دارا عبدالله
من الصعب جداً النبش في تاريخ نشوء الأغنية الكرديَّة، لأنّ الفرز بين الموسيقى الكرديّة والتركية والإيرانية والأشورية والسريانية، هو فرز حديث نسبياً، إذ كان الأصل القومي غير مهمٍ، فعلياً، في فترة هيمنة الدولة العثمانية على المنطقة. العودة إلى التاريخ، وبدء التنصيف بذهنيّة سياسية تنشد النقاء وعدم التأثر، والقول هذه أغنية كرديّة، وهذه أغنية تركية وهذه أغنية إيرانية وهذه أغنية أشورية… إلخ جاءت بعد انتشار الفكر القومي في العالم عموماً، وفي المنطقة التي تسمّى “الشرق الأوسط” الآن خصوصاً.
باعتقادي، لا يمكن لأحد أن يحدّد الأصل القومي الدقيق لهذه الموسيقى، لأنّ كل شعوب المنطقة كانت تعيش تاريخياً بجانب بعضها البعض. كما أن الاختلاف بالموسيقى بين الشعوب، يفترض اختلافاً عميقاً بالثقافة الاجتماعية، والبيئة المحيطة بمعناها المادي، والقيم السائدة، ودرجة التحديث، ومستوى التصنيع والعَلْمَنة، ونضج فكرة الدولة. وبالتالي ليس من المنطقي الحديث عن اختلاف جذريّ بالأصول بين موسيقى شعوبٍ كانت تعيش فعلياً الشرط التاريخي والسياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي نفسه.
نستطيع أن نحدد اختلافاً بين الموسيقى الكلاسيكية الغربية والموسيقى الكلاسيكية العربية (بنسختيها المصرية والعراقية). ولكن، من الصعب جدًا التفريق، حتى اعتمادًا على الموسيقى كعلمٍ ومنهج وفكر، وليس كأذنٍ وسمعٍ وهواية، بين لحنٍ لعازف البزق التركي عارف ساغ، وعازف البزق والفنان الكردي جوان حاجو.
كما أنه لا يندر أن تصادف لحنًا واحدًا، وخصوصاً إذا كان يتحدر من تلك الألحان التي تغنّى في الأعراس، قد تم غناؤه بكل لغات شعوب المنطقة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن الصعب إحصاؤها بالمناسبة.
كربيت خاجو (1907 - 2005)، مثلاً، هو فنان يغني مواويل شعبيّة باللغة الكردية. ولكن كربيت، الذي عاش تقريبًا قرنًا من الزمن، لم يكن من أصل كردي، بل هو أرمني، كبر في قرية كردية أنقذته من الإبادة، وذلك بعد الانقسام الحاصل داخل البنية العشائرية الكردية، إبان الإبادة الأرمنية التي تمّت نتيجة التحالف بين “فرسان الحميدية” التابعة للدولة العثمانية، وقسمٍ من العشائر الكردية المحافظة.
هرب كربيت من المجزرة عندما كان طفلاً، وتعلم اللغة الكردية إلى جانب إتقانه اللغة الأرمنية طبعًا. وصرّح في أحد لقاءاته التلفزيونية القليلة بأن أغنيته المشهورة «Le Le Dayke» التي تعني “يا أمي”، هي أغنية أرمنية بقدر ما هي كرديّة.
كما أنّ هنالك معلومات من مصادر متنوّعة تشير إلى أن صداقة قوية جمعت بين الفنان الكردي المشهور تحسين طه (1941 - 1995)، والفنان فريد الأطرش (1910 - 1974)، إذ تتلمذ تحسين طه لدى فريد لفترة من الزمن.
ما أود قوله إنّ المحاولات لنبش أصول الموسيقى، هي قراءة للتاريخ الثقافي المنصرم، بعَيْن النزاع السياسي الحالي، هي محاولة كل طرف ادعاء نقاء موسيقاه المحلية، وبالتالي نقاء أصله وعُنصره، وهذا النزاع سياسي بالدرجة الأولى، ولا يساهم بأي شكل من الأشكال في فهم هذه الظاهرة الثقافية.
عن العربي الجديد[1]