بلنك ميتاني
يعد الكورد من أكثر الأمم تعلقا بالشعر والموسيقى والغناء والرقص الشعبي من بين جميع شعوب المعمورة، فالإنسان الكوردي يولد وهو يصغي الى أعذب صوت في الوجود ألا وهو صوت ألام وهي تشدو لوليدها أعذب الألحان والأشعار ويلازمه الشعر والغناء مع مضي الأيام والشهور والسنوات.
فهو يسمع الغناء حين يمشي لأول مرة وحين يذهب الى المدرسة لأول مرة وحين ينجح، أما عندما يتزوج تقام الأفراح والليالي الملاح مع أنغام الموسيقى والغناء، وحتى حينما يقاتل ويحارب ضد الأعداء والطامعين تغني له الأمهات أشعارا حماسية تلهمه وتنمي فيه حب الوطن والقبيلة وحتى حين يتقدم في السن أيضاً هنالك أغان وأشعار خاصة يرددها.ولا يفارقه الغناء والشعر حتى حين يحتضر ويموت.
هذا من ناحية الحياة الاجتماعية أما من حيث الطبيعة الجغرافية الكوردية المتميزة بالألوان الزاهية والجميلة والتنوع الجميل للأشجار والأزهار والنباتات والجبال والوديان وعيون الماء والغابات والبساتين التي تشكل عاملا مضافا لتنمية الحس الفني وتذوق الجمال بشاعرية.كذلك من الناحية السياسية هنالك أثر بالغ في زيادة الأحساس والتفاعل مع الجو العام الذي عاشه ويعيشه الشعب الكوردي المتعطش للحرية والانعتاق من الظلم التاريخي الذي وقع عليهم على أيدي الغزاة والمحتلين وناهبي الثروات، فترى الإنسان الكوردي مفرط في الإحساس بكل شيء يحيط به فاتخذ من ألاغاني والأناشيد الوطنية والقومية فضلا عن السيف والبندقية سلاحا ماضيا أسهمت في رفع الروح المعنوية لدى المقاتل الكوردي التواق دوما للحرية لأخر نبض في عروقه.كل هذه العوامل أسهمت في بروز العديد من الشعراء والفنانين الذين تغنوا بكوردستان و بالحرية وبالطبيعة والجمال بدءاً من بابا طاهر الهمداني العريان ومروراً بأحمدي خاني وملاي جزيري ووصولاً الى الشعراء العظام والفنانين سيد علي أصغر كوردستانى وعلي مردان و#حسن زيرك# ومظهر خالقي وآخرين.
ومن بين ألمع النجوم في سماء الغناء الكوردي يبرز أسم المطرب الشعبي الكبير حسن زيرك الذي يشكل لوحده مدرسة غنائية فريدة من نوعها ليس على المستوى المحلي فقط بل أكاد أجزم بأنه حتى على المستوى العالمي قلما تجد مطرباً بمواصفات كتلك التي حباها الله لهذه الظاهرة الفريدة في تاريخ الموسيقى والغناء.فحسن زيرك الذي ولد في مدينة بوكان الكوردستانية عام 1921وعاش طفولة بائسة تحاكي بؤس الحياة التي عاشها الشعب الكوردي بصورة عامة، فقد ولد يتيماً لم ير والداً يرعاه ويحتضنه ويعلمه بل فوجئ بحياة ملؤها القساوة والحرمان، فلم يتسن له الالتحاق بالمدارس لينال قسطاً من حقه في التعلم.فظل أمياً لا يعرف الأبجدية وأضطر تحت ضغط الحياة الشاقة الى العمل في أعمال لا تتناسب مع عمره كطفل يحتاج الى الرعاية والعناية والتربية الصحيحة، فمن بيع المرطبات انتقل الى العمل كصبي في المقاهي يقدم الشاي للزبائن فمحصل للأجرة في سيارة باص قديمة وصولاً الى العمل كعنصر من عناصر حماية أحد الآغوات الذين كانوا عنواناً للظلم الاجتماعي والقسوة ضد الناس.وعندما لاحظ (الآغا) الموهبة التي كان يتمتع بها ذلك الشاب، أخذ يقربه وسمح له أن يدخل إلى الديواخان أي المضيف الخاص به ليزين بأغنياته الجميلة جلسات السمر، فأخذ حسن يشاطر أبناء وبنات القرية رقصاتهم ودبكاتهم الجميلة في ليالي الريف الرائعة.
وكان حسن زيرك إنساناً مرهف الحس منفتح الذهن ساعدته تلك الأعمال في زيادة معرفته بشؤون الحياة وشجونها، وكانت نفسه الأبية ترفض الظلم والحيف فتراه ثائراً بوجه الظلمة ولا يكاد يستقر في عمل حتى يثور ويترك ذلك العمل وهكذا توالت السنوات وحباه الله بنعمة الصوت الشجي الجميل المتشح بنكهة الحزن الذي غلف حياته وحياة شعبه.فذاع صيته وكبرت معه تلك الموهبة الفذة، واضطرته ظروف الحياة الى مغادرة بلده والتوجه الى بغداد بحثاً عن فرصة للعمل والعيش الكريم، وبمساعدة البعض عمل أجيراً في فندق (الشمال الكبير) وطبيعي أن يجلب صوته الذهبي وموهبته الفذة في الغناء الأنظار إليه، فيأخذه أحد معارفه إلى إذاعة بغداد الناطقة باللغة الكوردية فتسنح له الفرصة لإبراز موهبته كمطرب شاب فانفتحت أمامه الآفاق ليصدح صوته وينتقل عبر الاثير الى كل ارجاء كوردستان.وفي فترة بقائه في بغداد سجل حسن زيرك العشرات من الأغاني التي عرّفت بأسمه وصوته أرجاء كوردستان، فيصبح معروفاً ومحبوباً من قبل شعبه الكوردي.. وخلال السنوات العشر التي قضاها في العراق تعرّف على العديد من فناني ومطربي الكورد فاستفاد من تجاربهم ومناهجهم ولفت نظرهم إلى موهبته الفذة.بعد انتصار ثورة عام 1958 إضطر للعودة إلى إيران، وكان سبب تركه العراق هو إنه شارك في احياء حفلة غنائية بمناسبة عيد جلوس الملك فيصل على عرش العراق..
وفي إيران استطاع أن يصل إلى إذاعات كل من طهران وكرماشان وتبريز، ويوصل صوته إلى مستمعيها.وفي الوقت نفسه تعرف على (ميدياى زندى) التي كانت تعمل في إذاعة طهران وتزوج منها وأنجبا طفلتين سماهما (ساكار وئاره زوو). وفي عام 1966 انتقل حسن زيرك إلى مدينة (بانه) وأنشأ كازينو سياحي في منطقة (كانى ملا احمد) ليسترزق منه، ولكنه لم يترك فنه الذي أحبه كثيراً، فأشترك في أفراح الناس واعراسهم وسجل الأغاني في المناسبات المختلفة، إنتقل بعدها إلى مدينة مهاباد وبعد ذلك وفي الأيام الأخيرة من عمره إنتقل إلى مدينة شنويه، وأمضى ايامه فيها يعمل كاسبا.لقد كان لمأساة الشعب الكوردي الأثر الكبير على حياة حسن زيرك، فاعتبر كونه كوردياً مثار المشاكل والعقبات في طريق فنه وحياته، فيقول بمرارة: أنا أحب أن أعمل كاسباً، فذلك خيرٌ لي، لان الفن لم يبق له أي تقدير عند الكورد… ولم يعطني الفن أي مكسب ولم يمنحني الفن أي عمل أستطيع أن أمضي عليه لأني كوردي و أتكلم الكوردية).لقد ألقت تلكم الكلمات المريرة ظلال الشك حول مشاعره الوطنية عند بعض المشككين ولكن حسن زيرك رحل عنا ونجزم أنه كان من أكثر الناس حباً لأمته وشعبه الكوردي، ويظهر ذلك جلياً في مناغاته الجميلة (لايه لايه) التي كانت ترنيمة لطفلته الصغيرة لكي تنام يقول فيها:بنيتي إن كوردستان تنتظرك والوطن يأمل فيك المستقبل الزاهر فليعل صريخك مثلي بنيتي وأشتكي من ظلم الأيام بنيتي أنت طاهرة عند الله ادعيه أن تتحرر أرض كوردستان.
ونستطيع أن نقول جازمين إن حسن زيرك سواء في حياته أو بعد رحيله يعيش في قلب وضمير كل شرائح المجتمع الكوردي ولسوف يبقى كذلك.. ذلك لا ن صوت زيرك الذي ليس له مثل في أداء مختلف أطوار الغناء وما عرف عنه من الانتقالات البديعة ما بين درجات السلم الموسيقي وما بين عدة مقامات وألحان في الوقت نفسه خير دليل على ما نقول.فمهما قيل عن عدم وجود مقياس معين لجمالية الصوت لتفاوت الأذواق عند الناس وحبهم لنوعية الأصوات التي تلائم أذواقهم وفطرتهم ولكن حتى في هذه الحالة فإن حسن زيرك استطاع أن يكوّن لنفسه مكانة بارزة بين مختلف الأذواق المتباينة فضلا عن بساطته وتواضعه الجم ودماثة أخلاقه، أستطاع أن يدخل القلوب من أوسع أبوابها ويحتل مركز الصدارة فيها.لا شك أن من أهم الخصائص التي كان يتمتع بها حسن زيرك هي شدة التصاقه وحبه للإلحان الفولكلورية، في حين أنه من الصعب علينا أو حتى على الكثير من المغنين أن يحفظوا عدة ألحان فولكلورية ولكن زيرك استطاع بموهبته الفذة أن يحافظ على الآلاف من الأغاني الكوردية الأصيلة من النسيان ومنحها بفنه الأصيل دماء جديدة أنعشتها وأحيتها وجعلتها تتردد بين شفاه كل الناس.ولكن ها هي ذكرى رحيله تمر مرة أخرى هذه السنة دون أن نلاحظ أن هناك من احتفل بهذه المناسبة بشكل يليق بمكانة هذا الفنان العملاق … ولعمري أن هذا إجحاف وغبن وعدم وفاء بحق الفنان الذي كرس حياته في خدمة الفن الكوردي الأصيل.
عن صحيفة التآخي.[1]