جميل حنا
في الذكرى السابعة والتسعين التي تصادف في الرابع والعشرين من نيسان لمجازرإبادة المسيحيين في السلطنة العثمانية التركية نقدم عرضا ملخصا في هذا الجزء عن كتاب الدم المسفوك للمؤلف عبد المسيح نعمان قره باشي الذي يعرض وقائع تاريخية عن مجازرالإبادة العرقية التي تعرض لها المسيحيون في بلاد ما بين النهرين أثناء فترة أعوام الحرب الكونية الأولى 1914-1918وسقط في هذه المذابح الرهيبة أكثر من نصف مليون من أبناء الأمة الآشورية من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق وكنيسة السريان الكاثوليك والبروتستانت.وكما خسرالشعب الأرمني في هذه المجازرالرهيبة مليون ونصف من الشهداء على يد السلطات العثمانية وأستشهد مئات الآلاف من اليونان وقتل كل هؤلاء بسبب عقيدتهم الدينية وإنتمائهم القومي.
قبل الدخول في صلب الموضوع لا بد أن نعرف القارىء الكريم بشكل مختصر جدا عن حياة المألف البارع, وأهم أعماله في خدمة شعبه والإنسانية. وفي مجال التعليم وتوثيق الحقائق التاريخية التي عاصرها لتبقى شاهدا حيا على معاناة شعوب تعرضت للظلم والقتل الجماعي على أسس عرقية ودينية.وليكن هذا الكتاب كغيره من الكتب والمؤلفات التي بحثت في مواضيع التطهير العرقي حافزا لكل إنسان شريف في هذا الكون, بغض النظر عن إنتماءه الديني او العرقي الإمعان بإن هذه الأعمال الإجرامية تنافي القيم الإنسانية والشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية.الجرائم التي ترتكب بحق البشر مدانة تحت أي حجة كانت سياسية أو دينية او عرقية او على أساس المصالح الإقتصادية أو من أجل السلطة كما يحدث في منطقة الشرق الأوسط في وقتنا الحاضر.وقد أكدنا مرارا ان ذكر الوقائع التاريخية الحقيقية ليست بهدف زرع الكراهية بين الشعوب, بل بالعكس هي من أجل يقظة الجميع والإرتقاء بالوعي الإنساني والأخلاقي بمنع إرتكاب مثل هذه الجرائم الفظيعة لأننا جميعا أخوة في الإنسانية ولنعمل سويا من أجل البشرية كلها والعيش بسلام ومن أجل مستقبل أفضل لكافة الشعوب في هذا الكون.
ولد عبد المسيح في قرية قره باش من قرى آميد(ديار بكر) في عام 1903من والدية نعمان ووالدته منوش ونسب إلى قريته فعرف طيلة حياته بأسم (عبد المسيح قره باشي). وفي السادسة من عمره توفي والده,وفي عام 1911 أرسله المطران الياس شاكر مطران آميد إلى دير الزعفران في #ماردين# وهناك تعلم اللغة السريانية والعربية والتركية وعلم اللاهوت.في عام 1921 غادر الدير وعاد إلى آميد لأن سكان قريتة تم إبادتهم.وبعد ذلك سافر إلى بيروت وفي عام 1926 علم في الميتم السرياني في بيروت وفي عام 1937 دعي إلى بيت لحم في فلسطين لتعليم اللغة السريانية وبعد سنتين أنتقل إلى القدس حيث علم السريانية لمدة 12 عاما وفي عام 1951 أختار القامشلي في سوريا ليعلم في مدارسها لمدة 17 عاما لحين أغلاقها من قبل سلطات البعث العنصري في عام 1967وفي عام 1972 عاد إلى بيروت ودرس اللغة في أكليركية مار آفرام اللاهوتية,بتاريخ 24 حزيران 1983 لبى نداء ربه في بيروت.من أهم مؤلفاته: الدم المسفوك بالسريانية (ܕܡܐ ܙܠܝܚܐ- دمو زليحو),- سلسلة كتب لغوية وقواعد وآدب سرياني – ترجمة رباعيات الخيام في 351 بيتا –ترجمة بتصرف تاريخ كلدو آثور للمثلث الرحمة المطران الشهيد آدي شير, كما ترجم إلى السريانية كتابي النبي و يسوع أبن الإنسان لجبران خليل جبران, ومقالة الوجود لميخائيل نعيمة,وكتيب البستاني لرابندرانات طاغور, كما له ديوان شعر في مواضيع مختلفة مثل حب الوطن والأمة والحب والغزل...الكاتب يعتبر رائد تعليم اللغة السريانية في القرن العشرين حيث ترك إرثا لغويا كبيرا لأبناء شعبه ومن المهتمين الباحثين في هذه اللغة.
كتاب الدم المسفوك مقسم إلى ثلاثة أبواب,الباب الأول يتحدث الكتاب عن إضطهادات المسيحيين منذ بدء رسالة التبشير بالدين الجديد على يد اليهود والرومان في العهود الوثنية والفرس مرورا بكافة الغزاة الذين أجتاحوا بلاد مابين النهرين وبلاد الشام.الباب الثاني يبحث في مجازرعام 1895في المناطق الجنوبية من تركيا الحالية,والباب الثالث وهو يشكل الجزء الأكبر من الكتاب مكرس لمجازر إبادة المسيحيين في طور عابدين في جنوب شرق تركيا حاليا في آميد(ديار بكر) وماردين وتوابعها.ترجم الكتاب من اللغة السريانية إلى اللغة العربية نيافة المطران ثاوفيلوس جوج صليبا مطران جبل لبنان صدر في عام 2005.كتاب هام جدا يضم في صفحاته حقائق تاريخية مأساوية عاصرها المؤلف كشاهد عيان على الفظائع الرهيبة التي حلت بشعبه وبالمسيحيين إجمالا تحت حكم السلطات العثمانية وأدواتهم المنفذة لتلك الجرائم البشعة من غالبية العشائر الكردية المتحالفة مع القوى الظلامية العثمانية على أسس الأحقاد الدينية والقومية ومن أجل المكاسب المادية الشخصية.
كتاب الدم المسفوك وثيقة تاريخية هامة تسلط الضوء على مراحل تاريخية مليئة بكوارث الحروب المدمرة التي دمرت كيان حضارات مزدهرة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. والكاتب يقدم لنا في الباب الثالث الذي يتكون من ستة فصول كيفية بدا الحرب وأسبابها ويحدث عن الوضع العام السائد آنذاك والباب الرابع يتكون من أحدى وأربعون فصلا يقدم فيها صورة حقيقية عن وقائع تلك المجازر الرهيبة والتي عاصرها كشاهد عيان. إذ يذكر بداية الحرب العالمية الأولى.(نشبت الحرب العالمية الأولى في الشهر الثامن آب من عام 1914,حيث كان دخان الحقد والغضب يرتفع من مختلف أنحاء المسكونة,والممالك الكبيرة المهمة تزمجر مهددة الواحدة الأخرى,وكل منها ينظرإلى الأخرى بعين حاقدة متوعدة وقد امتلأت قلوب الحكام ضغينة ونقمة,بل تسعى كل أمة إلى افتراس الأخرى بالهجوم والانقضاض لتحتلها وتسيطر عليها وتبسط سلطتها عليها وبالتالي على العالم,كل العالم...باقتناء الأسلحة على أنواعها ...وهي تزرع الرعب والحقد والبغضاء في نفوس مواطنيها ليقاوموا كل مملكة أو أمة تقف حائلا دون تحقيق أطماعها وجشعها).ويستمر الكاتب في نظرته التحليلية الثاقبة عن أسباب إندلاع الحرب الكونية الأولى وإنخراط الإمبراطورية العثمانية في تلك الحرب عل أثر مقتل ولي عهد مملكة النمسا وزوجته في عام 1914 في صربيا. وإثر ذلك شنت النمسا الحرب على صربيا بتاريخ 28تموز 1914وبعد ها بأيام معدودة تكون حلف ألمانيا النمسا وتركيا وبلغاريا وفي الجانب الآخر بريطانيا وفرنسا وروسيا,وآخرين أنضموا لكلا الحلفين لاحقا.
السلطة العثمانية كانت تربطها علاقات تحالف قوي مع ألمانيا وكانت تتبع السياسة الألمانية لأن ألمانيا كانت تقدم لها الدعم العسكري والمالي والدفاع عنها ضد دول التحالف. حتى أن غليون ملك ألمانيا كان يصرح علنا قائلاً:ليتأكد الثلاثمائة مليون مسلم المنتشرين في كل المسكونة, ان قيصر المانياهو صديق مخلص للمسلمين مدى الحياة.وكان القصد من ذلك أن يثير حفيظة وعواطف المسلمين الخاضعين للأنكليز أن يقوموا ضدهم.ويتطرق الكاتب إلى دور أنور باشا السىء الذي كان العوبة في يد الألمان ينفذ مشيئتهم.ويتسائل الكاتب بإندهاش وغرابة كبيرة كيف أرتضت النمسا وألمانيا بقتل المسيحيين وإبادتهم في الأمبراطورية العثمانية.(بل بالعكس فانهم شجعوا وحرضوا العثمانيين على سفك دماء المسيحيين الزكية على الرغم من كونهم من أتباع ديانة الألمان أي مسيحيين مثلهم). التاريخ يعيد نفسه الكاتب توفى في عام 1983 ولم يرى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما حصل من مجازر وتهجير قسري واضطهاد وتدمير للمسيحيين العراقيين تحت الحماية الأمريكية وحتى يومنا هذا حتى بعد إنسحابهم ولم يقدموا أي دعما للمسيحيين بل قدموها للمسلمين.
يتحدث الكاتب عن مساوىء العثمانيين وعدم إحترام شرعة القوانين الدولية وحتى تلك التي وقعوا عليهاإذ يقول (واضح أن قوانين وشرائع ودساتير وشروطا تحكم الحروب.وليس مسموحا لأية مملكة أو دولة أن تتجاوزها.وإذا لم تخضع لهذه القوانين والأسس,تدان بحسب الأحكام والقوانين الدولية, ومن هذه القوانين المتعلقة بالحروب, ان الحرب تكون بين الجيوش والمحاربين فقط. وغير مسموح أن تمس أحد حياة وحرية الشيوخ والنساء والأطفال).يتطرق المؤلف إلى مؤتمر عام 1899 الي عقد في مدينة لاهاي/هولنداوحضره ممثلي اثنين وعشرين دولة من ضمنها تركيا. وسنت قوانين مفيدة أهمها:ان القوات المتحاربة هي عدوة بعضها البعض, ممنوع أن يمس الآذى والخراب المواطنين العزل. كما نصت هذه القوانين ألا تصادر حرية الناس عند احتلال مدنهم. ومن لم يلتزم بها يدان حسب بنود المعاهده .وبالرغم من ذلك عندما أندلعت الحرب وقرعت طبولها أنبرى الشيوخ في المساجد يخطبون ويدعون الناس في الساحات والمجتمعات وفي السراي إلى الجهاد والحرب وضرورة ذلك,والقضاء على الكفار(الكاور)وسلب أموالهم وممتلكاتهم وسبي نسائهم بدعم ومساندة السلطات الحاكمة وفق آوامر عليا أو حتى بدونها.ونقولها بأسف وألم شديد حتى بعد مضي 97عاما من إرتكاب المجاز الوحشية بحق المسيحيين في الدولة العثمانية, مازال هذه العقلية سائدة في عقلية آوساط دينية مسلمة والسلطات الحاكمة في الغالبية الساحقة من بلدان الشرق الأوسط.آن الآوان للتخلص من هذه العقلية العنصرية المقيته ومن الهمجية والتعطش إلى دماء الأبرياء من الناس الذين لا ذنب لهم ما يحصل في بلدانهم, والألمان هم شركاء العثمانيين الأتراك في إرتكاب مجازر إبادة المسيحيين في بلاد مابين النهرين.
يقول الكاتب عندما كان في دير الزعفران- ماردين(مذ نشبت الحرب العالمية الأولى 1914,أخذت بقدر ما استطعت ان أدون الحوادث المهمة التي كنت أعاينها أو أسمعها من بعض الناس الصادقين).سجل المؤلف بعناية تواريخ الأحداث والأشخاص والقرى والمدن والكنائس والأديرة ورجال الدين وقوافل المساقين إلى الخدمة العسكرية منذ الثالث من آيار عام 1914 من السن العشرين إلى الخامسة والأربعين من العمر.(يوم الجمعة 21 آب تم حرق ألف وخمسمائة وثمانية وسبعين محلا تجاريا ودكانا ومركزا وجميع هذه المحلات كانت ملكا للمسيحيين وهذه كانت بقرار من والي ديار بكر ويوم الأثنين بتاريخ24 آب أنهال العسكر والقوات على الدكاكين والحوانيت في مدينة ماردين وسرقوا ونهبوا كل الموجودات في المحلات التجارية , وفي يوم 14 أيلول هجم العسكر على كنائس المسيحيين وألقوا القبض الكهنة واشمامسة والعلمانيين وساقوهم إلى السري ولم ينج من أيديهم إلا من تمكن سرا أن يعطيهم مالاكرشوة).اليوم لا يوجد في مدينة ديار بكر إلا بضع عائلات مسيحية وحينها كانت غالبية السكان منهم وكذلك الحال بالنسبة لمدينة ماردين ومنطقة طورعابدين وهكاري حتى بحيرة وان. للموضوع تتمة لاحقا.[1]