#مؤيد عبد الستار#
كانت جزيرة البحرين بمثابة الارض المقدسة عند السومريين وتدعى ني تك Ni . Tuk
وتعرف باسم دلمون ، فحسب الادبيات السومرية القديمة هي المكان الذي يمنح السعادة الابدية بعد الموت ، وتبعا لذلك يكون دفن موتى النبلاء السومريين هناك مكافأة لمن خدم الالهة خدمة جليلة خلال حياته ، ولهذا السبب كانت تنتشر في البحرين الكثير من القبور والاضرحة التي ازيلت بمرور السنين من اجل استخدام طابوقها القديم في المباني .
استطاعت الزوارق السومرية الابحار من جنوب بلاد الرافدين في الخليج الفارسي فوصلت البحرين اواخر الالف الثالثة قبل الميلاد ، والبحرين لها موقع مدهش ، فهي جزيرة صغيرة طولها حوالي 43 كم ولاتتجاوز مساحتها خمسمائة واثنان وستون كيلومترا مربعا.
تكمن أهميتها الستراتيجية في توسطها الطريق بين بلاد الرافدين ومضيق هرمز ، بوابة الخليج الفارسي الذي يقود الى الهند شرقا وافريقيا غربا ، فالبحرين لها موقع مثالي لتكون بوابة المركز التجاري للسلع التي تحتاجها بلاد سومر وفيما بعد بلاد بابل واشور .
اصبح سكان البحرين تجار البحر الجنوبي ، يشحنون النحاس الخام والاحجار البركانية من عمان ، والتي اسماها الرحالة الاغريقي الشهير سترابو ( ماكاي ) والذهب والاحجار الكريمة والمعادن من ملوحا ( المقصود بها وادي السند والمدينة الشهيرة الهاربا ، وهي الان في الباكستان ).
يعود احتلال البحرين من قبل السومريين الى العصر الحجري الحديث ، والاستيطان الكبير فيها يرجع الى اواسط الالف الثالثة قبل الميلاد حوالي 2600 ق .م ويؤكد المؤرخون والاثاريون على وجود بعض الفخاريات في البحرين التي تعود الى حضارة تل عبيد * في الحضارة السومرية المبكرة جنوب بلاد الرافدين ، مما يدل على احتلال محدود او استيطان محدود للجزيرة في الالف الرابعة قبل الميلاد.
لقد زالت اهمية البحرين في الالف الثانية قبل الميلاد لتحول استيراد النحاس الى بلاد الرافدين من عمان الى قبرص التي كانت تسمى بلاد النحاس Copper Land
وقد ادى ذلك الى ضمور الطبقة الوسطى في البحرين وفي الوقت نفسه تطور استخدام وادي السند من قبل قبائل الاريين سكان – ايران ، كردستان – مما قلص نفوذ البحرين التجاري فانهار اقتصادها وهجرت موانئها وقراها.
كانت البحرين مقبرة الدفن السومرية ، وهذا سر وجود الاف القبور والاضرحة في جزيرة صغيرة بمساحة البحرين وهو ما لايتناسب مع نفوس سكان الجزيرة فان عدد الاضرحة قدرت من قبل الانتربولوجي برونو فروليش Bruno Frolich بالالاف ، علما ان العديد من الاضرحة والقبور كانت خالية ولا توجد فيها اية جثث او عظام بشرية ، وتقدر الاضرحة الفارغة بحوالي 39 % من القبور ، وهذا يفسر بان تلك القبور والاضرحة اقيمت من اجل الاباء ورؤساء القبائل الذين يعيشون في الوطن – بلاد الرافدين – ويشعرون بضرورة وجود مرقد لهم في الجزيرة المقدسة .
ويقفز امامنا سؤال فيما اذا كانت فكرة المقبرة السومرية التي يدفن فيها الانسان السومري انتقلت بعد قرون الى فكرة مقبرة وادي السلام في النجف / العراق ، لتصبح اكبرة مقبرة في العالم .ونعرف ان العديد من الاغنياء يشترون ارضا في مقبرة وادي السلام في النجف ويشيدون فيها قبورا لهم كي يدفنوا فيها بعد مماتهم .
يستخلص ديفد رول في كتابه Legend الى ان جزيرة البحرين تمثل اسطورة الجزيرة المباركة ،
المكان المثالي لدفن موتى السومريين وآلهتهم ، وان الارض المقدسة دلمون هي جزيرة البحرين .(1)
حجر دوراند
يجدر بنا ان نتطرق الى ما اكتشفه الكابتن البريطاني الشاب دوراند Captain E.L. Durand
الذي كان في خدمة التاج البريطاين في ميناء بوشهر في الخليج الفارسي ، إذ حل في البحرين من أجل استكشاف الجزيرة عام 1878م .فاصبح معروفا من خلال الحجر الذي سمي باسمه : حجر دوراند ، وقد ذكره ديفد رول في كتابه الانف الذكر ص 238 .
يقول دوراند انه بدأ بفحص طابوق القبور الذي اعيد استخدامه في بناء المساجد التي انتشرت في الجزيرة فاصاب نجاحا ، اذ اخبروه بوجود حجر لا احد يستطيع قراءة ما كتب عليه ، مطمور في مسجد مدرسة داود ، والحجر من البازلت الاسود ،شكله يشبه قيدوم الزورق او لسان الحيوان وطوله قدمان و2 انج ، يقول دوراند لم اجد صعوبة في اخذه اذ اخبرت الشيوخ الذين في المسجد انه حجر عبدة النار ، وانه وثن ولا مبرر لوجوده في المسجد.
ان النقوش التي على الحجر كانت كتابة مسمارية بابلية قام بترجمتها العلامة هنري راولنسون الذي يعد الباحث الذي فك رموز النقوش السومرية الموجودة على جبل بيستون في عيلام ، كردستان ايران ، فترجم حجر دوراند كما يلي :
قصر ريموم ، خادم ( الاله ) انزاك ، ورجل ( قبيلة ) أغاروم .
كان راولنسون اول من ادرك ان هذه العبارة الموجزة تبين ان جزيرة البحرين هي دلمون.
فهو يعلم من النصوص المسمارية التي لديه او اطلع عليها ان الاله انزاك Inzak هو ابن انكي ، اله دلمون، فاذا كان ريموم ملك البحرين القديم ، خادما للاله انزاك ، فان سلسلة الالهة الاخرين ما هم الا الهة دلمون المقدسة .
الا ان الباحث الكبير كريمر الذي يمتلك العديد من الرقم والنصوص السومرية التي لايملكها راولنسون يؤكد ان دلمون موطن الالهة تقع عند جبال زاغروس – كردستان - وان البحرين لاتنطبق على المعلومات والملاحم والادبيات السومرية .
ومن المفيد ان نذكر ان كريمر على حق في جانب واحد ، هو ان الملاحم السومرية تذكر ان دلمون تقع عند مشرق الشمس ، ولذلك فان مكانها يجب ان يكون في ايران – كردستان – عند جبال زاغروس، على سلسلة قمم الجبال التي تشرف على سهول بلاد الرافدين ، بالاضافة الى ان دلمون تذكر دوما باسمها جبل دلمون :
(Akk Kur – Dilmun)ويصف كريمر دلمون بانها الارض النقية والنظيفة والمشرقة ، انها ارض الاحياء،التي لاتعرف المرض ولا الموت والتي تنبع الماء الصافي . ( اله المياه انكي يأمر اله الشمس اوتو ان يملأ دلمون بالمياه الصافية الذي يأتي به من الارض ... فتصبح دلمون بستانا ربانيا مليئا بالفاكهة والمروج.) وان هذه الجنة السومرية مشابهة لجنة آدم قبل ان يهبط الى الارض .
ارض الاحياء
نشر كريمر بحثا بعنوان : دلمون ارض الاحياء :
Dilmun, the Land of the Living
في مجلة الدراسات الشرقية الامريكية عدد ديسمبر 1944،
Bulletin of the American Schools of Oriental Research
خلص في بحثه استنادا الى النصوص السومرية والاثار التي ترجم نقوشها استنادا الى جميع الاحتمالات التي فحصها الى ان دلمون تقع جنوب غرب ايران ، ولا علاقة لها بالبحرين .
هذه كانت رؤية الباحث الكبير صموئيل نوح كريمر اكبر مترجم للاداب السومرية والذي يصعب دحض رأيه وحججه ، اذ اكد على ان دلمون تقع في جبال زاغروس جنوب غرب ايران. (2)
ولكن الاركيولوجي الامريكي الشاب كورنوال Peter Bruce Cornwall خالف كريمر ورد عليه في بحثه المعنون : عن موقع دلمون
On the Location of Dilmun :
المنشور في مجلة الدراسات الشرقية الامريكية ايضا عدد اكتوبر عام 1946 بعد ان
نقب واستكشف ثلاثين موقعا اثريا في البحرين وقدم بحثه للدكتوراة استنادا الى تلك التنقيبات والدراسات والنصوص التي عثر عليها تحت عنوان تاريخ البحرين قبل كورش :
The history of Bahrain befor Cyrus
(يعد هذا البحث منجما ثريا للدراسات عن دلمون ، و لكنه لسوء الحظ لم يطبع في كتاب ) (3)
يذهب كورنوال في بحثه الى ان دلمون تقع في البحرين استنادا الى عدة ادلة اهمها ان الكتابة التاريخية والتجارية والفلكية تشير الى ان دلمون هي موقع جغرافي اما في الكتابة الادبية فهي بلاد خرافية متخيلة :
Fabulous land
ويقدم كورنوال عدة ادلة نورد منها مايلي :
اولا : ان سرجون الثاني 705 ق . م ذكر ان ملك دلمون يعيش مثل السمكة على بعد ثلاثين بيرو – البيرو يعادل ساعتين - في بحر الشمس الساطعة. كما يذكر الملك اشور بانيبال ان دلمون تقع في البحر الاسفل – تسمية كانت تطلق على الخليج الفارسي - .
ثانيا : ان الرحلة الى دلمون تستغرق 60 ستون ساعة في زورق بطئ ينطلق من بداية شط العرب بسرعة ثمانية كم في الساعة للوصول الى البحرين ، رحلة تقدر ب 480 كم .
اما الخلاصة التي يخلص اليها ديفد رول في كتابه Legend عن هذا الاختلاف في الرأي والذي يستند الى تحليل ودراسة النصوص البابلية والسومرية ، يظهر احتمال وجود اكثر من دلمون ، الاول دلمون القديمة ، الاصلية ، قبل التاريخ ، الموجودة في جبال زاغروس .
والثانية هي دلمون التاريخية التي تأسست من قبل المهاجرين النازحين من جبال زاغروس ، الذين انفصلوا وابتعدوا عن اجدادهم واصولهم .
اي ان هناك اسم واحد لمكانين مختلفين ، اسم حمله المهاجرون الذين انتقلوا الى المكان الجديد فاطلقوا عليه الاسم الاول الذي لديهم مثلما حدث للمهاجرين الى امريكا، واستراليا الذين اقاموا مستوطنات تحمل اسماء مدنهم الاصلية التي هاجروا منها فنجد لدينا اسم مدينة مانجستر في امريكا وروما وامستردام في ولاية نيويورك وهذا عمل طبيعي يمنح المهاجر علاقة مريحة مع موطنه الاصلي ، ولم يكن الانسان القديم مختلفا عن انسان اليوم ، جميعهم اطلقوا اسماء مدنهم الاولى على مستوطناتهم ومستعمراتهم الجديدة.
و ليس غريبا ان تكون الاسماء المعروفة اليوم لها جذور في المناطق التاريخية فعلى سبيل المثال اسماء مثل كوش ، ونود التي وردت في الكتاب المقدس لها ما يشابهها في الجبال المحيطة ببحيرة اورمية مثل كوش داغ : جبل كوش ، ومدينة نوغدة . وكذلك بالنسبة لدلمون ، فعلى مسافة خمسين كيلومترا الى الغرب من تبريز بين بحيرة اورمية ونهر ميدان توجد قرية صغيرة تدعى دلمان Dilman .
وهناك احتمال اخر يجعلنا نعتقد بوجود مكانين باسم واحد هو دلمون ، وهو ان الملك السومري لمدينة لجش ( اور نان شا Urnanshe كان يحصل على الخشب لبناء معبد كبير من دلمون ، ومعروف ان البحرين ليس فيها من الاشجار غير النخيل ، فلا يمكن ان تكون مصدرا للخشب ، ومن اجل الحصول على الخشب فان على الملك السومري ان يقصد جبال زاغروس ، ولكن ربما كانت الاخشاب تاتي عبر البحرين من عمان ، خاصة اذا علمنا ان في عهد ملك لجش جوديا كانت مغان وهو اسم عمان ، تزود لجش بالنحاس ، ولكن يجب ان لاننسى ان اورنان شا حكم قبل جوديا بقرون ، ولذلك قد يكون مصدر الخشب في عصره من جبال زاغروس.
كما كشفت التنقيبات الاثارية في مقبرة مدينة حماد في البحرين عن قبور تحتوي فخاريات تعود لعصر جمدة نصر** ، مما يدل على ان سكان جنوب بلاد الرافدين نقلوا فخارهم معهم الى هناك حين وصلوا في زوارقهم التي نجحوا في صناعتها من القصب المطلي بالقار.
...........................................................................................................
ملاحظة : تعد هذه الدراسة استكمالا لموضوع :
حضارة سومر من الشمال الى الجنوب ... الكورد الفيليون رواد صناعة الفخار .
(1) Rohl,David M.,LEGEND V.2 , London 1999, pp.237
(2) يقول كريمر في بحثه ما يلي ، ننقله عن كتاب ديفيد رول المشار اليه في هامش رقم 1 ، ص 241 :
In all probability it is in south western Iran … Where Dilmun is to be sought, and that it is not to be identified with the island of Bahrain.
(3) انظر كتاب ديفيد رول المصدر السابق ص 237 وما بعدها
وكذلك ص 510 و ص 520 الذي يشير فيه الى كتاب مايكل رايس التالي :
Rice, M. The Barbar Temple Site,Bahrain / Manama 1983.p.192
* تل عبيد : موقع اثري جنوبي العراق قرب الناصرية ، حضارة تعود للالف الخامسة قبل الميلاد ، عثر فيها على فخار ملون و معبد للالهة نين هور ساغ يعود للالف الثالثة قبل الميلاد
**جمدة نصر ، موقع اثري شمال شرقي بابل ، حضارة قديمة تعود للعصر البرونزي ، فخاريات وكتابة تعود الى الالف الثالثة قبل الميلاد.[1]