#دياري صالح مجيد#
تحدثت الكثير من المقالات في العديد من المواقع والصحف الورقية والإلكترونية عن قضية الكورد الفيلية باعتبارها واحدة من القضايا المهمة التي تعد من بين تركة النظام السابق، وهي تركة ثقيلة بكل أبعادها، خاصة وأن ساعة الزمن قد دقت لبدء محاكمة المتهمين بتهجيرهم إلى إيران بحجة التبعية غير العربية وهو ما جر عليهم كثير من الويلات والمصائب التي باتت معروفة ظاهرياً لعدد غير قليل من أبناء العراق بفضل الكثير من تلك الكتابات وبفضل العديد من نداءات الاستغاثة التي أطلقها كتّاب ومثقفو العراق إلى الجهات المسؤولة في مركز القرار الآن في العراق، من أجل النهوض بمسؤوليتها حيال هذه الشريحة التي حملت أعباءً جسام لايعرف مدى ثقلها وانعكاسها على حياتهم إلا الله والراسخون في العلم والمحبون للحياة المدنية والمناصرون لبني الإنسان في أي زمان وفي أي مكان ومن أي جنسية أو قومية كان. وكان من بين تلك النداءات الصادقة والمعبّرة نداء أطلقه مفكرنا الكبير الدكتور كاظم حبيب وشارك في تأييد دعوته تلك العديد من مبدعي العراق والعالم ومنهم صاحب هذا المقال إيماناً منهم بضرورة رفع الغبن والإجحاف عن أبناء هذه الفئة المظلومة، لكن إلى أين وصل هذا النداء؟ وهل حقق ما كنا نتمناه؟... سؤال أتمنى على من أخذ على عاتقه إطلاق هذه الصرخة أن يجيب عليه.
عرف الكورد الفيلية في أوساط العراق قبل مئات وربما آلاف السنين من قبل أن يكون هناك دولة العراق الرسمية، فكانوا ولازالوا مشاعل خيرٍ وابداع في مجمل مسارات العمل الثقافي والسياسي والاقتصادي في العراق، كما كانوا حاملين لهم عراقيتهم التي لم ينفصلوا عنها رغم الإنكار والمجافاة التي لاقوها من أناس كان من الأجدر بهم أن يردوا الجميل لهؤلاء البناة بأفضل منه، لكن هل يقوى صنّاع القتل وإراقة الدم على رد الجميل لفيلية العراق؟ أمر أثبتت سنوات الظلم العجاف التي عشنا مرارتها خلال 35 عام بأن الحاقدين على ثوار الشعب العراقي وفئة مهمة من فئات المبدعين فيه، لا يروق لها أن ترى، في ظل الشوفينية التي كانت تملأ رؤوسها العفنة، أمثال هؤلاء وهم يؤسسون مع بقية إخوانهم العرب لاقتصاد وثقافة العراق رغماً عن أنوف كارهيه وكارهيهم ممن ألحقوا العار بالعراق وأدخلوه وأبناءه الى محارق الحروب الداخلية والخارجية، وكان للأسف الشديد الكورد الفيلية ((أصلاء بلدي العراق)) وقوداً لنار الحرب العراقية-الإيرانية بعد أن أُلقي الآلاف من خيرة شبابهم في حقول الألغام وفي مقدمة القوات الزاحفة نحو الحدود فكانوا الكبش الذي ضُحي به إرضاء لطموحات رجل مريض مهووس بالشوفينية وبالحرب وبإراقة الدماء، فلم كل ذلك ياترى؟
يحدثنا الكثير من المفكرين بأن الكورد الفيلية يحملون عبئاً أكبر من العبء الذي يحمله الكورد والشيعة معاً فما وقع على هذين المكونين منفرداً وقع على الكورد الفيلية مجتمعاً على اعتبار أنهم كورد قومياً وشيعة مذهبياً. ومع احترامنا الشديد لمدى صحة هذا الرأي، لكننا نقول بأنه لا يمثل إلا الحقيقة من أحد أوجهها، أما الوجه الآخر فيتمثل في عناصر عديدة أخرى لايمكن لنا أن ندعي بأننا قادرون على حصرها هنا في هذا المقال المتواضع لأننا لابد وأن ننسى أو نجهل بعضاً من تلك الخصائص التي ربما تفسر شيئاً من حقد ذلك النظام على هذه الفئة، ومن بين هذه الخصائص أن الكورد الفيلية كانوا مؤسسين أو مشاركين في تأسيس العديد من الأحزاب السياسية في العراق الدينية منها أو غير الدينية وكان أغلب تلك الأحزاب يكنّ العداء للفكر الشوفيني المتطرف الذي كان يحمله دعاة القومية المتعصبين، كما أن القارئ لتاريخ العراق يعرف جيداً أنهم كانوا المعقل الأخير لمقاومة ثورة الإنقلابيين في 8 شباط 1963 في منطقة حي الأكراد، يضاف إلى ذلك أن الكورد الفيلية يشكلون أقلية داخل نطاق الأقلية الكردية. ومن المعروف للجميع أيضاً أن الأقلية في أي مجتمع من المجتمعات التي نعيش فيها في ظل ما يعرف جغرافياً بالعالم العربي، تسعى جهد إمكانها إلى الإبداع في أي ميدان من الميادين التي تستطيع أن تجد فيها فرصة مناسبة لها لتفجر فيها طاقاتها؛ لأن مثل هذا الأمر سيعوض عنها حجمها العددي في المجتمع نحو تعزيز مكانتها الاجتماعية لتكون صفاتها الأخلاقية في التعامل والتفكير مثالاً يحتذى به داخل هذا المجتمع، وهو ما نجح الكورد الفيلية في تحقيقه عبر العديد من المجالات والمؤسسات ولعله لو كان تاريخ سوق الشورجة وغيره من المناطق، يقدر له بالنطق بلسان عربي فصيح، لقال ما لا نستطيع قوله في هذا المقام، ولعل لسان حال التربية والتعليم في مؤسساتها المختلفة لن يتردد هو الآخر في القول بصدق كصدق الثقافة العربية التي أبدع فيها الفيلية مع أشقائهم العرب، بأن أولئك كانوا بذرة خير في نشأة أجيال تدين بالفضل لهذا المعلم أو لذاك المفكر ممن ينتمي إلى الكورد الفيلية، فبعد كل هذا هل نتعجب مما فعل معهم شخص يكره أن تكون في العراق فئة تؤسس مع الآخرين لثقافة التسامح والتعايش السلمي في بناء العراق. علينا إذاً أن ننفي العجب من رؤوسنا عندما نعرف أنه اختار لهم تهمة التبعية الفارسية وألحقهم بإيران التي لم تكن تطيق أمثال هؤلاء المبدعين على أراضيها فالمبدع خطر تخشاه دول يعشش الظلام في رؤوس قادتها.
أسقطت الجنسية عن كثير من أبناء الكورد الفيلية وليس جميعهم، فبعد التمحيص والتدقيق والمراقبة تمكن البعض منهم من الإفلات من تهمة التبعية والتعرض إلى أزمة التسفير والتشرد في أصقاع الأرض بلا هوية رسمية وبلا انتماء معترف به. مع كل ذلك ومع كل هذا الظلم والإجحاف والإنكار لحقوقهم لازال هؤلاء وأقصد منهم بالذات كبار السن ممن تحملوا عبئاً لاتتحمله الجبال الشوامخ، ولأنهم أقوى من الجبال إرادة وأصلد من الجبال عزيمة، لازالوا يغذون أبناءهم حب العراق الذي سلبهم حق الحياة والانتماء، وهي معادلة لم يفهم البعض لحد الآن كيفية حل رموزها، فأمام الظلم المفرط الهمجي نجد لغة عالية من التسامح والحب بطابعه المدني لكل ماهو عراقي! لاتعجب قارئي العزيز من صفات هؤلاء؛ هم ليسوا أنبياء هم ليسوا من المعصومين ، لكنهم أصلاء كأصالة دجلة والفرات، كأصالة المدن التي تشهد لهم بأنهم من أسسها أو ساهم في تأسيسها ونشأتها الأولى، فلا داعي للعجب من كل ذلك.
نأتي اليوم على قرار هام أصدرته وزارة الداخلية العراقية الموقرة بعد مرور 7 سنوات على سقوط النظام الذي سحق أحلام وطموحات مجموعة بشرية ومنظومة إنسانية تحت ذريعة باطلة أثبتت مصادر التاريخ والجغرافية انها لم تكن سوى ذريعة شوفينية لتحقيق أحلام التوسع الجيوبولتيكي بأبعاده النازية المشينة، هذا القرار يوصي بمنح الشهادة العراقية إلى كل شخص هُجر من العراق بحجة التبعية، علماً بأن هنالك العديد من العرب الأقحاح ممن هجر أيضاً مع أخوتهم الفيلية بحجة التبعية ولأسباب معلومة للجميع. وهي خطوة لابد لنا أن نثمنها ونقف إلى جانبها في رد جزء من الحقوق المغتصبة إلى أصحابها من الكورد الفيلية أم غيرهم، لكن هل رد الجنسية لهذه الشريحة أمر كافٍ بالنسبة لهم؟
بكل تواضع لاأعتقد أن مشكلة الكورد الفيلية تكمن الآن في إعادة الجنسية إليهم رغم أهمية ذلك في استمرار حياتهم مجدداً في العراق، لكن المشكلة ياسادتي الأعزاء في جوهرها مشكلة ثقافية وهذا ما أكرره دائماً في العديد من المقالات التي كتبتها سابقاً عن قضايا مختلفة، فالنظام السابق أرسى دعائم ثقافية ثابتة لسياسته من بينها النظر إلى الكوردي الفيلي على انه تبعية غير عربية أو كما كان يُكتب عادة في تقارير أو في ملاحظات موجودة في صحف الكورد الفيلية في مديرية الجنسية بأنهم من أصول غير عربية. هذه الرؤية هي المشكلة الحقيقية التي على الحكومة الحالية والتي ستأتي من بعدها أن تعالجها سواء أكان في المناهج المدرسية أو في غيرها من المجلات والإصدارات التي تعنى بالشأن العراقي، فهم ليسوا عرباً وهذا لا يعيبهم أبداً، لكنهم عراقيون بالنهاية والعراق بلد تتعدد فيه القوميات والأديان والطوائف، فهذا هو ما أعتقد أن الكورد الفيلية بحاجة إليه اليوم وغداً لندفع عن أذهان البعض رواسب الماضي الشوفينية في نظرتها إليهم وإعادة الاعتبار لهم مجدداً لا عن طريق الجنسية فحسب وإنما بتأصيل وجودهم العراقي الذي يسير بخط متوازٍ مع تطور العراق التاريخي.
يبقى أمامنا ونحن ننهي هذا المقال تساؤل مهم ربما نفتح من خلاله الآفاق إلى صنّاع العراق الجديد أملاً في أن يكونوا فعلاً بناة ثقافة ومجتمع جديد لا تمييز فيه بين فرد وآخر، فالكل يجب أن يتساوى أمام القانون وفي تحمل المسؤوليات التي تخدم وطناً غالياً عزيزاً على قلوبنا جميعاً وهو العراق. هذا التساؤل هو إذا كان تهجير الكورد الفيلية بحجة أنهم غير عرب، فلماذا لم يتم تهجير الايزيدية، الاشوريين، الكلدان وكذلك الأخوة التركمان وهم ليسوا عرباً والفئة الأخيرة منهم تضم أعداداً كبيرة من الشيعة؟؟ سؤال سنجد إجابته في دهاليز السياسة العراقية وفي وثائق علاقاتها الدولية، شاكرين الله قبل كل شيء لعدم تعرض أخوتنا من أبناء القوميات الأخرى لمثل مأساة الكورد الفيلية، راجين من الله والمنصفين أن لايألوا جهداً في كشف الحقيقة وفي رد الحقوق لأهلها ورفع الظلم عن كل عراقي في أي جزء من أرضنا الطيبة المباركة.
وأنا أحاول إنهاء هذه المقالة أجد في نفسي رغبة عارمة في الاستمرار بالكتابة لأنني لايمكن أن أفي حق هؤلاء المضطهدين المهمشين مهما كتبت ومهما كتبت أقلام مثقفي العراق ومبدعيه. مع ذلك وجدت إصراراً في ذاتي على كتابة هذه الأبيات لمبدع دافئ حنون في فكره وروحه الإنسانية العظيمة علّ كلماته توصل إلى من نريد ما لم تجد به كلماتنا وما لم تستطع به أفكارنا أن توصل إلى من يصم آذانه ويغلق عقله عن كلمات طرقها على الرؤوس أقوى من الطرق على الحديد، هذه الكلمات لعبقري العربية جبران خليل جبران قال فيها:
مات أهلي على الصليب.
ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين.
ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين.
ماتوا لأنهم كانوا مسالمين.[1]