كيفية تجميع حطام الامبراطوريتين العربية والكوردية
د. آزاد أحمد علي
مجلة الحوار – العدد /78/- عام 2021م
ثبتت الجمعية الجغرافية البريطانية في مطلع القرن العشرين إحصائية تبين أن عدد سكان دير الزور قد بلغ خمس وعشرون ألف نسمة معظمهم من الأكراد، وذلك اعتمادا على دراسات مارك سايكس ومجلة الجمعية الجغرافية البريطانية (سايكس،1907، ص384 – 398)، كما كان سنجق دير الزور جزءا من كوردستان العثمانية بموجب أغلب الوثائق الرسمية أواسط القرن التاسع عشر، وبعدها ابان (المشروطية الثانية). وفي عام 1899 زار عالم الآثار والباحث الألماني ماكس فان اوبنهايم مدينة الكوت مركز محافظة واسط حاليا في جنوب العراق وبين أن سكانها هم من الكورد: «في صباح 12 أيلول / سبتمبر توقفنا أمام كوت، وهي بلدة صغيرة تتألف من حوالي 500 بيت، وفيها أيضا مقر قائم مقام تابع لبغداد. في الوقت الحالي يبنى هنا جامع مع مئذنة. يعيش في كوت عدد قليل فقط من المسيحيين وبعض اليهود وكثير من الأكراد من جبال لورستان يتزعمهم رجل سيء السمعة اسمه حسين قولي خان، يعرف ببكلورستان. وهو يرتبط بعلاقة غير متينة مع شاه الفرس…»(أوبنهايم، 2009، ص337)
قبل ذلك بمئات السنيين أفصحت الوثائق والسرديات التاريخية العربية الإسلامية، أن معظم سكان العراق وخوزستان هم من الأكراد، وبشكل خاص ما أورده المسعودي وابن فضل الله وابن الفقيه وابن خردذابة وغيرهم. فمدن مثل حلوان وبغداد والأنبار وهيت وكوت كلها كانت مدن بأغلبية سكانية كوردية. والغريب أن كتب البلدان والتاريخ العربي الإسلامي تناقلت أيضاً رقماً هائلاً عن عدد الأكراد الرحل في إيران، والذي قدر بخمسمائة ألف ألف خيمة (500 مليون خيمة)، وسواء نتج الرقم عن خطأ النساخ أم تهويل ومبالغة معتادة عند بعض المؤرخين، فيظل الرقم فلكيّاً بمقاييس القرون الأولى للهجرة. ولكنه في حدوده الدنيا المفترضة يظل مستندا إضافيا يؤكد الانتشار الجغرافي والثقل الديمغرافي الاستثنائي للكورد في ظل الإمبراطورية العربية الإسلامية.
وبعيدا عن السرديات الاستشراقية الضحلة التي نمذجت الكورد كسكان للجبال، فقد تبين مطلع العهد الكولونيالي، وابان الحرب العالمية الأولى أن الانتشار الجغرافي والسكاني للكورد مترامي الأطراف، لدرجة لا يمكن تصديقها إلا من قبل المختصين. فقد تركزت المجتمعات الريفية الكوردية في وسط الأناضول بمحيط مدينة أنقرة، وهم يتجاوزن مليون نسمة حاليا، فضلا عن عدة تجمعات سكنية على البحر الأسود. كما استقر الكورد منذ بدايات تشكل الإمبراطورية الأشكانية في خراسان على حدود تركمانستان الحالية، علما أن قسما منهم قد هجروا من ساحل المتوسط وجبل السمّاق (شمال غرب سوريا) ووطنوا على حدود تركمانستان ليشكلوا سدا مذهبيا أمام السنة الترك خصوم الصفويين في أزمنة متأخرة، حيث كان كرد خراسان ومازالوا على المذهب الشيعي، لكنهم شكلوا مع مرورو الزمن جغرافية متماسكة منفصلة بعيدة عن نواة كردستان التاريخية. أما جنوبا فقد كان الكورد اللر (اللور) ينتشرون في موطنهم التاريخي شرق الخليج العربي، بل من الغريب أن قسما من الكورد اللور مستقرون شمال سلطنة عمان على مضيق هرمز، وهم يعرفون (كومزار- Kumzar)، أي أصحاب القبعات الصفراء. إضافة الى هذا التواجد التاريخي الموغل جنوبا، يوجود العديد من الكورد اللور في الجزر الإماراتية والإيرانية داخل مياه الخليج نفسه.
فمن الملاحظ أن التوزيع الديمغرافي لكل من العرب والكورد واسع ومتداخل لدرجة لا يمكن تفهمها إلا بصفتها نتاج جغرافية إمبراطوريات سلالية عبر التاريخ، فقد انتشر العرب بدءا بالإمبراطورية الأموية الإسلامية، على خلفية الفتوحات الدينية، تناثروا واندمجوا في مجتمعات بعيدة، حتى فقدوا الكثير من تمركزهم وثقلهم في قلب الجزيرة العربية ومحيطها. في حين ظل الكورد متقاربين على نطاق أضيق، اذ كانوا يشكلون تاريخيا القوام والأساس الديمغرافي لثلاث امبراطوريات متعاقبة، هي الميدية (678 – 549) قبل الميلاد، والامبراطورية البارثية- الأشكانية التي حكمت بين أعوام (247ٌ) ق.م حتى (220) م، والساسانية (226 – 651) للميلاد. هذا وقد ذكر المؤرخ المسعودي المتوفي سنة (345) للهجرة الموافق سنة (956) للميلاد أن الكورد كانوا الطبقة الثانية من حكام بلاد فارس أيضا، أي حكام الإمبراطورية الساسانية، وقد أسهب في بيان جغرافية انتشارهم أوائل العهد الاسلامي: «الأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفنديار بن منوشهر، منهم البازنجان والشوهجان والنشاوردة والبوذيكان واللرية والجوزقان والجاوانية والبارسان والجلالية والمستكان والجابارقة والجروغان والكيكان والماجردان والهذبانية وغيرهم من بزمام فارس وكرمان وسجستان وخراسان واصبهان وأرض الجبال من الماهات، ماه الكوفة، وماه البصرة، وماه سبذان والايغارين وهما البرج وكرج أبي دلف وهمذان وشهرزور ودراباذ والصامغان وآذربيجان، وأرمينيا وأران والبيلقان، والباب والأبواب، ومن بالجزيرة والشام والثغور.» (المسعودي، 1938، ص 78)
في الخمس الأول من القرن العشرين عندما خططت بريطانيا لدعم تشكيل دولة كوردية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وبصرف النظر عن العوامل الأخرى غير المساعدة والعديدة، فقد صدم البريطانيين أنفسهم بالعدد الهائل للسكان الكورد في المنطقة وأدهشهم هذا الانتشار الجغرافي الشاسع، وبالتالي أصبح مشروع (الدولة الكوردية) المعتمدة على الجغرافية السكانية للكورد تتطلب تأسيس امبراطورية شرقية جديدة، تمتد حدودها شمالا من خراسان وحتى محيط أنقرة، وفي الجنوب تمتد حدود كردستان (المفترضة) من الساحل الشرقي للخليج العربي وحتى ساحل المتوسط، حيث جبلي الكورد في عفرين وشرق اللاذقية. وهذا ما شكل مشروعا مستحيل التنفيذ سياسيا واداريا. لأن كل جهود أوربا انصبت طوال عدة قرون لتفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقزيم الإمبراطورية الايرانية، فكيف لها أن تساعد على تأسيس إمبراطورية كوردية أو كوردستان كبرى، تعيد انتاج نفس المشكلة الجيوسياسية للغرب الأوربي، ان لم تفاقمها.
لقد خان الحظ والمصادفات التاريخية الكورد بشكل رئيس في القرن العشرين، ففي الوقت الذي عمل الغرب الأوربي على القضاء على الإمبراطورية العثمانية وتفتيت المشرق، والتأسيس لكيانات صغيرة، شكل مشروعا توحيد الأمة العربية داخل دولة أو مملكة، وكذلك تأسيس دولة كوردستان عائقاً كبيراً أمام هذه السياسات الكولونيالية التفتيتية، وذلك نظرا لضخامة عدد العرب أيضا، ولكن رجح الثقل الجيوتاريخي للعرب ودور العائلة الهاشمية عملية انشاء كيان سياسي عربي جديد، حتى ولدت عدة ممالك ودول عربية وظيفية عهدئذ، أما تنوع المجتمعات الكوردية وانتشارهم السكاني الشاسع فقد أجل تماما إمكانية جمعهم داخل دولة واحدة. في الوقت نفسه كانت آليات الحداثة تعمل على كافة الصعد لعدم تأسيس كيانات ذات بعد تاريخي، أو لم شمل عدة أمم صغيرة ضمن إطار امبراطوريات سلالية جديدة، أو حتى كوردستان كجمهورية كبرى، وبالتالي تجنب الغرب تماما المساهمة في التأسيس لإمبراطوريات جديدة بالمعنى الجغرافي والسكاني.
أفترض، أن ظاهرة الثقل والانتشار الديمغرافي الهائل للكورد هو أحد مفاتيح معرفة الاستثناء السياسي الكوردي في التاريخ المعاصر، وأحد أهم أسباب عدم ولادة دولة كوردستان الكبرى، فلم يكن هنالك من له القدرة على تأسيس امبراطورية كوردستانية، اذ لم يكن لدى كل من فرنسا وبريطانيا الطاقة على ذلك، بل واجهتهم مشاكل من نفس النوع وان بصيغة مصغرة، عندما فكر قسم من الساسة الإنكليز على انشاء كيان كوردي في ولاية الموصل فقط، وعند التعذر ضمت الولاية الى مملكة العراق، بالتوازي مع ذلك باءت جهود فرنسا في انشاء كيان كردي – مسيحي مصغر في شمال سوريا وشرقها بالفشل أيضا، خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
الخلاصة:
مشروع دولة كوردستان لم تتوائم مع النهضة التحررية القومية المحدودة لشعوب العالم الثالث الصغيرة، وإنما كان مشروعا لإعادة إنتاج دولة عظمى، لذلك اختفى المشروع مع ضمور عوامل الوحدة الداخلية لهذه الأمة الشديدة التنوع اجتماعيا ولغويا ودينيا. وبالتالي لم يكن لأي دولة أوربية القدرة أو حتى النية في السير في هذا المشروع الدولتي العملاق بمقاسات الربع الأول من القرن العشرين. إن استمرار فكرة وهدف انشاء كيان كوردي أو كوردستان موحدة على حدود هذه الجغرافية السكانية الواسعة التي تتجاوز مساحتها مليون كيلومتر مربع، هو مشروع ينتمي للمثالية السياسية وللأحلام القومية النظرية والرومانسية. فقد تقلصت مساحة المجتمعات الكوردية خلال المئة سنة الماضية الى ما يقل عن اربعمائة ألف كيلومتر مربع، بمعنى المساحة التي مازال يتم تحدث السكان فيها باللغة الكوردية ومازالوا يشعرون بالانتماء القومي للكورد. لذلك فمن يود أن يحقق للأمة الكوردية حقوقها ويساهم في وقف اضطهادها ينبغي أن يعلم ان هذه الامة ذهبت ضحية مرحلة زوال الامبراطوريات السلالية وعدم تقبل نشوء دولة قومية بصيغة امبراطورية جديدة. والمشكلة الأكبر باتت تكمن في أن مجتمعاتنا تتجهُ نحو عصر تقلُّ فيه فرص تشكل دول قومية كبيرة وعابرة للحدود الدولية الراهنة.
الإمبراطورية الكوردية لم تعد قابلة للقيام على الرغم من مشروعيتها، وايجابياتها المحتملة، اذ أنها لو قامت فقد كانت ستساهم في حماية العرب وتكون بالنسبة لهم بمثابة الدرع بمواجهة كل من إيران وتركيا، أو كانت على الأقل تساهم مع الدول العربية القائمة في إعادة توازن القوى للمنطقة، والحد من خلل الميزان الإقليمي لصالح كل من تركيا، وإسرائيل وإيران على حساب العرب. إن خروج الكورد من معادلة تأسيس (الدولة المستقلة الخاصة) يتطلب التفكير في أشكال مبتكرة للفعالية السياسية، منها تفعيل حقل التعاون والتضامن العربي – الكوردي لبناء شراكات معاصرة، مثمرة وقابلة للحياة، وذلك انطلاقا من الممكنات السياسية المتوفرة في سوريا والعراق وعموم بلاد الشام ومصر. فليست العلاقات بين الشعوب العربية والكوردية مرهونة بالشكل الدولتي، لأن هذا التوزيع الديمغرافي للكورد من سلطنة عمان وحتى لواء اسكندرون، أي على كامل قوس الحدود الآسيوية للبلدان العربية يشجع على التفكير في مستويات متعددة ومركبة للتعاون المجتمعي، من ثقافية واقتصادية، وخاصة عبر تفعيل دور المنظمات المدنية، المشاريع والشركات المشتركة، وذلك لبناء الجسور ورسم استراتيجيات مواجهة ما هو قادم. فالعدوان الثلاثي: التركي الإسرائيلي الإيراني الجديد سيتواصل على الدول والمجتمعات العربية حتى تحويل ما تبقى منها الى حطام، لذلك، تحقيق صيغة من التعاون مع الكتلة الديمغرافية الكوردية أحد أهم عوامل البقاء والردع قبل تفعيل مشاريع البناء والتنمية.
المراجع:
1- Journeys in North Mesopotamia, Author: Mark Sykes. The Geographical Journal, Vol 30, No 4 (oct, 1907), pp. 384- 398
2- أوبناهايم، ماكس فون. من البحر المتوسط الى الخليج عبر حوران والبادية السورية وبلاد الرافدين. ترجمة: محمود كبيبو. مراجعة وتقديم: ماجد شبر – لندن 2009
3- المسعودي، ابي الحسن علي بن الحسين. التنبيه والاشراف. بغداد – 1938
[1]