تصدّرَ الأكرادُ المشهد الدّينيّ في وسائل الإعلام الرسميّة في سوريا لعقود، فالمفتي هو الشّيخ أحمد كفتارو، وصاحب الدّراسات القرآنيّة كلّ أربعاء الدّكتور البوطي، ورمز البرامج الدّينيّة إعداداً وتقديماً مروان شيخو ومن بعده وريثه في المشهد شقيقه عدنان شيخو؛ كلّهم من الأكراد.
الأكراد.. حضور في المأساة وغيابٌ عن الخطاب الدّينيّ
لكنّ هذا كلّه لا يمكنه التّغطية على الحال المأساويّة التي كان يعيشُها الأكراد في عهد حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشّار الأسد، فمئات الآلاف من أكراد سوريا توزّعوا بين مكتومي القيد غير المسجلين في القيود الرسميّة، ولا يحقّ لهم أيّ شيء ممّا يحقّ للإنسان من تعليم أو طبابة أو تسجيل العقود من زواج وغيره، بل حتّى تسجيل الأبناء غير متاح فهم مكتومو القيد كآبائهم، ويُمنعون من السفر والتنقل من محافظاتهم إلى أخرى داخل سوريا إلا بعد حصولهم على موافقة أمنية خاصّة. وهؤلاء تجاوز عددهم 170 ألفاً مع بداية عام 2011م، حسب إحصاء بعض المنظمات الحقوقيّة غير الحكوميّة.. والأكراد الأجانب الذين تم منحهم بطاقة أجنبي، وبناء عليها يمنع أحدهم من أيّة حقوق تقتضيها المواطنة وتتم معاملته معاملة الأجنبي، ولا يحق له التملك أو العمل. وتجاوز عدد هؤلاء 345 ألفاً من الأكراد في سوريا حتى عام 2011م، حسب إحصاء منظمات حقوقيّة غير حكوميّة.
وهؤلاء لم يكن لهم أيّ ذكرٍ في الخطاب الدّينيّ سواء من العلماء الأكراد أو من غيرهم، بل كان الحديث عنهم وعن مأساتهم في ظلّ دولة البعث يعدّ جريمة تندرج تحت عنوان إثارة النّعرات العرقيّة والإثنيّة.
الخطبة الشّرارة واندلاع المعركة
في عام 2003م قرعت طبول الحرب مستهدفةً العراق، فوجّهت أجهزة الأمن الخطباء والدّعاة عبر وزارة الأوقاف إلى ضرورة استنفار طاقات الشّباب لمواجهة هذا العدوان الذي يستهدف بلداً شقيقاً، وفتحت أجهزة الأمن الحدود ويسّرت السّبل لوصول الشّباب المتحمّس إلى العراق للانخراط في أجهزة النّظام العراقي - العدوّ اللّدود لعقود - للدفاع عن العراق.
كانت خطب الدّكتور البوطي آنذاك كعموم خطباء سوريا حول هذا العدوان الإجراميّ الذي يستهدف بلداً شقيقاً، بل يستهدف الأمّة جمعاء.
في يوم الرّابع من نيسان/ أبريل 2003م، أي قبل سقوط بغداد بأيّام، خطب الدّكتور البوطي خطبةً عنوانها المسلم أخو المسلم لا يظلمه لا يسلمه لا يخذله، يتحدّث فيها عن خيانةٍ تعرّض لها العراق في جنوبه وشماله، فتحدّث عمّا أسماها خيانة الجنوب، معرّضاً بالشّيعة دون التّصريح باسمهم فقال:
إذا سمعنا اليوم خَرْقاً حصل في جنوب أو غير جنوب فإنّما تحقّق هذا الخرق بسبب خيانة، ولولا هذه الخيانة لما تحقّق هذا الخرق أبداً. سُنَّة ماضية من سُنن ربّ العالمين، استوعبناها في تاريخ الإسلام الأغرّ، لا يأتي هذا السُّنَّة أي شذوذ لا من بين يديها ولا من خلفها. على المسلمين جميعاً أن يعلموا، على اختلاف فئاتهم ومذاهبهم وفرقهم، أنّ هذا العدوّ الطّاغية الذي جاء من آخر الدنيا ليغزو أرضاً إسلاميّة؛ لن يكون أكثر احتراماً للعتبات المقدّسة من الحكومة العراقيّة المسلمة.
ثمّ انتقل للحديث عن الأكراد بأسلوبٍ صريحٍ فيه تصعيدٌ لافت، فقال:
ما أقوله لكم عمّا يجري في الجنوب هو ذاته الذي أقوله لكم عمّا يجري في الشمال، أنا كردي أيّها الإخوة، ولكنّي أضع نسبتي هذه تحت قدمي، عندما أنظر فأجد أناساً من أبناء جلدتي يخونون الله سبحانه وتعالى، ويمارسون العبوديّة المهينة الذّليلة لهذا العدوّ الآتي من أقصى العالم بهدفٍ يخدم به الصهيونية العالمية.
أجل؛ أنا أتشرّف بأن أضع نسبتي هذه تحت قدمي عندما أجد هؤلاء الناس يمثّلون الخيانة القذرة في شمالنا العراقي.
غدت عبارة الدّكتور البوطي أضع نسبتي الكرديّة تحت قدميّ هي الأشهر حينها، وأصبحت المانشيت الذي تناقلته المواقع المختلفة لا سيما الكرديّة منها.
ثارت ثائرة الأكراد وتعاملوا مع هذه الكلام على أنّه إهانة موجّهة للقوميّة الكرديّة والشّعب الكرديّ، وليس إلى شريحة معيّنة من الأكراد.
ملحوظات على كلام الدّكتور البوطي
وهنا أسجّل الملحوظات الآتية على كلام الدّكتور البوطي الذي أثار معركةً، وتعرّض بسببه إلى هجوم كبير من عشرات الكتّاب الأكراد في عشرات المواقع والمنتديات:
الملحوظة الأولى: يناقض الدّكتور البوطي نفسه في موقفه من الأكراد حين يقول هذا الكلام بحقّ الانتماء الكرديّ عامّة بسبب خيانةِ شريحةٍ منهم، وهو الذي يقول في مقدّمة رواية ممو زين الملحمة الكرديّة التي قام بنقلها إلى العربيّة:
قد يطيب لبعض من يقرأ هذه القصة أن يتصوّر أنّها رمزٌ لحالة شعبٍ يكافح منذ عهدٍ بعيد لنيل حقوقه، والتّمتع بالحياة الكريمة التي يتمتّع بها الآخرون.
إنّ لهم أن يتصوّروا ذلك، على أن لا ينسَوا أنّ هذا الشّعب الذي يعنون - وأنا واحد من أفراده - كان ولا يزال مغرماً بتقطيع أوصال نفسه والتألب على ذاته.
ثمّ يقول: وعندما يبدأ الشعب الكردي فيكون أول راحمٍ لذاته ويعكف بجدّ على جمع شمل نفسه؛ سيجد من حوله كثرة ًكبرى تتسابق إلى احترامه ومدّ يد العون له.
إنّ اللّغة التّعميميّة في التّخوين، والقسوة في التّعبير، هي جزءٌ من تقطيع الأوصال الذّاتيّ الذي حذّر الدّكتور البوطي الأكراد منه في مقدّمة روايته، وهو يتناقض مع دعوته إلى جمع الأكراد شمل أنفسهم ابتداءً.
ثمّ إنّ خيانةَ أيّة شريحةٍ أو أيّ فئةٍ في أيّ مكوّن قوميّ أو عرقيّ أو دينيّ لا تسوّغ على الإطلاق الحكم على المكوّن كلّه بالسّلب ووضعه تحت الأقدام.
الملحوظة الثّانية: إنّ ما يصفُ به الدّكتور البوطي الأكراد ينطبق تماماً على نظام حافظ الأسد الذي شارك بجيشه في قوات التّحالف في حرب الخليج عام 1991م ضدّ النّظام العراقيّ نفسه. فصمت الدّكتور البوطي عن نظام الأسد وتمجيد أفعاله ووصف حافظ الأسد بأوصاف الإيمان ثم وضع نسبته الكرديّة تحت قدميه واتّهام الأكراد بالخيانة؛ جعل الأكراد يشعرون بانحياز الدّكتور البوطي ضدّهم وتناقضه في الموقف حيالهم.
لم يتراجع الدّكتور البوطي عن موقفه رغم شراسة الحملة التي تعرّض لها من مختلف المكوّنات الكرديّة، ويمكن القول إنّ هذه الخطبة وهذه المعركة كانت سبباً في انفضاض كثيرٍ من الحاضنة الكرديّة من حوله، وتناقص شعبيّته في أوساط الأكراد الذين كانوا يعدّونه حتّى تلكم اللحظة أحد أهمّ رموزهم الدّعويّة والشرعيّة.
بعد هذا؛ كيفَ كان تعامل بشّار الأسد مع الدّكتور البوطي؟ وبم اختلف عن تعامل أبيه حافظ الأسد، وما هي نظرة الدّكتور البوطي لبشّار الأسد؟ هذا ما سنجيب عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.[1]