الكورد هم من أسقطوا أول امبراطورية استعمارية توسعية قامت في التاريخ البشري ، وهي الإمبراطورية ( الآكادية ) !
بقلم : جمال حمي
هنالك قاعدة ثابتة في التاريخ البشري عموماً تخص الممالك والإمبراطوريات القديمة التي قامت ، تدور حول العناصر التي تهيئ لصعود الإمبراطوريات والممالك ، ثم تمر في مرحلة النهضة والإزدهار والقوة ، ثم سرعان من تتلاشى أسباب القوة تباعاً ، فتظهر عناصر أخرى تهيئ الأسباب للإنحدار والسقوط ، وهذا ما نسميه في أدبياتنا اليومية ” دوام الحال من المحال ” !
فهنالك آراء عديدة حول الآسباب التي أدت الى سقوط أول حضارة انسانية ” سومر ” ولكل فريقٍ منهم وجهة نظرٍ وقناعة يسردها ، لكنها في المجمل تدور حول انشغال ملوكها وكهنتها في إرضاء ” الإلهة ” بتقديم الآضاحي لها من الثروة الحيوانية واقامة الحفلات الغنائية لها على حساب الشعب ، مما أحدث هذا حالة من التذمر والإستياء الشعبي ، علاوةً على ذلك الجفاف والقحط الذي أصاب أركان الدولة السومرية وارتفاع أسعار السلع حيث تعطلت الزراعة والتجارة وهما الركيزتان الأساسيتان اللتان كانتا يعتمد عليهما شعب سومر ، ويبدو أنه كان عندهم مشكلة في تصريف مياه الري ، اذ أنهم كانوا يصرفونها على الآراضي الزراعية طوال الوقت وبشكل غير مدروسٍ ، مما تسبب ذلك في موت التربة بسبب ملوحة مياهها ، اضافةٍ الى أن دولة سومر لم تكن جبهتها الداخلية موحدة ، فكانوا دوماً في حالة صراعٍ وحرب داخلي ، كما حصل هجرات شعبية بإتجاه الشمال والجنوب أيضاً ، ناهيكم عن أن المملكة السومرية لم تبني جيشاً قوياً قادراً على صد هجمات الغزاة ، وجيشه كان صغيراً مشغولٌ في قمع الثورات الداخلية ، كما أن المنطقة التي كانت تحكمها ” سومر ” كانت منطقة سهلية مكشوفة ولا توجد حولها جبال لتحميها .
كما أن السومريون كانوا أهل علم ومعرفة وأدب وفن وشعر وموسيقا ، ولم يكونوا أهل غزو واعتداء وسلب ونهب ولم تكن عندهم أطماع استعمارية توسعية كبيرة على الأقل مقارنةً بجيرانهم من الآكاديين والعيلاميين وغيرهم ، لذلك لم يهتموا بالجانب العسكري كثيراً و لم يفكروا في بناء جيش قوي لحماية هذه الدولة المتحضرة من الأعداء الذين كانوا يتربصون بهم شراً ، كالعلاميين الذين كانوا يسكنون في الأحواز وخوزستان ومناطق جهار محال بختياري وبوير أحمد بوشهر في ايران و إلى البصرة والكوت في العراق ، أي أن العيلاميون كانوا في الشرق والآكاديين كانوا في الشمال ” بغداد ” ، وكلهم كانوا يتربصون الشر ويكيدون لهذه الدولة العظيمة ويقلدونها في اختراعاتها بل ويسرقونها أيضاً ، ومع توفر كل الأسباب والعناصر التي ذكرناها لكم ، كان كل شيء يدل على اقتراب سقوط هذه الدولة التي حيّرت العلماء والى يومنا هذا ، وكانت سبباً في افول نجمها وضياعها ، وفي سقوط أول حضارة انسانية في بلاد مابين النهرين .
وفي هذه الاثناء وشمالاً من الدولة السومرية كان هنالك شيءٌ ما يحدث ، اذا يروي لنا التاريخ أن رجلاً من القبائل السامية التي نزحت من الجنوب يقال له
” سرجون الكبير ” غير معروف الأب والأم ، فقد تركته أمه بعد أن أنجبته من كاهن بطريقة غير شرعية وتخلت عنه ، ويقال بأنها وضعته في سلة ووضعته في النهر ، وجده رجل يعمل بستانياً
، ثم سرعان ما كبُر ، تولى ” سرجون ” منصب حامل الكأس لصالح حاكم مدينة (أومما) دون الحاجة لأي نفوذ أو صلات، و كان هذا المنصب يعني بأنه الشخص الثاني بعد الملك ، وهو عبارة عن منصب الساقي ، وكسب ثقة الملك، وكان الإختبار الحقيقي له عندما قام ملك مدينة أوروك ” لوغال زاغيزي سي ” بحملة عسكرية ضد كيش ، فشك يورزبابا بسرجون و قرر إرساله للتفاوض مع لوغال زاغيزي سي و تضمنت الرسالة التي يحملها طلباً منه أن يقتل سرجون و لكن ” لوغال زاغيزي سي ” رفض و قرر ضم سرجون له و احتلوا كيش و هرب يورزبابا .
ثم حدث لاحقاً خلافٌ بين ” لوغال زاغيزي سي ” و سرجون ، ولم تتضح الأسباب الحقيقية ، فيقال أن سرجون كان على علاقة بزوجة لوغال ، فتحول التحالف بينهما إلى عداوة ، و التقى جيشهما في معركة الوركاء و التي خرج فيها سرجون منتصراً ، و جلب خصمه إلى مدينة ” إنبور ” أمام تمثال الإلهة ” إنليل ” اختار سرجون الإلهة (عشتار) لتكون حاميته ، و مع هزيمة كل من ” يورزبابا ” و ” لوغال زاغيزي سي توّج سرجون نفسه ملكاً على كيش
فأعد خططه العسكرية لإجتياح سومر والإستيلاء عليها ، وبالفعل اجتاحها بجيوشه و استطاع أن يهزم ملك نيبور السومري ، وسيطر على بقية مدنها وأخضعها لسطانه ، وأسس سرجون عاصمته بالقرب من كيش ، في مدينة تدعى أجاد ولم تكتشف الى اليوم ، وأصبحت تُعرف فيما بعد مملكته ” آكاد ” وسيطر على كل المنافذ التجارية وجمع الضرائب من المزارعين والحرفيين وبنا جيشاً عظيماً ووحد المدن والقبائل حتى حكمه وأسس أول امبراطورية في التاريخ ، وكان أول من أوجد الفكرة ( الأممية ) بمعنى أن تجتمع عدة قوميات وعرقيات تحت حكم دولة واحدة ، وكانت لدية خطط لتوسيع امبراطوريته ، وأصبحت امبراطورية تجارية مهمة كونها سيطرت على النقاط الإستراتيجية الهامة ، ووسع إمبراطوريته إلى وسط ( آسيا الصغرى ) ووضع حكاماً في جميع أنحاء إمبراطوريته ليحكموا بإسمه ، وبنى لنفسه مكتبة تضم آلاف الألواح الطينية وللمساعدة في توحيد إمبراطوريته ، كما قام ببناء نظام فعال للطرق وخدمة البريد ، كما لعبت ابنة سرجون (أنهيدونا) دوراً كبيراً في توطيد حكم والدها، فقد عينها القديسة الكبرى للإلهة (إنانا) و عبر ذلك كله استطاع سرجون التحكم بالأمور الدينية والسياسية و الثقافية ، ويقال أنه كان أول من فصل الدين عن الدولة بمرسوم صدر عنه ، وتُعرف ابنته أنهيدونا اليوم على أنها أول كاتبة عرفت بإسمها، ، ومما عُلِم عن حياتها يتضح أنها امتلكت القوة الإدارية بالإضافة إلى مواهبها الأدبية .
وبعد وفاة ” سرجون الأول ” تسلم الحكم بعده ولده ” ريموش ” 2270 2278 ” ق م ، وجد هذا الملك امبراطورية تمزقها الثورات والتمرد الا أنه نجح في استعادة قسم كبير من امبراطورية أبيه بعدما بطش بها وأخمدها ، ثم قُتل ” ريموش ” في مؤامرة دارت فصولها في القصر ، وقد اغتاله بعض أفراد حاشيته ربما كان معهم شقيقه الأكبر ” مانيشتوشو ” الذي خلفه في الحكم والتي تشير المعلومات أنه كان توأم اخيه أي أنهما كانا توآمان ، وبعد أن آل له الحكم وبسط سلطانه ، اجتاز البحر الأسفل في السفن ، حيث قيل أنه هزم تحالف من 32 ملك اتفقوا ضده ، واحتل بلادهم وسيطر على مناجم الفضة فيها وجلب الحجارة السوداء من الجبال الواقعة وراء البحار ، وشحنها الى أرصفة عاصمته ” اكد ”
يجمع المؤرخون أن الأكاديين شعب سامي استوطن منطقة أكاد في بلاد الرافدين في الفترة ما بين (2360 2180 ق.م) ويعتبر سرجون الأول من أبرز ملوكهم وتعود شهرته لأنه استطاع هزيمة السومريين وجعل مدينة أكاد عاصمة له ، كما استطاع اخضاع مدينة بابل ومعظم مناطق سومر بالإضافة لبلاد العلاميين واستكمل خلفه نارام سين 2254 2218 ق.م توسيع جنبات الإمبراطورية الأكادية ، ورغم البطولات التي نسبت لحفيده هذا ، إلا أن الأساطير القديمة تشير إلى أن هذا الملك هو الذي تسبب في انهيار مملكته أكاد بسبب سوء أخلاقه وأعماله غير الورعة، وتظهر الألواح الطينية نصاً تحت عنوان ” لعنة أكاد” يتحدث هذا النص عن العلاقة التي يجب أن تربط بين الإنسان والألهة، وتلمح الرواية الأسطورية أن الآلهة عاقبت أكاد بسبب أفعال الملك “نارام سين” المشينة حيث قام الإله “إنليل” بتجريد أكاد من بركته مما جعل الملك “نارام” يكتئب لمدة سبعة أعوام متتالية طالبا الصفح والعفو من الألهة، وعندما تأخرت الإجابة الإلهية تملكه الغضب وزحف نحو معبد الإله “إنليل” في مدينة نيبور ودمره ، وهذا الهجوم استفز جميع الألهة الذين أرسلوا عليهم شعبا متوحشا تسيره الغرائز الحيوانية فقط يدعى “الجوتيون ” الذي قيل عنهم في بعض الألواح السومرية ، بأنهم شعب بربري وهمجي، دمروا مملكة أكاد وأتوا على الأخضر واليابس فيها ، حتى أن جثث الأكاديين تعفنت في الشوارع مما تسبب في ذلك انتشار الأوبئة والمجاعة .
وكما أشرنا سابقاً ، أن قيام الدول والإمبراطوريات وسقوطها ، تعتمد على مجموعة من الأسباب والركائز ، فعندما قامت الدولة الأكادية بقيادة سرجون الأول ، كانت الممالك حوله في ضعف ، وكان هو منشغل في اعداد الجيوش وتحضيرها لغزوها ، فإستغل هو هذا الضعف السومري ، ولذلك نجح في اسقاطها كونها كانت دولة آيلة الى السقوط أساساً ، فإستطاع بقوته وجبروته وبطشه اخضاع بقية الممالك الأخرى واقامة امبراطورية كبيرة ، لكن أبناءه دخلوا في صراعات فيما بينهم على الحكم شبيهه بالإنقلابات في عصرنا هذا ، وكانوا لايتمتعون بالشخصية القوية التي كان يتمتع بها أبوهم سرجون ، فهم لم يستطيعوا اخماد الثورات مثل أبيهم ، مما ضعضع ذلك أركان دولتهم ولذلك انهارت أمام هجوم الجوتيين المحاربون الأشداء الذي نزلوا من جبال زاغروس ، لذلك سقطت الإمبراطورية الأكدية وزالت الى الأبد .
عندما يذكر التاريخ ” الجوتيون ” وهم قبيلة كبيرة سكنت جبال زاغروس من الرعاة والفلاحين ومنذ فجر التاريخ ، فإنهم يصفونهم ( بالهمج والبرابرة ) ، وقد نقلوها من النصوص الطينية السومرية ، فأعتقد بأن التاريخ ظلمهم الى حدٍّ كبير ، أولاً هم من الكورد وينتمون الى السوباريين أو الشوباريين ، وهم أيضاً أسلاف الكورد وأشقاء الميديين الكورد ومن نسل يافث وينتمون الى العرق الآري أيضاً كما أكدّها المؤرخ اليوناني الشهير ” هيروديت ”
فكلمة ” الجوتيون ” هي كلمة كوردية صرفة ومفردها ” جوت ” وتعني ” الفلاحة ” والفلاح يطلق عليه باللغة الكوردية اسم ” جوتيار ” Cotiyar ، وبما أنهم كانوا عبارة عن قبيلة تعيش على الزراعة وتربية المواشي ، فمن المحتمل أن السومريون أطلقوا عليهم لقب
” غوتي ” Guti أي فلاحون ومزارعون ، لكن العرب وفي تراجمهم كتبوها ” الجوتيون ”
وهي كلمة الجمع ” لجوتي ” باللغة العربية ، كما أطلق عليهم علماء الغرب أيضاً اسم Gutians وهي أيضاً كلمة جمع مفردها Guti وقد نقلوها أيضاً من الألواح السومرية ، فكلمة ” جوتي ” هي كلمة كوردية بحتة ، فإذا كانت لا تشير الى الكورد صراحةً ، فهذا لايعني أنهم ليسوا من الكورد ، ففي سورية مثلاً ، يتم تسمية العرب البدو
” بالشوايا ” مع أنهم عرب ، وكذلك يتم تسمية احدى القبائل العربية ” البقارة ” نسبة الى البقر التي يربونها ، والأمثلة كثيرة على ذلك ، لكن هذا لايعني أن هؤلاء ليسوا عرب ، فقد جرت العادة أن ينسب المرء الى اسم البلد الذي يعيش فيه ، فيقال فلان الشامي وفلان الحلبي وفلان الديري وفلان الرقاوي .. الخ أو ينسب الى مهنته ، كالغزّالي الذي يعمل في غزل الصوف ، وكالنجار الذي يعمل في النجارة وكالحداد الذي يعمل في الحدادة …الخ ، فأن يُقال على المزارعين الكورد الذين يسكنون جبال زاغروس والسهول المحيطة بها ” جوتيون ” فهذا لا يعني بأنهم ليسوا من الكورد ، لأن جبال زاغروس لم يسكنها غير الكورد منذ فجر التاريخ والى اليوم .
والشيء الآخر ، هو الوصف الذي ألحقه بهم السومريون في الألواح التي كتبوها ” برابرة وهمج ” فقد يكون هذا بدوافع سياسية لتشويه سمعتهم ، وربما يكون بعض الكهنة الآكديون من كتبوا هذه الألواح حقداً عليهم كونهم أسقطوا الإمبراطورية الآكادية ، والشيء الآخر الذي أود الإشارة اليه ، أن طبائع سكّان الجبال ومن يعيشون حياة البداوه ويعملون في الزراعة وفي تربية المواشي ، تختلف عن طبائع أهل المدن ومن يعيشون في المناطق السهلية ، فأهل البدو وأهل الجبال طبائعهم حادة بعض الشيء ، ولايعرفون ما نسميه اليوم ” الأتيكيت ” أو الديبلوماسية ، على خلاف من يعيشون في المدن ، وهذا ما نستطيع ملاحظته حتى في يومنا هذا ، لذا أعتقد بأن من كتب هذه النصوص السومرية عن الكورد الجوتيون ، بالغ كثيراً في وصفهم ، فأمثالهم من الرعاة والمزارعين موجودون في كل زمانٍ ومكان .
أما سرجون الأكدي ” ابن العاهرة ” كما سمّى هو نفسه ، في أشعاره التي كتبها على ألواح كي تخلد اسمه ! فيبدو أنه كان يعاني من عقد نفسية واضطرابات كثيرة ، فالرجل لا يعرف من هو أبوه ومن هي أمه ، يشعر بالعار في قرارة نفسه ، مما دفعه ذلك كي يحقد على كل شيء من حوله ، يريد الثأر والإنتقام ، فبعض العرب يعتبرونه عربياً كونه كان ساميّاً ، لكن لاتوجد دلائل على ذلك ، فإسمه الحقيقي لم يكن سرجون الأكدي ، بل لم يعرف ماهو اسمه الحقيقي ولا حتى نسبه الحقيقي ، وجد نفسه بين تلك القبائل البدوية التي نزحت من الجزيرة العربية ، لكنه اختار لنفسه اسماً أكدياً ، وتعني باللغة الأكدية ” شارّو كِن” أي الملك الأسد ، واذا كان سرجون ساميّاً في النسب فهذا لا يجعله عربياً لأن اليهود أيضاً أبناء سام ، واذا كان عربياً بالفعل ، فهذا يعني بأن العرب هم أول من سنّوا سنّة الغزو والإحتلال في التاريخ ، فإذا كان قابيل هو أول من سنّ سنّة القتل وسفك دماء كائن بشري ، فإن سرجون الأكدي ، هو أول من سنّ سنّة غزو الشعوب المجاورة واحتلال أرضها والهيمنة عليها وفرض لغته عليهم ، وهو أول من أسس لمنطق انشاء امبراطوريات توسعية تريد الهيمنة على الجميع وابتلاع الشعوب الأخرى واخضاعها لهيمنته ، فمن الواضح أن سرجون الأكدي ، كان عنده نزعة نحو الإجرام ، فقد انقلب على الملك ” يوزبابا ” الذي أكرمه ومنحه نفوذاً وقتله واغتصب الحكم منه ، كما انقلب أيضاً على صديقه الذي تحالف معه ” لوغال زاغيزي سي ” وقتله ، بل حتى أنه قيل بأنه كان على علاقة بزوجته أيضاً ! فالخيانة والغدر كانتا من أطباع هذا الرجل .
ثم كيف يصف التاريخ مزارعون ومربوا مواشي مسالمون في جبالهم ووديانهم يفلحون أرضهم ويسرحون بمواشيهم ، وأعني الجوتيون ” بالبرابرة والهمج : وفي نفس الوقت يخلد التاريخ اسم رجلٍ غزا جيرانه واعتدى عليهم وأسقط دولتهم واحتل أرضهم وفرض عليهم لغته ، وهل هنالك همجية وبربرية أكثر من هذا ، والجوتيون أساساً لم يهاجموا دولة آكاد ولم يسقطوها الا بعدما غزت جيوش الإمبراطوريةجبالهم واعتدت عليهم وأرادت اخضاعهم لحكمها وقتلت منهم الكثير ، فالجوتيون كانوا في موقع الدفاع عن أنفسهم وليس الهجوم ، فكان من الطبيعي أن تنشأ الآحقاد والضغائن بين الجوتيين والآكديين ، ومن الطبيعي أيضاً أن تنشئ قوة أخرى لتقف في وجه أطماع الآكديين الإستعمارية والتوسعية ، فهذه الإمبراطورية وصلت الى حدود اليونان ، وكانت تطمح لغزو أوروبا كلها ، أليس من حق الناس الدفاع عن أنفسهم ضد الغزاة والطامعين في أرضهم وخيراتهم ؟
ألم يؤسس سرجون الأكدي مبدأ ( الإستعمار ) لبقية الطغاة والمستبدين حول العالم والذين جاؤوا بعده واجتاحوا العالم ، فشهدنا بعده هو وأبناؤه سلسلة طويلة من جبابرة الغزو والإحتلال على مر التاريخ وعلى رأسهم اسكندر المقدوني وهولاكو وجنكيز خان وتيمورلنك وهتلر ونابليون وغيرهم الكثير ، فمن يقرأ سيرة هذا الرجل سيعلم بأننا كنا أمام رجل متعطش للدماء يريد ابتلاع العالم والسيطرة عليه .
يبدو أن كُتّاب التاريخ يقفون دوماً الى جانب الطغاة فيمدحونهم دوماً ويرسمون حولهم هالة كبيرة وينسجون حولهم الآساطير ويقدمونهم لنا على أنهم عظماء في التاريخ ، في حين أنهم كانوا مجرمون وطغاة ، ومن جملة مامدحوه زوراً في سرجون الأكدي ، أنه أول من آقام دولة ، وهذا غير صحيحٍ على الإطلاق ، فالسومريون هم أول من آقاموا دولة وبنوا المدن ، لكن الفرق بين الدولة السومرية والدولة الأكدية ” البربرية ” أن الدولة السومرية لم تكن عندها نزعة نحو السيطرة واجتياح العالم واحتلال أوطان وشعوب وقهرها واذلالها وهي آمنة في بلدانها ، لأنها كانت تجنح نحو السلم ومتعطشة للعلم والمعرفة ولم تكن متعطشة للدماء مثل سرجون الأكدي ، فهي كانت منشغلة في خدمة البشرية من خلال الإبتكارات والإختراعات في شتى المجالات التي تخدم الإنسان ، فهي من أسست لكل أنواع العلوم التي تقوم أساساً على القراءة والكتابة والرياضيات ، فهم من اخترعوا الكتابة المسمارية وهم من اخترعوا جدول الضرب وبقية العمليات الرياضية ، بينما كان سرجون منهمكاً في تسخير كل طاقات وموارد الدولة في خدمة نزعته وطموحه الإستعماري ، والدولة السومرية كانت دولة لا مركزية ادارية أي نظامها كان يشبه النظام الفيدرالي في عصرنا هذا ، بينما سرجون الأكدي كان أول من بنى دولة مركزية استبدادية في التاريخ ، وليتها لم تقم دولة آكاد أساساً ، وتركت السومريون يتابعون مسيرتهم في الإبتكارات والإختراعات لخدمة الإنسانية ، ولما سنّوا فينا نحن البشر سنّة الغزو والإستعمار .
كما أنه قيل أيضاً بأن سرجون الأكدي كان أول من فصل الدين عن الدولة ، وهذا أيضاً غير صحيحٍ ، بل هي من المغالطات التاريخية التي تستوجب الرد عليها ، فالرجل جمع الإلهة كلها في الهٍ واحد ، و نصّب نفسه الهاً أوحداً وفوق كل الآلهه ، وليس صحيحاً أيضاً بأنه فصل الدين عن الدولة ، بدليل أنه عيّن ابنته ” أنهيدونا ” في مرتبة القديسة الكبرى للإلهة (إنانا) ومن خلال ذلك مسك زمام السياسة والدين معاً وتحكم بكل مفاصلهما ، وقد ساهمت ابنته كثيراً بتثبيت أركان حكمه ، وفي ذلك اشارة الى تزاوج الدين والسياسة وأنهما أصبحا شيئاً واحداً وفي قبضة يده ، فأراد من خلال هذا اختزال الدين في عائلته فقط ، وماعدا ذلك ، فإن كل ما يصدر عن بقية الكهنة من أمرٍ مخالفٍ لما تقوله ابنته والتي كانت تفتي لصالح أبيها ، هو بمثابة خروجٍ على الآلهة ، وقد استند سرجون الأكدي على هذا الأمر واعتبره تفويضاً الهياً ، وبهذا أخذ الشرعية بقمع الثورات التي كانت تخرج ضده ويخمدها بقسوة ، كونها ثورات خارجة على الآلهة ، ولذلك لايمكن أن نصف مافعله الجوتيون بالهمجية والبربرية في حين أن سرجون من اعتدى عليهم بوحشية وبربرية ، ومن هنا نتأكد فعلاً ، أن التاريخ يكتبه الآقوياء وبما يخدم مصالحهم ، ولذلك قدّموا لنا سرجون الأكدي كشخصية عظيمة في التاريخ البشري ، مع أنه كان رجلاً طمّاعاً وجشعاً يريد ابتلاع الدنيا ، وقدّموا لنا رعاة ماشية ومزارعون مسالمون في أوطانهم وأرضهم على أنهم همج وبرابرة !
وهذا هو دأب المستعمرين الذين تأسّوا بسرجون الأكدي على مر التاريخ ، فكانوا دوماً يصفون الثائرين عليهم بالمخربين والهمج والبرابرة !!
هنالك مقولة بتنا نسمعها اليوم من الكثير من الناس ومفادها ” اذا كان التاريخ يزوّر أمام أعيننا ونحن شهود على الواقع ” فكيف سنصدق كتب التاريخ ؟ وكيف نطمئن بأنها لم تزور ” ونحن لم نكن شهداء عليها ولم نكن حاضرون وقتها ؟ وهذا الكلام دقيق جداً ، فعندما نقرأ النصوص السومرية التي ترجمها علماء الغرب والتي تصف الكورد الجوتيين بأوصاف مثل :
” أنه وجهه بشري ، ماكر كالكلاب ويشبه القردة ” في حين أن المؤرخ ” هنري هويل هاوورث ” وثيو فيليوس بينش ” وعالم الآثار الشهير ” ليونالد وولي ” يؤكدون بأن بشرة الجوتيين كانت بيضاء وشعورهم كانت شقراء ، فيبدو أن هذه النصوص السومرية كتبها خصوم الجوتيين من الآكديين وربما السومريين أيضاً ، وهي أشبه بالكتابات السياسية في عصرنا هذا ، والتي تحمل في طياتها حنقاً وغضباً على بعض خصومهم السياسيين .
فمثلاً ، نجد بأن شيعة الفرس يصفون الكورد بالجن ، وكذلك يصف بعض العرب الشيعة بأبناء المتعة ، وبعضهم يصفون أبناء دمشق بأحفاد تيمورلنك الذي اغتصب جنوده نساء دمشق عندما اجتاحها في القرن الرابع عشر بعد الميلاد ، فهذه الألواح بمثابة منشورات سياسية كتبها بعضهم لتسيء الى خصومهم الكورد وتشوه سمعتهم ، لذا لا يمكن الإعتماد على هذه الألواح والخروج بقناعة بأن الجوتيون كانوا وحوشاً وبرابرة وهمج الى هذا الحد ، فمن الواضح أن هذه الكتابات لم تكن واقعية ومنصفة ، لاسيما نحن لانعرف من كتبها وماهي الدوافع السياسية وراءها ، وبناءً على ذلك لايمكننا تصديق هذه الألواح والتسليم لها على أنها حقائق دامغة ولا بأي حالٍ من الأحوال ، وهذا مايقوله العقل والمنطق .
ويبدو أن الجوتيين لم يكتبوا لغتهم ولم يدونوا أخبارهم ، ولذلك لانعرف عنهم الكثير ، والتفسير المنطقي لهذا ، هو أنهم كانوا بدو ومزارعون ومربوا ماشية ، يعيشون في الجبال والسهول بعيدون عن المدنية والتحضر ، ولذلك لم يحتاجوا الى كتابة لغتهم ، وهذا أمر طبيعي جداً ، فلو نظرنا الى البدو الرحل في البوادي وغيرها على سبيل المثال أو حتى أهل القرى النائية من المزارعين أيضاً ، فإننا لن نجد بين أفراد هذه العشائر العربية من يعرف القراءة والكتابة الا ماندر ، فالذي يعيش في البراري والجبال ، تكون حياته أقرب الى البدائية ، فهو لايحتاج الى تعلم القراءة والكتابة ، يسرح خلف أغنامه من الصباح حتى المغرب ثم يعود الى بيته لينام ، لاكهرباء ولا تلفزيون ولا أنترنيت ، وهذا بمقاييس عصرنا هذا ، فكيف الحال بأناسٍ نتحدث عنهم قبل آلاف السنين .
فالنصوص السومرية التي وصفت الشعب الجوتي بالهمجية والتخلف والبربرية ، تكاد تشبه الى حد كبير آحاديث أهل عصرنا هذا عن البدو ، فتراهم يسخرون منهم وينسجون النكات عليهم ويصفونهم بالغباء والجهل والى ماشابه ذلك من أوصاف ، فكان على الباحثين في شؤون التاريخ ادراك هذه المسائل وأن لايعتمدوا على نصوصٍ من الواضح أن دوافعها كانت سياسية وربما عنصرية أيضاً ، وحتى الفترة التي حكم فيها الجوتيون المملكة الأكدية بعد اسقاطها والتي وصفوفها بالفوضى ، فأيضاً هذا أمر طبيعي يمكننا تفسيره ، لأن الجوتيين كانوا أهل بداوة ، لاتوجد عندهم خبرة في حكم دول وادارتها ، لكن اذا أردنا مقارنة الفترة التي حكم فيها سرجون وأبناءه بالفترة التي حكم فيها الجوتيون ، فبإعتقادي أن السرجونيون – الأب – والأبناء – كانوا أكثر وحشية وبربرية من غيرهم .
وحتى نفهم الأسباب التي دفعت الجوتيين المزارعون ورعاة الماشية أن ينزلوا من جبالهم و أن يتجهوا جنوباً لشن حملة على الدولة الآكادية لإسقاطها ، فيجب أن ندرك بأن حفيد سرجون الأول ” نارام سين ” ملك الدولة الأكادية ، والذي عاش مابين 2273 و2219 ق.م ، كانت فترة حكمه مليئة بالتمردات على حكمه الذي وصف بأنه كان دموياً ، ولاسيما في ماري وماجان وايلام وغيرها ، قاد خلالها الحملات العسكرية شرقاً وشمالاً وغرباً ودخل في حروب وصراعات كثيرة مع الجميع ، فقاد جيشاً كبيراً بإتجاه جبال زاغروس معقل الجوتيين ” Guti ” وضد جماعات ” لولوبي ” Lulubi وضد ملكهم ” أنوبانيني ” Anubanini ” ، والى منطقة ” أوركيش ” حيث تواجد الهوريين الكورد ، وفي المنطقة التي تسمى اليوم تل براك التابعة لمحافظة الحسكة في ( سورية ) حيث كان يعيش فيها الهوريون أسلاف كورد اليوم ، وبنى فيها قصراً بجانب نهر الخابور حيث يقطنها الكورد والى يومنا هذا ، كما هاجم نارم سين مناطق سوبارتو أو شوبارتو Subartum التي يقطنها الشوباريين الكورد أيضاً ، والتي تسمى اليوم شمال ( سورية ) وصولاً الى البحر الأسود شمالاً والى البحر الأبيض المتوسط ، ومع كل حملة غزو كان يقودها كانت تقع فيها ضحايا وقتلى ناهيكم عن السلب والنهب ، وكل هذه الحروب التي قادها ، جعلت نقمة الجميع تزداد عليه وعلى حكمه يوماً بعد يوم .
نارام سين ، سلك درب أبيه في استغلال الدين من أجل مصالحه السياسية ، فشغلت أكثر من واحدة من بناته منصب كاهنات ” إنتو” entu في مدن الدولة الأكادية ، فابنته “إن- مِن- انا” (En-men-ana) كانت كاهنة عليا لمعبد سين في ” أور ” وبنته ” توتا نابشوم” (Tuta-napšum) كانت كاهنة في أحد معابد “نيبور ” وبنته ” سومشاني” (Sumšani) كانت الكاهنة العليا بمعبد شمش في سيبار ، وكما كانت ” إن- خِدو- انانا” (En-ḫedu-anna) بنت “شارو- كينو” (سرجون) كاهنة معبد نانا في أور تمارس دوراً سياسياً بالإضافة لمهمتها الدينية، ولذلك نعتقد بأكذوبة أن الدولة الآكادية فصلت الدين عن السياسة ، فبنات نارم سين قمن بنفس الدور بحيث سيطرن على السياسة أو على الاقل أثرن فيها، فقد وجد ختم لبنته ” تارأم- اكاده” (Tar’am-Agade) في أوركيش عليه مشهد صراع الحيوان (بطل عاري يهزم ثور)، بأغلب الظن أن هذا المشهد يدل على دور سياسي لصاحبته وليس كهنوتي ديني .
ثم حكم بعد نارم سين ابنه ” شار- كالي- شارّي” (Šar-kali-šarri) الذي انتهت الدولة الأكدية بعد 25 عاماً من حكمه ، وهذا أيضاً دليل على أن الحكم في الأمبراطورية الآكادية كان وراثياً وليس كما زعم بعضهم بأن سرجون الأول أصدر قراراً يمنع فيه توريث الحكم ، أو ربما أصدره بالفعل لكن كما يقال ” حبرٌ على ورق ” وبحسب التدوينات البابلية القديمة فإن سبب نهاية أكد هو تدنيس المقدسات من قبل نارام سين . فقد دمر معبد إنليل في نيبور فغادرت إنانا العاصمة آكاد ، وعم البلاء البلاد حيث الملاح لا يستطيع توجيه مركبه ورسل الملك لا يجدون طريقهم ، والحقول لم تعطِ الحبوب ، والجداول لم تعطي السمك ، وبوابات المدن تحولت لغبار ، واستوطن اللصوص الشوارع وفي النهاية تقرر الآلهة دمار أكد لإنقاذ بقية مدن سومر وأكد ، وهذا ماجاء في النصوص السومرية ، فكانت الدولة آيلة الى السقوط أساساً ، ولم يكن الجوتيون هم السبب المباشر كما ادعت بعض النصوص السومرية الأخرى ، وانما جاء كتحصيل حاصل وانتقاماً لجرائم العائلة السرجونية ” الأب والأبناء والآحفاد ” الذين حكموا قرابة قرنٍ ونصف القرن ، ليتم طي صفحتها الى الأبد .[1]