بقلم: أحمد فوزي
صحفي عراقي (1927 – 1991) م
له العديد من الكتب والدراسات خاصة حول مرحلة حكم عبد الكريم قاسم
كنت قد تذكرت – وأنا أعد هذا الكتاب* – حادثة وقعت، شهدتها في بهو أمانة العاصمة في بغداد بعد ثورة 14 تموز.
كان هناك حفل تكريمي قد أعد للأستاذ كمال الدين حسين عند زيارته بغداد. وكنا جماعة من الشباب، وقفنا في ركن من البهو، وأخذنا بأطراف الحديث. وكان بيننا شاب كردي مؤمن بقوميته.
أثير في تلك المناسبة – ونحن وقوف في ركن البهو – موضوع حق القوميات في تكوين الدول.
وإنني سأحاول هنا تلخيص ما دار في هذه المناقشة التي دارت يومئذ مع بعض الإضافات، والمحافظة على التسلسل المنطقي في المناقشة. أي أني سأرويها – لا بالنص – ولكن بمحاولة تلخيصها تلخيصاً وافياً لتكون مثلاً لمحاورة قد تكون أفضل استهلال لهذا الكتاب بين كردي مؤمن بقوميته وعربي مؤمن بقوميته. كان الحديث على الوجه التالي:
الكردي: الحقيقة أني مسرور جدا من ظاهرة هذا المد القومي عندكم.
العربي: ولماذا تقول عندكم … يا أخي؟!
ان هذا المد هو المد الثوري لشعب العراق، وإذ نقول شعب العراق، انما نعني، كافة قومياته غير العربية التي تعايشت مع الشعب العربي هنا في هذه الأرض.
الكردي: ولكن مع ذلك، فاني أعتقد أن هذا المد هو مد قوميتكم الخاصة بكم، وان لنا نحن الأكراد مدنا الثوري الذي يتجه وجهة أخرى.
– وهنا قاطعه الشاب العربي قائلاً:
ولكن ألا ترى أن في هذا الموقف نوعاً من التناقض؟
الكردي: لا، أبداً، فلكل قومية خصائصها، ولكل قومية ثورتها وأهدافها.
العربي: اننا كما يجب أن تعلم نقر، بل نؤمن، بأن لنا قوميتنا ذات الخصائص الواضحة. وإننا نقر، بل نؤمن ايضاً، بأن من حق كل قومية أن تحقق أهدافها بطرقها الثورية الخاصة بها، لاسيما القوميات المغلوبة على أمرها.
الكردي: نعم. هذا صحيح. وهذا الذي يدعونا إلى أن نتخذ أسلوبنا الثوري الخاص بنا نحن الأكراد.
العربي: أريد أن أوضح لك نقطة قد تكون مهمة بالنسبة لنا ولكم. أنتم تعملون جيداً أن كفاح قوميتنا كفاح ذو أسس إنسانية، لأن شعبنا يريد أن يحقق أهدافه التي هي الحدود التي يستطيع بها الانسان أن يبرهن على انسانيته. وطالما كانت دعوتنا إنسانية فاننا ننظر نظرة إنسانية، بل نظرة تعاطف انساني، الى كل حركة تحررية يقوم بها أي شعب من الشعوب. وما أجدر العرب أن يتعاطفوا مع الشعب الكردي الذي تعايش معه تعايشاً سلمياً طوال العصور.
– وهنا قاطع الكردي زميله العربي وقال بانفعال:
ولكننا مع ذلك قومية هي الأخرى تريد أن تبرهن على انسانيتها، وأنكم دائما تحاولون أن تضعوا الموقف والأسس التي تساعد على حرف نضالنا القومي.
العربي: أرجو أن تهدئ من ثورتك أولاً. وعلينا نحن أن نبحث هنا نقاط الالتقاء بيننا، لا نقاط الخلاف. ونقاط الالتقاء بيننا هي نضالنا المشترك ضد الاستعمار وأذنابه الرجعيون. أننا عشنا في منطقة جغرافية معينة. وأننا نعترف مقدما بأن المنطقة التي تقطنونها هي منطقة كردية. وأننا بعد تحررنا الكامل مستعدون للسماح، أو بالأحرى مضرون لذلك – أعني مضطرون الى فسح المجال أمام القومية الكردية لكي تأخذ طريقها يدا بيد مع الشعب العربي لإنجاز أهدافنا المشتركة الكبرى.
الكردي: يعني ذلك – كما أفهم من كلامك – انكم تريدون ربطنا بكم الى الأبد؟!
العربي: انني أعترض هنا على كلمة (ربط).
الكردي: سواء أكنت ترضى كلمة ربط أم لم ترفض ذلك فان الحقيقة لا تتغير!
– وهنا ضحك العربي بهدوء وهو يضع يده على كتف زميله الكردي وقال:
هل تسمح لي يا أخي أن ألمس الموضوع من جانب هو أكثر جوهرية من هذا الذي تقول.
الكردي: يسعدني ذلك … تفضل.
العربي: هل تسمح لي أن أذكر بأنك عضو في حركة حزب (روزكاري) الكردي؟!
الكردي: نعم… بالطبع أنا عضو في هذا الحزب، ويشرفني ذلك.
العربي: وهل أكون محقا إذا قلت بأن أسلوب العمل وأهداف هذا الحزب تعتمد على التفسير الماركسي؟
الكردي: نعم… بالطبع. فالماركسية قد أعطت لحزبنا قوة ثورية في العمل السياسي.
العربي: لا بأس في ذلك. أنني هنا لا أريد أن أناقش المسألة من ناحيتها العقائدية. ولكن أود هنا أن أقول إن هناك نقاط التقاء بينكم وبين الأحزاب الشيوعية في مختلف أنحاء العالم، والحزب البولشفي الروسي بالذات… وبالطبع الحزب الشيوعي العراقي.
الكردي: نعم. هذا صحيح الى حد كبير.
العربي: وأعتقد أيضا أن الاتحاد السوفيتي يعطف على حركتكم القومية ويرى فيها قوة تقدمية يساندها في كل حين.
الكردي: وهذا صحيح أيضا الى حد بعيد.
العربي: طيب… ولكن هل تعلم ما هو تكوبن الاتحاد السوفيتي من ناحية تشكيلات الدولة القومية؟ وهل تعلم أن الاتحاد السوفيتي يتكون من حكومة اتحادية اسمها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية؟
الكردي: نعم هذا واضح وبديهي. فما الذي تريد أن تقول بعد ذلك؟
العربي: اتفقنا على هذه النقطة أظن. وأود أن أوجه لك سؤالا آخر هو هل تعلم أن بريطانيا (المملكة المتحدة) دولة تتكون من إنكلترا واسكوتلاندا وايرلندا؟
الكردي: طبعاً. هذه معلومات بديهية.
العربي: ولكنها معلومات ذات أثر بعيد فيما يتعلق بالموضوع الذي تتحدث فيه…
الكردي: وكيف؟! اننا نتحدث الآن عن المسألة الكردية والقومية الكردية.
العربي: طيب… وحسناً. ولكن أريد أن أذكرك بأن الاتحاد السوفياتي الذي يحكمه الحزب البلشفي الروسي مكون من قوميات تعد بالعشرات وأن الحزب البولشفي الروسي قد عمل على إقامة دولة اتحادية تشترك فيها كافة القوميات. فلماذا لا تسأل نفسك لماذا يحرم الحزب البولشفي الروسي أو السويات بكلمة أخرى على غيرهم ما أحلوه لأنسهم. انهم وهم الذين لايرضون لأنسهم حركات الانفصال داخل الاتحاد السوفيتي يدعون الشعب الكردي لإثارة حركات انفصالية لا شك انها ستعزل إخواننا الأكراد في بقعة جغرافية مغلقة على نفسها. ثم اذا ارادنا أن نتهم الغرب – ونحن نقول ذلك بتحفظ شديد بالطبع – بإثارة النزعات الانفصالية لدى الأكراد فنعود أيضا للتساؤل مرة أخرى، لماذا تحرم بريطانيا على غيرها ما تحله لنفسها؟ وبكلمة أخرى يا أخي الكردي -–ان القوميات المتعددة في الاتحاد السوفياتي لم تكن حائلاً يوماً ما دون اقامة دولة اسمها الاتحاد السوفياتي للجمهوريات الاشتراكية. ففي الاتحاد السوفياتي أكراد وتركمان وأرمن وبشكير وقوزاق ومغول واسكيمو وروس وقبائل سيبرية مختلفة القوميات مختلفة اللهجات واللغات. ولكن مع ذلك فقد أقيم نظام اسمه نظام سوفياتي تشارك فيه كافة القوميات. وحتى بالنسبة لبريطانيا فان فيها الانكليز والاسكوتلانديين والإيرلنديين والويلزيين، ومع ذلك فعاعي بريطانيا قائمة تحت نظام هو نظام المملكة المتحدة. وما نقوله عن الاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة يمكن أن نقوله عن يوغسلافيا المسماة بالجمهورية الاتحادية اليوغسلافية التي تتألف من قوميات متعددة هم السلاف والصرب والأتراك وقوميات أخرى متعددة، ولكن ذلك لم يمنع يوغسلافيا بعد تحررها من اقامة دولة واحدة تضم مختلف القوميات.
الكردي: الحقيقة أنك تضرب أمثالاً واقعية، ولكني مع ذلك أحس بأننا يجب أن تكون لنا دولة.
العربي: يا أخي الكردي أظن أن الحجج التي ألقيتها عليك قد تراجعت أمامها جميع الحجج التي علمك إياه هؤلاء الذين هم في الحقيقة غير حريصين على مستقبل الأكراد أنفسهم. ولكن مازالت هناك العواطف تعمل عملها في الداخل.
الكردي: هذا صحيح، أعترف بذلك.
العربي: ولكن يا أخي أريد أن أؤكد لك، بأن نضالنا المشترك وعصور الألم التي عشناها سوية تجعلنا أن نحكم العقل قبل العاطفة. إن الوطن العربي – أو ان شئت فقل – وطننا العراقي في هذه المرحلة، اذا ما تحرر سيكون فيه متسع لإقامة حكم سليم يعيش فيه العربي الى جانب أخيه الكردي، كما يعيش المواطنون الذين ينتمون الى القوميات المتباينة داخل الاتحاد السوفياتي أو داخل الجمهورية الاتحادية اليوغسلافية أو داخل المملكة المتحدة.
الكردي: الحقيقة أنك قد عرضت أمامي صورة أخرى على خلاف الصورة المرتسمة في ذهني.
العربي: وانني أود أيضاً أن أرسم لك الصورة الكاملة أيضا بعد تحرير وطنا العربي جميعاً. ان وطننا العربي سيقوم ولا شك على أسس وحدوية مؤمنة بوحدة الأمة العربية التي لا تتجزأ…
هذه الأمة التي كافحت طويلا وناضلت طويلا من أجل حريتها ومن أجل تبليغ رسالتها الإنسانية للعالم. أقول بعد تحرير وطنا العربي سنكون عوناً لكم وستكونون عوناً لنا داخل وطننا لكي نعمل سوية من أجل إقامة نظام يقوم أساسه على العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وتأكد يا أخي أننا نقول ذلك كشعار من الشعارات المؤقتة، بل أننا نقول ذلك ونناضل من أجله ونقدم كل قطرة من دمائنا لأجل تحقيقه. هذه هي الصورة الأولى. أما الصورة الثانية وهي الصورة المظلمة التي يجب أن ترتسم في مخيلتنا هي صورة جمهورية كردية مغلقة على نفسها في عقدة جبال آرارات وسلسلة الجبال الأخرى المتفرعة جنوبا ورقا. وما هو مصير هذه الجمهورية والمؤامرات من الدول الاستعمارية الكبرى تندفع كل يوم كالزوابع حول هذه المنطقة. هل تعتقد أن بريطانيا وأمريكا ستقفان الى جانب الشعب الكردي الذي أذله الاستعمار كما أذل الأمة العربية طوال العصور العديدة؟ ثم هل تعتقد أن الاتحاد السوفياتي سيرتضى لنفسه أن تظل هذه الجمهورية الكردية بمعزل عن منطقة نفوذه؟ ان الجواب واضح. لذلك، وان عليكم أن تتأكدوا مقدماً بأنه لا الاتحاد السوفياتي ولا دول الغرب الاستعمارية ستقف الى جانبكم. وأظن أن الصورة المؤلمة التي انتهت اليها جمهورية أذربيجان بقيادة بشواري ما زالت جلية في الأذهان وأن الاتحاد السوفياتي لم يحرك أصابعه عندما انتهت هذه الجمهورية الى نهايتها الدامية المؤلمة، لان الاتحاد السوفياتي كان يومئذ خاضعاً لمصالحه السياسية ومرتبطاً بمناوراته الدبلوماسية مع الغرب.
الكردي: الحقيقة أنني أوافقك على كثير من هذه الحقائق التي أوردتها. ولكن الا تظن أن قيام حمهورية كردية هو حق بالنسبة للشعب الكردي وللقومية الكردية؟
العربي: اسمح لي أن أقول بأننا نحن العرب قد خطونا في نظرتنا القومية الى أبعد من ذلك. اننا لا نرى أن الدولة هي التي تخلق القوميات، بل العكس هو الصحيح.
الكردي: نعم … العكس هو الصحيح. لذلك فإننا نطالب بأن تؤلف قوميتنا الكردية دولة خاصة بها.
العربي: اننا لا نعترض على ذلك من الناحية النظرية. ولكن هل درستم المصاعب العملية من جراء ذلك. وهل تستطيع القومية التي تقطن منطقة البوسنة أو الهرسك في يوغسلافيا وهي المنطقة الجبلية هناك أن تطالب بإقامة دولة لها مستقلة عن الدولة اليوغسلافية. أظن أن الجواب سيكون بالنفي بالطبع.
الكردي: من هذه الناحية اؤيدك لا شك.
العربي: اذن المسألة بالنسبة اليك عاطفية لا غير. ولكن تأكد يا أخي أنت واخوانك الأكراد بأننا بعد معركة التحرر المشتركة سندخل عهدا جديدا من التعايش، ولا أقول التعايش السلمي – ولكني أود أن أقول التعايش الخلاق الذي سنستطيع أن نحقق أهدافنا الإنسانية السامية في حقليها الوطني والدولي.
– وهنا ضحك الكردي ومد يده لمصافحة الزميل العربي وقال: بالرغم من أني أنتمي الى حزب روزكاري الكردي الا أنني سأحاول جهدي أن أكتب تقريرا بهذا المعنى الى الحزب أضمنه هذه الحقائق.
وبعد ذلك انفضت المناقشة بجو ودي. وسمعت هتافات من الشارع تهتف بوحدة النضال العربي الكردي ضد الرجعية والاستعمار. وأظن أن الزميلين العربي والكردي كانا قد انضما الى تلك المظاهرة تعبيراً عن وحدة النضال.
وان لم يكونا قد انضما في تلك المظاهرة، فلا شك أن الأيام جديرة بأن تجعل نضالنا المشترك… نضال العرب والأكراد موحداً ضد الرجعية والاستعمار تحت لواء واحد هو لواء من قرع جرس الساعة التي أزفت بضرورة العمل الثوري… لواء عبد الناصر.[1]