علي النجار
(في طفولتي حصلنا انأ وأخي على طير كهدية وبدأنا نهتم به،
لكنه مات ذات يوم ودفناه. حزن هذا الطير بقي عالقا في ذاكرتي البصرية،
كنت أتمنى ألا يموت، ان يبقى معي دائما، لهذا أمنحه في أعمالي هذا الوجود المفترض).
#إسماعيل الخياط#
لا اعرف متى وفي أي زمن من أزمنة إسماعيل تسلل هذا الطائر خلسة إلى مساحة رسوماته الأولى. لكني أتذكر رسوماته (بما ان بنيتها خطية) في نهاية السبعينات و بداية الثمانينات من القرن الماضي. لم تكن فنا ماضويا، بل اكتشافات تشكيلية جديدة لتضاريس بيئة بكر، لا كما خرائط (المساحة) ولا كخرائط (كوكل) الأركولوجية. ولم تكن متوفرة على المتعة الوقتية لصور الطبيعة الرقمية بوضوح عناصر الشكل واللون. لكنها كانت مغرقة بشكليتها الشبحية رغم وضوح تضاريسها الخطية. فهل كانت احفورات لمسارات طيران طائره المفقود خطتها بعض من نبال ريش أجنحته وهي في طريقها لمجهول كان في زمن ما معلوما، ولم يكتفي هذا الطائر بفعلته حتى حط متمرغا وسط احفوراته. وان لم يكن طائره فعلها فلا بد ان إسماعيل استعار فعل نوايا طائره الأجتراحية. وان تقمص إسماعيل روح هذا الطائر المفقود فقد ظل طوال زمن إبداعه متقمصا روح سماواته الشمالية قارئا جيدا لبعض من تضاريسها الوجدانية بإيحاءات شكلية ولا يزال يحاول استعادة أشكالها في ازمنته المتقدمة مستعينا بمساحة الحرية الممنوحة له كما إقرانه بعد زوال الرقيب السلطوي الأوحد. فهل استوعب إسماعيل مساحة حريته الجديدة. اعتقدها كذلك. وهل حفظت له مساحة الحرية الجديدة عناصر عمله في منطقتها الشبحية، اعتقد ان الأمر هنا فيه بعض التباس.
في عام (1963) وجدت نفسي محتجزا سياسيا لوحدي في مدينة صغيرة، وصدفة أو لا ادري كيف حينما صحيت يوما ما فوجدت جنبي طائر صغير (عقعق) ميتا. وأنا الذي كنت وقتها أتشبث بكل شيء من اجل ان لا تبعدني وحدتي عن مواصلة تأملاتي الفنية، وجدتني اشتغل على تجريد هذا الطير الميت من زوائده لأبقي على هيكله العظمي مشروعا للدراسة الفنية. وان كانت نتائجي تؤكد صلابة جسد الطير. فان طيور إسماعيل على الضد من ذلك تؤكد هيمنة شبحية شكلها أو فضاءات جسدها في أعماله الأولى. وان كنت إداري صلابة وهشاشة وحدتي بصلابة وهشاشة هيكل الطائر العظمي بواقعية مفترضة.أما بالنسبة لإسماعيل فان مظهرية طيوره لم تنفصل عن مداراتها الأرضية بهاجس استعادة فنائها (مقبرتها) الأولى، وان بدت مزهوة بتفاصيل نثارها فان احتفاءه بها هو الأخر لا ينفصل عن ولهه بلملمة نثار الطبيعة التي تمثلت أجسادها في نزعة إحيائية طقسية أكسبت الفنان بعض من عوامل توزان ادراكاته السرية لمصادره الإلهامية كمعادل للتصالح وسيرته المحيطية وقتها.
حينما يحتضر الشخص تخرج روحه (في الميثولوجيا) كطائر مغادر إلى فضاءاتها الغيبية العليا. وكما هي الروح هواء، فان طيور إسماعيل مشبعة بهوائها الخاص للحد الذي لازمته كالنسمة التي يستنشقها طوال أيام حياته. وان هو تمثل روح الجبل فقد لازم جباله ووديانه عبر كل دروبها المضيئة منها والمعتمة المعفرة بأشلاء ضحايا أناسنا الشماليين في غدر (الأنفال). وان كان الجبل يشكل لنا متعة نظر نحن ساكني الجنوب، فقد شكل لإسماعيل كما هو الحال لقاطنيه مأمنا بيئيا توارثت خفة هواءه أجيالهم. وان تكن (الأنفال) حفرت اخاديدا من الدم على أحجار دروبها. فان إسماعيل وهو في مجال بحثه عن معادل الألم هذا لم يجد سوى نفس الحجر ليودعه حمائمه (الم فقده الأول (1). لكنها حمائم أخرى، ليست كما الأولى في مظهريتها الشبحية. حمائم استعادت تفاصيل أجسادها حفرا لتفاصيل ما كان يحبذها وهو في لحظات نشوة التصور لأزمنة سابقة هي اخف وقعا في اغترابات انتهاكاتها. لقد استعادت حتى ألوانها التي غالبا ما كان ينأى عن إظهارها في أعماله الأولى، ألوان هي من بعض نثار ملابس الضحايا التي كانت زاهية قبل لحظة محنتها. محنة فتحت عينيه على اتساعها لتقصي أطياف ملونة الإرث الفولكلوري الكردي إسباغا لجسد الطير الافتراضي ولملمة جسده بما تبقى من حطام أجساد غير افتراضية مثقلة بندوب تحفر عميقا مخترقة الجلد حتى العظم ومفتتة زهو ملونة دثار أرديتها التي كانت تغازل الشمس قبل الكسوف الكلي.
طائر آخر:
في صورة فوتوغرافية لبوستر لمعرض إسماعيل في (الأستودديو الكردي في باريس). يلفت النظر التشابه الافتراضي مابين محتويات البوستر الذي يمثل رسما نموذجيا من رسوم إسماعيل للوجه الكاليغرافي بقسماته المشدودة لبعض من التفاصيل المكررة التي تحتل مساحة الرسم. رسم هو نحت لقسمات تراوغ الإمساك بخطوطها العامة من خلال اللعب بعتمة الغائر الذي أصلا بارز والذي تتسرب سطوحه بين ثنيات هي من خطوط وبقع فقدت ملامحها عبر مسارب آثار ربما ان أفصحت تقودنا لفك بعض الغاز حكمة صنعتها، لكنها وبشكل عام تشير لبعض من ملامح طير تناسخته أرواح بشرية. وان دققنا أكثر ربما نكتشف انه إسماعيل نفسه وكما يبدو في الصورة مع ملصقه هذا. فهل صحت النية الإبداعية عنده لحد التناسخ هذا. ربما كان الأمر كذاك، فالنظرة نفسها وحتى في خطوط محور العين (المضاعفة) المجاورة لحد صورته الشخصية وبؤرة النظر ومدياتها اللانهائية أيضا، وان كان الأمر توارد خواطر فليكن فما الإبداع إلا بعض من مناهلها. لكن يبقى ان نعاين من جديد طائرنا الافتراضي هذا (كونه رسما احفوريا لوجه إنسان وفي انتباهة تحيل لطائر شبحي) هل يشير مرة أخرى إلى وداعة إسلاف حمائم إسماعيل السابقات، اعتقده لا. لقد، بدت ثمة صرامة ملامح متبادلة ما بينهما ربما اكتسبتها من حيواة متقلبة عديدة كما هي حيواة غالبية العراقيين عبر أزمنتهم المغايرة. لقد تحول الوجه البشري طيرا ربما كاسرا لكنه لا يغادر سطح رسمه إلا ليذكرنا بماضي علينا أيضا ان نطهر أنفسنا من أدرانه.
تتشابه المصائر في مشاريع إسماعيل الأخيرة بما أنها تناور مخلفات الألم الذي تقصى دروبه عبر أزقة حلبجة التي لا تزال تنز سمومها عبورا لمسامات أجيال جديدة. وعبر هذه الدروب فقد إسماعيل حس بيئته الافتراضية الكاليغرافية الماضية بسحر انسيابية خطوطها ومسطحاتها وأجنحة طيورها وأسماكها المريشة. وتفتت تونات هارمونية أجوائها التي كانت تسحرنا فنتازيتها وليتم الفرز على أشده مابين الجسد وبيئته بعد ان انتفى التصالح بينهما بفعل الإثم البشري. لكن طائره لا يزال لصيق هذه الأجساد يشاطرهم مصائرهم تميمة لا تني تمنيها بخلاص ابيض ليس كما بياض السموم التي هرت هياكلها، بل استعادة لبياض جليد قمم الجبال الأول. وان تكن معظم هذه الأجساد تستعير من الطير هيئة طيرانه إلا أنها تبدو أيضا مثقلة بتشضي إطرافها. أطراف مثقلة بخفقان لا يشير إلا إلى العدم. ورغم ما يبذله من جهد لينصب هذه الأجساد في قفار فضاءاته الموحشة، فانه ولكي يكون قريبا أو في صلب فاجعته فلا بد له من ان يحقق لهذه الأجساد ثقل واقعها لا فنتازيتها كما كانت في أعماله الأولى. إلا انه وفي كل محاولاته لا يستطيع ان ينفصل عن ارثه الفني الشخصي. وبذلك فانه جمع مابين النية لتوثيق الحادثة وما لا يستطيعه من التجاوز على موروثة الإبداعي. فاحتفظت أجساده المنتهكة هذه ببعض من كاليغرافية منجزه الأول لتؤكد خصوصية انتمائها لبعض من ماضوية أعماله.
لم تعد للطبيعة وهي بيئته الفنتازية الساحرة الأولى من وجود في أعماله الجديدة. فهل نضب معين محاوراته البيئية. ولم انقطاعه عنها وهو عاشقها وعاشقته الأولى التي منحته شهرته. هل صمت عزف الناي للأبد. لا ادري، لكني اعتقد ان اللحن الأول يكمن ليعاود الظهور بين ان وآخر. ربما ترجع لنا بعض من معالجاته البيئية هذه لا استذكارا بل كنبض مستعاد بقوة ادراكاته التي اعتقدها مختبئة في حيز ما من احياز دواخله. وان لفضت الطبيعة أجسادنا التي نزت سمومها. فان رحمها هو الذي احتوانا سموما عفرت مساماتها. وما بين أللفض والاحتواء مرت أزمنة على قصرها فرزت الأجساد وفصلتها عن حاضنتها الطبيعية وأدخلتها في طور الانحلال. لقد وعى إسماعيل هذا الدرس سواء إدراكا أو حدسا وفصل الأجساد عن حاضنها البيئي ومهرها بلوثة هوائها (شاهدة) لأجيال عليها ان تعي درس الفرز ألقسري هذا انتهاكا لقدسية أرواح انتهكنا ببشاعة حظوظ مساراتها الطبيعية.
أقنعة المؤنفلين التي اشتغلها بهاجس استعادة ملامحهم في لحضه احتضارها حاول ان تكون درسا لقسمات الألم التي تلغي من خارطة الوجه مألوفية قسماته. لكن المفارقة تكمن في تنويعات ملونته التي كست صفحة قسمات بعض هذه الوجوه (الأقنعة). وعلى الضد من العديد من تجارب الفنانين المشابهة في مجال استجلاء تعبير الألم في قسمات الوجوه سواء في الأعمال الكرافيكية أو اللونية بتفضيلهم الألوان الكابية أو الرصاصية، نفذ إسماعيل هذه الأقنعة (أو القناع) بملونة لا تخلو من أطياف زاهية. ربما لنيته استعادة وليمة ألوان أردية نسائنا المؤنفلات الزاهية في لحظة صحوة من إغفاءات قتامه مصيرهم
المأساوي. أو ربما لإبراز تناقض قسوة الملامح وزهو ملونتها، رغم ما في ذلك من مزالق جمالية تقصي عن الإمكانية التعبيرية بعض من قدراتها الإدراكية. وان لم تتكرر تجربته اللونية هذه في أقنعة أخرى لغلبة عاداته الكاليغرافية بملونتها الكفافية. فانه استعاد اللون حينما اشتغل على الصخور، وهو أمر لا بد منه لعلاقته بالمادة الصبغية المستعملة وإغراءات ملونتها، كذلك للعلاقة الفيزيائية مابين التربة (الصخرية) وشساعة منطقتها ومعادلها البصري التشكيلي الذي يعلي من أهمية عناصر الشكل والملونة إيضاحا لمشهد قابل للمعاينة بكامل وضوحه، مثلما الحال في الرسم ألجداري مشهدا بانوراميا.
تتشابه الموتى في لحظة مفارقتهم للحياة عندما تكون الميتة طبيعية. لكنهم لا يتشابهون عند استنشاقهم الغازات السامة. هذه الوجوه الطفولية الصغيرة والكبيرة لم تفقد معظمها نظارتها لكنها فقدت ماء عيونها كما النزف الذي استل حياتها. مثلما تتشابه رسوم مشخصاتهم عند إسماعيل الذي حاول جهده ان يلغي أو يلوي ملامح معظمها ويستحضر هيئاتها الإنسية ليست كما هي بل متجزئة أو في حالة انفصال أو انفصام عن بعض إطرافها التي تتصارع من اجل الخلاص منها. هل خبر إسماعيل النزع الأخير للروح، لا ادري، لكنه شطب حتى على ما تبقى من حيوية مثلومة لهذه الأجساد، مع ذلك فاني أخمن انه استحضرها وكما أراد شاهدا لا يمكن إخفاء حقائقه. وبما انه شاهد مستعاد فانه لا يستطيع سوى الإشارة للواقعة بمعادل تعبيري لا يوازي هول الحدث مهما كان جهده، لكن تبقى فضيلته في معاينته ولو بعد حين من شواهد موثقة. والسعي لإعادة توثيقها جهد الإمكان. وهذا ما تفعله كل الأعمال الفنية التي اشتغلت على استباحة الجسد الإنساني وفضاءاته البيئية. واستذكر هنا كل الشواهد الفنية لعروض أل (دوكومنت) السياسية التي شاهدتها والتي لم تبتعد عن مقاصد أعمال إسماعيل هذه إلا في مجالات طرق إبداعها.
فضيلة منجز إسماعيل انه جاء من خارج المعمل التشكيلي العراقي الأكاديمي بوسائله المدرسية التقليدية، لذلك امتلك حريته الأدائية منذ بداية الاعتراف بعمله الفني. لقد درب حواسه قبل يده. درب أوهامه وتصوراته على اختراق عتبة الخيال أو الهواء بموازاة عشقه لبيئة أسبغت جمالا متقلبا على محيطها بتتابع فصول السنة وحولياتها وتماهى وفضاء عمله الذي لم ولن ينتهي من السياحة في اتجاهاته الافتراضية التي باتت ملكه. لقد خطى الخطوة الأهم في نبذ المعارف الأكاديمية التي اعتقد انه لم يتدرب عليها كثيرا وسبق بذلك نظراءه الكثيرين من التشكيليين الكرد العراقيين، بل حتى العراقيين عموما. منجز أسست وبنت خطواته الأولى الذات قبل مساعدة الآخر الخبير. اعتقده منجز استثنائي. لذلك امتلك فرادته التعبيرية والأدائية بعيدا عن مساحة الحذلقة التشكيلية للعديد من تشكيليينا الذين ارتضوا العوم في فضاءات هي ليست لهم. وان كان الدرس الأول يشير إلى الصدق الفني، فالصدق ليس ترفا من السهولة الحصول على نتائجه، بل هو يتأسس حفرا بالذات والذهن ويتنفس ويتمدد في المواصلة والمداومة على اجتراع معجزات الذات وباستمرار. وهذا ما فعله إسماعيل الخياط طوال مسيرته الفنية. وان حط الطير على يده الصغيرة في الزمن الذي انقضى حتى برماده، فقد خلف على راحتها اثر لخفقة جناح هي لا تزال تخفق على امتداد مساحة منجزه التشكيلي.
دراما الطائر المؤنفل: أين يكمن السر في ملازمة الطائر لظل الفنان أينما خط رسما أو انٍشأ مجسما. وهل تعدى الظل من منطقة استحواذه المعهودة تميمة ترافقه على امتداد مساحة منجزه. هل لا يزال الطفل الذي كانه يتحسس راحة يده التي استقر الطير عليها قبل رحيله. وهل بقيت مسامات هذه الراحة تحافظ على ملمس نعومة خفقان أجنحته بعد مرور كل هذه التواريخ المتقلبة. تواريخ التصالح ومحيط بيئته وتواريخ المأساة ومعايشتها لحد ملامسة حدود تخومها القصوى. يبدو الأمر كذلك لهذا الفنان الشمالي الذي بقد ما صلبته نكبات أناسه لا يزال يحتفظ برقة هي بعض من أنسام رفيف هذا الطائر الأسطوري الذي ناجاه في سنوات نشأته الأولى ولا يزال يستمد منه الأمل بمواصلة مشواره الفني غير بعيد عن منطقة أحلامه البيئية التي هي جزء من البيئة العالمية الأوسع. وان اشتغل مدوناته السردية التشكيلية المتأخرة بنية التقصي عن بئر الدم. فان أجساده التي تهدمت أو تفتت بطوفانه، سكنها طيره ملاذا لصيقا لا يمكنه إلا ان يكون معافى وهو صنو الروح وشاهدتها. وان مس الخراب كل هذه الأجساد فانه لم يستطع ان يفتت جسد هذا الشاهد عبر خطوط مساراته الكونية.[1]