#جودت هوشيار#
صدرت مؤخراً في أربيل وفي يوم واحد أربعة كتب جديدة للأستاذة الدكتورة شكرية رسول ، وعلى نفقتها الخاصة ، وربما كان السبب في إصدار هذه الكتب دفعة واحدة ، هو أختصار ما يلاقيه المؤلف الكردستاني من متاعب في متابعة اعداد نتاجاته للنشر ،
ومن ثم بذل جهود كبيرة في توزيع ثمار عمله المضني وعصارة فكره ، حيث لا توجد في العاصمة أربيل ، دار توزيع للكتب سواء كانت حكومية أو تابعة للقطاع الخاص ، مما يشكل عقبة حقيقية ومأزقاً للمؤلفين ، الذين يضطرون للبحث عن منافذ لتوزيع نتاجاتهم . ونادراً ما بسترجع المؤلف ولو جزءاً يسيراً مما أنفقه على طبع أعماله ، في حين نرى دور النشر والتوزيع في الدول الأخرى ، تسعى للتعاقد مع المؤلفين وتدفع لهم أتعابهم مقدماً مع جزء من الأرباح المتحققة بعد البيع ، وهي أرباح تتصاعد مع أصدار طبعات جديدة للكتاب . لذا فأن ما أقدمت عليه الدكتورة شكرية رسول من تضحية مادية والأهم من ذلك ، هذا النشاط الأبداعي جدير بالأعجاب حقاً ، في زمن يشهد تدني مستويات القراءة ، ويلوذ فيه الناس بالوسائط المتعددة ، هرباً من متاعب الحياة ، ليس في الأقليم وحده ، بل في الدول ( النامية ) عموماً .
الكتب الأربعة تضم أنماطاً أدبية وفكرية عديدة ( قصائد شعرية ، وقصص ، وبحوث مترجمة ، ومقالات وخواطر ) . وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على سعة أفق وتنوع إهتمامات المؤلفة . ولكن ثمة خيط يربط هذه الأنماط جميعً وهو الأبداع بصوره المختلفة .
الكتاب الأول الموسوم مجموعة قصص أجنبية يضم 23 قصة وحكاية قصيرة، أغلبها مترجمة من اللغة الروسية في أوقات مختلفة. بينها قصص وحكايات لثلاثة من عمالقة الأدب الكلاسيكي الروسي والعالمي ( ليف تولستوي ، ايفان تورغينيف ، أنطون تشيخوف ) . وبعضها موجه للأطفال والشبيبة ليس للتسلية وتطوير ذائقتهم الأدبية فحسب ، بل استخلاص الدروس والعبر وتأمل معنى الحياة
إن الترجمة الأدبية من اللغة الروسية الى أي لغة شرقية ، عملية شاقة وشائكة – أقصد الترجمة المكافئة للنص الأصلي - ، وذلك بسبب الثراء الباذخ للغة الروسية ، ووجود كلمات لا يمكن ترجمتها بدقة لعدم وجود كلمات متطابقة المعني في اللغتين المنقول منها والمنقول اليها ، وإن كانت قريبة المعنى ، وذلك لوجود فوارق دقيقة جداً فيما بينها ، وخاصة الكلمات التي تدل على مفاهيم معنوية وروحية . وثمة تعابير وأقوال سائرة لا يمكن ترجمتها ولا نظير لها في أية لغة أخرى .
سألتُ د. شكرية ، كيف تترجمين ؟ ، أجابت بأنها تستوعب روح النص أوّلاً ، وفكرتها الأساسبة قبل الشروع بالترجمة ، وهذا هو أهم شيء في الترجمة عموماً ومن اللغة الروسية خصوصا ً ، وأضيف على ذلك ربما شرطاً آخر هو الأحساس بأيقاع النص ، والحفاظ عليه في العمل المترجم من البداية وحتى النهاية .وقد جاءت الترجمة معبرة عن روح النص وايقاعه ، ولغة في منتهى الفصاحة والجمال .
أما الكتاب الثاني ( خفقات فلب ) فهو ديوان شعر يضم 25 قصيدة كتبت بين عامي ( 1971- 1992 ) .وفي المقدمة القصيرة التي كتبتها المؤلفة تقول : هذا الذي تقرأه أيها القاريء ، كله أسرار وتطلعات أمرأة كوردية كتبتها من أعماق القلب .
قصائدها متنوعة المضامين (غربة الروح ، والغربة عن كردستان ، مأساة الهجرة المليونية في ربيع عام 1991 ، التغني ببطولات البيشمركة ) ، والحب ( بتنويعاته واشكاله المختلفة وفي مقدمتها حب الوطن وليس المعنى الدارج للكلمة حصراً) .
مسحة حزينة وحميمة تغلب على معظم قصائد الديوان . وهي تقول بأنها لا تعتبرنفسها شاعرة ، ولكن كل الكتّاب والأدباء جربوا في مقتبل الشباب كتابة الشعر،للتعبير سواء عن معاناتهم وأحزانهم أو سعادتهم وأفراحهم ، قبل أن ينصرفوا الى كتابة الرواية أو القصة القصيرة أو النقد الأدبي . وهي تكشف لنا سر لجوئها الى عالم الشعر للتعبير عما يختلج في نفسها أحيناً من مشاعر وأحاسيس جياشة ، وهي أن الشعر قد يكون أنسب أداة للتعبير عنها . وهي تتساءل الى أي نمط شعري تنتمي قصائدها ، هل هي شعر منثور أم شعر حر ؟
نحن نعرف من تأريخ الأدب أن الشعر قد ظهر قبل الفنون الأدبية الأخرى ، وكالسابق يتقدم على تلك الألوان الأدبية التي ظهرت بعده ويتطور بخطوات أسرع . الشعر وسع حدوده وامكاناته ، عندما حطّم تلك الجدران التي كانت قد بنيت حوله في الماضي . كيف يمكن دفع هذا الفن الذي لا تتسع له أية حدود ، الى داخل إطار التعريف الكلاسيكي ، فالشعر ليس كلاما منظوماً أو موزونا ومقفى ، لأن الشكل لا يجعل من أي كلام منظوم شعراً . الشعر هو التعبير بالصور ، بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه هذا التعبير ، والتجارب الشعرية الحديثة تثبت صحة ما نقول . قصائد الشاعرة شكرية رسول هي شعر حقيقي ، وليس المهم أن نلصق بها صفة معينة ، وان كانت أقرب الى قصيدة النثر .
الكتاب الثالث يحمل عنوان ( خريف القلب ) ، يتضمن مجموعة متنوعة من المقالات والخواطر والأنطباعات التي كتبتها المؤلفة في فترات مختلفة من حياتها ، وأعتقد أن قسما منها منشورفي الصحف والمجلات وبعضها مثل الكلمة ، التي ألقتها في أربيل عام 2006 في احدى الورش workshop)) وهي تحت عنوان ما أنا ومن أنا ؟ ترجمت الى اللغة الأنجليزية. والتي تتحدث فيها الكاتبة بلغة شاعرية عن قضايا المرأة وعذاباتها ومتاعبها ونضالها في المجتمعات الشرقية المغلقة ، المكبلة بالأعراف والتقاليد والعادات ، التي لا تنسجم مع ما ما بلغته المرأة من مكانة في المجتمعات المتطورة ، كما أنها تشيد بنضال المرأة الكوردية التي أقتحمت مجالات الحياة المختلفة في أقليم كردستان ، لذي يسعى للحاق بركب الحضارة البشرية المعاصرة . وليست هذه الكلمة وحدها بل أن معظم مواد الكتاب تتناول قضايا المرأة من خلال تجاربها الشخصية ومشاعرها واحساساتها المرهفة كأمرأة معتزة بشخصيتها ، ذات ملاحظة دقيقة لمظاهر الحياة وسلوك البشر وعلاقاتهم الأجتماعية في مجتمعنا الكردستاني .
وضمن المجموعة كلمة أو بتعبير أدق نداء وجهته المؤلفة في عام 1992 الى السيدة الراحلة دانيال ميتران أم الكورد تحت عنوان من أطفال كوردستان الى السيدة ميتران تشكرها على دعمها المتواصل للقضية الكردية في المحافل الدولية وتدعوها لبذل المزيد من أجل انقاذ الأطفال الكورد ودعم الشعب الكوردي وصولاً الى تحقيق أهدافه في الحرية والحياة الكريمة والأستقلال . وفي مواضع كثيرة في الكتاب ثمة اشارات الى دور الحب في الحياة ، وتقول أن الحب بمعناه السامي والشامل هو بداية الحياة ونهايتها ومصدر للسعادة ونهر للأحزان في الوقت ذاته .
ولا أريد الأسترسال في الأشارة الى مقالاتها وخواطرها المكرسة لقضايا المجتمع الكوردستاني ، والمصاعب التي لاقتها من أجل حقها المشروع في الحصول على مرتبة الأستاذية في الجامعة . وهنا لا بد لي أن أقول ان التنافس والحسد موجودان لدى البعض في كل مهنة ، وهذا أمر طبيعي في كل مكان وزمان ، ولكن المؤلفة كأمرأة حساسة عانت معاناة رهيبة وصارعت وناضلت من اجل انتزاع حقها أسوة بالأساتذة الرجال الآخرين الذين نالوا مرتبة الأستاذية ومعظمهم ليس بأكثر منها عطاءاً وإنتاجاً ويشهد بذلك (32) كتاباً مطبوعاً لها قبل نيلها لقب البروفيسورة.
ولعل من أهم المقالات التي يتضمنها الكتاب مقال بعنوان تطوير اللغة والثقافة الكردية من مهام برلمان وحكومة كوردستان حيث تشيد المؤلفة بدور المثقفين الكورد في الحركة التحررية الكوردية وفي استنهاض الجماهير وخدمة المجتمع وتطوير الثقافة الكوردية ، وتشدّد على ضرورة العناية بهم وباللغة الكردية وضرورة الحفاظ على نقاوتها من كل تشويه وتحريف . كتب هذا المقال في عام 1994 ، ولم تكن الأكاديمية الكوردية قد ظهرت للوجود بعد . صحيح أن قرارات البرلمان والحكومة مهمة في هذا المجال ، ولكنني أعتقد أن هذه هي المهمة الأولى والأساسية للأكاديمية الكوردية في المقام الأول .
إن وضع الأسس للغة كوردية موحدة ، لتكون لغة الآداب والعلوم والآداب ، مهمة علمية مباركة وإن كانت شاقة . ورغم أن الأقليم شهد عقد مؤتمرات وندوات عديدة مكرسة لهذا الموضوع، الّا أن ذلك لم يؤد الى نتائج ملموسة على أرض الواقع . لذا فأن نداء د. شكرية رسول في محلها رغم مضي أكثر من عشرين سنة على صدوره، لأن المعضلة ما تزال قائمة ولم تحل حتى يومنا هذا . ولعل هذا النداء القديم – الجديد ، يكون حافزاً لبذل المزيد من الجهد العلمي في هذا المجال .
وتختم المؤلفة كتابها ببحث قصير شيق عن الشعر ومسيرة تقدمه ، تشير فيها الى أن الشعر من أقدم الأجناس الأدبية في كل آداب العالم وبضمنها الأدب الكوردي وأن للشعراء الدور الأهم في تطوره، وتشير إلى دور الشاعر الخالد بيره ميرد في تقدم الشعر الكوردي واللغة الكردية ، وتورد المؤلفة طائفة من الكلمات والمصطلحات التي أدخلها الشاعر الى اللغة الكوردية منها ( به روه رده – التربية ، سه ره تا – البداية ، كريكار- عامل ، كه مته رخه م – مهمل (مقصر) ، وه ركيران – ترجمة ، سووته مه ني – وقود ، ئاكار – أخلاق ) وغيرها كثير .
أما الكتاب الرابع فهو ترجمة لكتابنا ذخائر التراث الكوردي في خزائن بطرسبورغ الى اللغة الكوردية. كتابنا صدر باللغة العربية في أربيل عام 2011 ونفد خلال فترة وجيزة ، وتؤكد د. شكرية رسول الى ان اهمية هذه المخطوطات - كما جاء في المقدمة - تكمن في أنها تعد حداً فاصلا في تأريخ الأدب الكوردي وتأريخ الكوردولوجيا ، حيث أثبتت هذه المخطوطات الثمينة أن للكورد أدباً كلاسيكياً رائعا ، في حين كان الأعتقاد السائد بين المستشرقين قبل ذلك ، أن الأدب الكوردي يقتصر على التراث الشعبي بشتى ألوانه وصوره ، ولم يكن أحد من المستشرقين يتوقع أن يكورد للكورد هذا الأدب الكلاسيكي الباذخ والقيم فكراً وفناً .، إضافة الى الآثار الأخرى في العلوم الأنسانية .
يضم الكتاب ( 84 ) مخطوطة نفيسة محفوظة في مكتبات مدينة بطرس بورغ الروسية وتحليل مضامينها ، ومقارنتها بما هو موجود من مخطوطات كوردية في كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكوردستان نفسها . كتابنا كانت نداءاً ، بل صرخة للأهتمام بهذه المخطوطات وارسال فريق علمي الى روسيا لتصويرها في الأقل تمهيداً لدراستها وسد الثغرات في مسيرة العلم والثقافة الكوردية ، بيد أن نداءنا ذهب أدراج الرياح .
لقد يأسنا من التفاتة الجهات المسؤولة عن العلم والثقافة في أقليم كردستان الناهض ، ( وزارة الثقافة ، والأكاديمية الكوردية وإتحاد الأدباء الكورد وغيرها، الى هذه الدرر ، التي تشكل خير ما في التراث الكوردي من آثار أدبية ولغوية وتأريخية وأثنوغرافية وإجتماعية وفولكلورية . وقد جاءت الترجمة الكوردية للكتاب ، بلغة كوردية رائقة وجميلة ، وسلسة في آن واحد . كما كتبت البروفيسورة الدكتورة شكرية رسول مقدمة قيمة للترجمة الكوردية ، وأرى من واجبي أن أشكرها على الجهد الكبير الذي بذلته سواء في الترجمة أو في إخراج الكتاب بحلة قشيبة . وأن اوجه اليها التحية من هذا المنبر الرصين .[1]