالله شمزيني القوية لم تفلح في وضع حد له وكان الأئتلاف الآني الهش لزعماء القبائل وولائهم للشيخ عبيد الله يزولان لدى أول إخفاق عسكري . ولاشك أن ضيق أفق الكثيرين من القيادات المحلية وتغليب المصالح العشائرية على المصالح القومية العليا وغياب آلية مدروسة وصحيحة لتحقيق أهداف محددة كل ذلك ادى الى اخفاق الأنتفاضة . أضف الى ذلك ان السلطات التركية والايرانية عملت على إثارة الخلافات وتأجيج الصراعات الداخلية واستغلالها لصالحها . ولم تلق هذه الأنتفاضة تأييد أية دولة اوروبية وكانت انجلترا تعمل جاهدة للقضاء عليها والحفاظ على وحدة اراضي الأمبراطورية العثمانية واستقرار الأوضاع على الحدود الفاصلة بين تركيا وايران لضمان المصالح الانجليزية أو بمعنى آخر عزل كرد تركيا عن أشقائهم في ايران .
ويمتاز هذا الكتاب بسعة قاعدة مصادره حيث لا يعتمد فقط على المواد المنشورة باللغات الاوروبية والشرقية , بل في المقام الاول على تحليل ومقارنة الوثائق الاصلية المهمة المحفوظة في الارشيفات الرسمية الروسية والتي تتضمن تقارير ومراسلات الدبلوماسيين وعملاء الاستخبارات العسكرية الروسية , كما اعتمد المؤلف على سلسلة الكتب الزرقاء الانجليزية التي تتضمن وثائق السياسة الخارجية البريطانية ويتعامل المؤلف بحذر شديد مع مضامين هذه الوثائق ولم يغب عن ذهنه الاطلاع على مانشرته الصحافة الانجليزية والروسية والارمنية والصحف الاخرى الصادرة في عام 1880 عن هذه الانتفاضة , حيث كانت كل من انجلترا وروسيا تتبادلان الاتهامات بصدد التحريض على قيامها , وقد أسهب المؤلف في شرح هذه النقطة ودحض كل المزاعم الباطلة التي كانت تروج لها ابواق الدعاية للدول الامبرالية ودولتي التقسيم , واثبت المؤلف بالادلة الدامغة وعن طريق الوثائق الرسمية لهذه الدول ان اتفاضة عام 1880 كانت أنتفاضة وطنية وتحررية خالصة .
أما الكتاب الاخر المهم للدكتور جليلي جليل فقد صدر في موسكو عام 1973 وكان بعبوان ( اكراد الامبراطورية العثمانية في النصف الاول من القرن التاسع عشر ) والمضمون الاساسي لهذا الكتاب هو شرح وتحليل علاقات الامارات الكردية التي كانت قائمة في تلك الفترة ( بابان , بادينان , سوران , هكاري , بوتان ) بالحكومة المركزية في استنبول والحملات العسكرية التركية ضدها والتنظيم الداخلي لهذه الامارات واوجه النشاط السياسي والاقتصادي فيها وانتفاضة يزدان شير خلال حرب القرم ( 1853 – 1856 ) بين تركيا وروسيا , اي ان الكتاب يتناول بالبحث والتحليل الفترة الممتدة من عام 1820وحتى عام 1880 في التأريخ الكردي الحديث , وقد كرس المؤلف قسما كبيرا من هذا الكتاب لأمارة سوران ومحاولات أميرها المنصور محمد باشا الرواندوزي لتوحيد أجزاء كردستان ويسهب المؤلف في ابراز انجازات الامير السوراني وشخصيته القوية وحبه للعلم والمعرفة , فهو لم يكتف ببناء جيش قوي بل عمل على أنشاء معامل لانتاج ما يحتاجه هذا الجيش من شتى أنواع الاسلحة ولعل مدافع الاسطه رجب أبرز مثال على ذلك , وللأمير المنصور انجازات في كافة مجالات الحياة في الامارة , واعتقد ان التنظيم الداخلي الدقيق للامارة والاهتمام بالانشاء والتعمير والعلم وأهل الخبرة في الصناعات المختلفة هي السمات البارزة لهذه الامارة في مجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
أما الحقل الآخر الذي ركز عليه الدكتور جليلي جليل جهوده ابتداءا من اوائل السبعينات فهو مجال احياء التراث الكردي بشقيه المدون والشفاهي , ففي عام 1973 اصدر مع شقيقه الدكتور اورديخان جليل كتابا يحوي آلاف الحكم والامثال الكردية (اكثر من 15 ألف حكمة ومثل سائر ) مع مقدمة ضافية , ولقد قمنا في حينه بترجمة هذه المقدمة القيمة من اللغة الروسية ( وهي اللغة التي صدر بها الكتاب ) ونشرها في مجلة ( روشنبيري نوي وكان ذلك في عام 1973 ) , كما أصدر بالاشتراك ايضا مع شقيقه الدكتور أورديخان جليل سفرا عظيما على شكل كتاب ضخم من جزأين يضم روائع الابداع الشفاهي الكردي تحت عنوان ( زاركوتنا كوردا ) وذلك في عام 1978 ولاعطاء فكرة عن مدى ضخامة هذا الانجاز العلمي الكبير نقول بان الجزء الاول منه يتكون من ( 508 ) صفحة والثاني ( 534 ) صفحة , وربما كان هذا الكتاب أهم كتاب ظهر حتى اليوم عن الفولكلور الكردي .
وللدكتور جليلي جليل دراسات باللغة الروسية حول تأريخ الصحافة الكردية ودورها في نشر وتعميق الوعي القومي والفكر السياسي لدى الكرد وهي دراسات علمية رصينة وعميقة وحبذا لو ترجمت الى اللغة الكردية .
ان المجال يضيق هنا للاشارة الى عشرات الابحاث التأريخية والتراثية التي انجزها الاستاذ الفاضل وهي كلها دراسات علمية رفيعة المستوى واصيلة , غنية بالمعلومات والافكار والاستنتاجات الذكية باسلوب واضح وجميل , وهو يمتاز بتواضع العالم الحقيقي وانصرافه الى العلم في هدوء وصمت ونكران ذات .
كلمة أخيرة
لدى زيارة الدكتور جليلي جليل الى أرض الوطن الام(كردستان) قبل بضع سنوات جرت معه عدة لقاءات مع وسائل الاعلام ونظمت له ندوة تكريمية حضرها عدد من المسؤولين ومثقفي العاصمة اربيل وقد تركز الحوار خلال هذه اللقاءات وفي الندوة التكريمية حول أوضاع الكرد في مناطق ماوراء القفقاس في الماضي والحاضر ومشاكل الابجدية الكردية واللغة الادبية الكردية الموحدة وهي موضوعات مهمة ولاشك بيد اننى اعتقد أنه كان من الافضل استغلال هذه الفرصة الثمينة والبحث معه في مشاكل دراسة التأريخ الكردي والاسترشاد بآرائه في اختيار الموضوعات المهمة لرسائل الماجستير والدكتوراه في التاريخ ومصادر الحصول على المعلومات والوثائق الاصلية المتعلقة بالكرد وتطوير المناهج الدراسية في اقسام التأريخ بكليتي الآداب والتربية في جامعات الاقليم وخطط اعداد الكوادر العلمية في مجال التأريخ الكردي أضافة الى المناهج العلمية الحديثة في أحياء ودراسة التراث الكردي والقاء الضوء على تأريخ الكردولوجيا واتجاهاتها وتطورها ووضعها الراهن ان عدم اثارة هذه الموضوعات ناجم بلاشك عن عدم اطلاع المثقفين في كردستان العراق وعن كثب على نتاجات العلماء والباحثين الكرد المنشورة في جمهوريات ماوراء القفقاس والدول الأخرى و يمكن سد هذه الفجوة عن طريق دعوة عدد من ابرز العلماء و الباحثين الكرد العاملين فى الجامعات و المعاهد الأوروبية و الأميركية والبلاد الأخرى الى كردستان العراق لغرض القاء محاضرات فى شتى المجالات العلمية و الثقافية كل حسب تخصصه.[1]