خطوات ماكرون الأولى من لبنان إلى كوردستان
د.آزاد احمد علي*
“مشروع فرنسا الكولونيالي قد فشل تاريخياً في منطقتنا، لكنه لم يمت، لأن المسائل والأحداث السياسية في منطقتنا، بصراعاتها وتوافقاتها مازالت مرتبطة بالماضي بوشائج أيديولوجية وعاطفية قوية”
1- فرنسا الكولونيالية
قبل حوالي مائة سنة وقفت القوات الفرنسية على ضفاف نهر دجلة محاولة السيطرة على مدينة جزيرا بوتان (جزيرة ابن عمر)، لكن معارضة رجال الدين ومقاومة أنصارهم من المسلحين الكورد للقوات الفرنسية أوقفتها على بعد عدة كيلومتران من المدينة، لتستقر في قرية عين ديوار.
كان الهدف الفرنسي هو السيطرة على مركز إمارة بوتان، والتمدد جغرافياً نحو الشمال، وإن لم يتحقق التمدد الجغرافي فعلى الأقل يتحقق بسط النفوذ السياسي. في الوقت نفسه كانت القوات الفرنسية تتطلع إلى الوصول لمدينة زاخو التي تقع شرق نهر دجلة بحوالي عشرين كيلومتر. لم ينجز هذا الهدف أيضاً، لكن ظلّت فرنسا تطالب بكل جبل سنجار وتحاول ربط المجتمع الايزيدي فيها مع مجتمعات شمال الحسكة، ونافست فرنسا بشكل حاد بريطانيا على ضم كل الجبل إلى سلطتها، لكن قرار لجنة التحكيم الدولية جاء لصالح بريطانيا سنة 1932، وبموجبه ضم 90% من جبل سنجار وسكانه إلى مملكة العراق المتشكلة تحت سلطة الانتداب البريطاني. فرنسا عهدئذ كانت تمارس سياسة كولونيالية مدروسة ومرتكزة على أسس فكرية وتتقدم بمنهجية استشراقية واضحة الأهداف. لقد كان هدفها السيطرة على المنطقة بموجب خطوط اتفاقية سايكس بيكو من جهة، ولتجميع وضم أكبر قدر من مساحات التنوع الأثني والأقوامي ضمن سلطتها المستحدثة على أراض كانت تسمى قبل أشهر فقط (الدولة العليّة العثمانية).
مشروع فرنسا الذي بدأ منذ قرن – وعلى الرغم من كولنياليته – كان مشروعاً ينطوي على أهداف تغييرية، بل تنويرية وتحديثية، دفعت الشّرق الأدنى نحو منعطف حضاري جديد. حيث ارتكزت خطتها العامة على منح الحقوق الثقافية للشعوب وحماية مسيحي المشرق من المظالم، وكاستمرارية عملية للمسألة الشّرقية. وكانت ترجمة تلك الخطة، والتي تعنينا هذه الأيام بشكل مباشر، تكمن عهدئذ في إنشاء كيان ذات غالبية قومية كردية يضم كل الأقليات الأثنية والطوائف المسيحية الساكنين في جغرافيتها القريبة، أو الراغبين بالنزوح من تحت نير الحكم التركي. كانت الخطة في صيغتها الأولى أن يمنح حكم ذاتي لمناطق واسعة تبدأ من لواء اسكندرون وحتى ما وراء نهر دجلة، مع ضم جبل سنجار بمجتمعها الايزيدي الراسخ في أرضه.
اليوم وبعد مرور قرن على ذلك المشروع، نتصوّر ضمن مستوى أقصى درجات الخيال، ونفترض أن ذلك المشروع قد نجح وانبثق من الأرض ذلك الكيان السياسي لمدة قصيرة، كانت فرنسا سترث بموجبه مجتمعات أربع إمارات كردية تاريخية، هي إمارة كلس في الغرب بدءا بلواء اسكندرون وعفرين المعاصرة، وصولاً الى إمارتي بوتان في الجزيرة، وبهدينان شمال الموصل، إضافة إلى الإمارة الداسنية في سنجار وشمالها، إذ كانت ملامح المشرق وخارطة الشّرق الأدنى ستتغير كنتيجة لولادة ذلك الكيان السياسي الجديد. الكيان الذي لم يولد، لكنه لم يدفن وظل مشروعاً سياسياً عند قطاع واسع من المجتمعات المحليّة المتضررة، فمن هذه الإشكالية، ومن هذا الحلم – الهدف الكبير انبثق صعوبة المشروع، وإلى ضخامته وقدرته التغييرية يحال سبب الفشل أيضاً. كما كان هذا المشروع أحد أسباب تصادم واشتداد المنافسة الفرنسية البريطانية الثنائية من جهة، وسبب الاصطدام الفرنسي مع الحكم الشيوعي – البلشفي في روسيا من جهة ثانية، والأهم من ذلك ظلّت الجمهورية التركية الوليدة وأتارتوك الصّاعد مصرّين على دفن مشروع الكيان الجديد شكلاً ومضموناً، بل طالبوا بمزيد من أراضي الدولة العثمانية سابقاً، وهذا ما تحقق لتركيا لأنها قاتلت من أجل ذلك، وساندتها كل من بريطانيا وروسيا البلشفية. في نفس السياق تنكرت بريطانيا لحقوق الكورد في الاستقلال، ووضعت ولاية الموصل التي كانت كوردية بأغلبيتها الساحقة عهدئذ تحت حكم ملك العراق الهاشمي، وثبتت قانونياً ضم سنجار إلى العراق سنة 1932. فرنسا التي نافست بريطانيا لفترة قصيرة في الدفع باتجاه التأسيس لكيان كردي مستقل أو ذات حكم ذاتي تراجعت أيضاً، وأول خطوة في مسيرة التراجع كانت صفقة تسليم لواء الاسكندرون لتركيا عام 1939. بعد ذلك تم التركيز على الكيان المستقلّ في الجزيرة الفراتية، الذي تقدّم بشكلٍ عملي، وتنظمت الحركات السياسية الاستقلالية فيها، حتى انتهت كمشروع سياسي أيضاً مع بداية الحرب العالمية الثانية، فخروج فرنسا من سوريا، وترسيخ سلطة دمشق المركزية المستقلة؛ ومن ثم تثبيت الحدود الدولتية الراهنة للشرق الأدنى.
أوردنا هذه السردية المختزلة، ليس للتذكير بتفاصيل تاريخية، وإنما للتأكيد على أن مشروع فرنسا الكولونيالي قد فشل تاريخياً في منطقتنا، لكنه لم يمت، لأن المسائل والأحداث السياسية في منطقتنا، بصراعاتها وتوافقاتها مازالت مرتبطة بالماضي بوشائج أيديولوجية وعاطفية قوية، وتبقى السياسية في مضمونها وخطوطها العامة انعكاساً لسلسلة من الحلقات والأحداث التاريخية التي لا يمكن الفصل الساذج بينها.
2– فرنسا تربط الديمقراطية بالمواجهة الفكرية
لا شك أنّ الموجة الأخيرة لنشر الديمقراطية الليبرالية قد تصاعدت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وبرز كعنوان لنهج غربي عموماً وأمريكي خصوصاً في طول العالم وعرضه، وبعد ربطها بمحاربة الإرهاب تطلبت تحالفاً واسعاً، سواءً عند غزو العراق أم ضرب أفغانستان. فرنسا جاءت برفقة أمريكا وبريطانيا كحلفاء، لكنها عبّرت عن مقاربتها الخاصّة التي استحضرت بموجبها مسائل المشرق المؤجلة تاريخياً. حضرت فرنسا بصوتها ومنهجها المغاير والمختلف عن أمريكا التي لا تشبه إلا نفسها، كدولة وكسياسات خارجية مضطّربة. أهم ما يميز فرنسا في سلوكها هو التناول الثقافي والفكري لعموم القضايا العالقة، بما فيه محاربة الإرهاب، وهذا اتضح تماماً عبر مشاركة فرنسا في مؤتمر بغداد الذي عقد 28-08-2021، وما أكّده السيد جان جاك بريدي عضو لجنة الأمن في البرلمان الفرنسي الذي رافق ماكرون، وشارك بفعّالية في زيارة العراق وكوردستان: «الإرهابيون مازالوا موجودين وتجب محاربتهم، وبصورة خاصّة تجب محاربة الأيديولوجيا التي تقف وراء إرهابهم. ذاك الإرهاب الثقافي والهوياتي الذي ربما يلزم البعض من شباب بلدانكم بفكر القتل والتدمير. ما يعني وجوب أن تكون هناك مواجهة فكرية، وهنا يجب أن تعمل فرنسا والعراق معاً، العمل في المجال الأمني، التدريب وتوفير الاحتياجات الأمنية وتبادل المعلومات ووجود علاقات جيدة لإنهاء هذه الحرب بنجاح. يجب بذل هذا المسعى وأن تكون فرنسا في خندق العراق». ورد ذلك في حوار خاص مع شبكة روداو الإعلامية.
منهج فرنسا الجديد ينطلق من التركيز بشكل عملي على قبول التنوع ودعم الديمقراطيات، فأمريكا حتى الآن لم تبني مستوصفاً في شرق سوريا، في حين قامت فرنسا ببناء مركز ثقافي في مدينة عامودا، التي قصفتها قواتها إبان عهد الانتداب عام 1937 بالطائرات، وعلى الرغم من هذا الإشكال التاريخي، وإن المركز الثقافي الفرنسي الجديد لم يكتمل، لكن قرارات كهذه توحي بدلالتها ومنهجها الذي يركّز على التغيير والتنمية الفكرية، وفي حال المقارنة الضيقة، قلّما أسست أمريكا مركزاً ثقافياً في الدول التي غزتها، والغريب أنها تدّمر مباني قواعدها العسكرية عندما تغادر.
3– فرنسا العائدة
قام الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون بزيارةٍ ذات دلالتين سياسية وثقافية لإقليم كوردستان العراق ولمدينة الموصل يوم الأحد 29-08-2021 اجتمع في الموصل مع رجال الدين ممثلي الطوائف المسيحية في كنيسة (الساعة) المدمّرة، وكذلك زار جامع (النوري) برمزيتها الدينية والسياسية، حيث كان قد صعد منبره أمير داعش أبو بكر البغدادي، وأعلن عن دولته عام 2014. ومن الملفت أن ماكرون لم يجتمع في الموصل مع ممثلي المجتمع المدني ولا بالحركات الشبابية ولا بالتيارات الديمقراطية. لكنّه شدد على عدم إدارة الظهر للمجتمعات المسيحية المنكوبة، حيث تناقص عدد المسيحيين في الموصل خلال عقدين من أربعين ألف الى مائتي شخص فقط. لقد تحدث ماكرون كثيراً في الموصل، ووعد بالوقوف إلى جانب العراق وعدم مغادرته وبإعادة الإعمار.
“ماكرون يزور كنيسة «سيدة الساعة» والمسجد النوري في الموصل”
في مشهدٍ مشابه وقف ماكرون إثر انفجار المرفأ بين أنقاض بنايات بيروت المدمّرة، وخلال زيارتين متتاليتين في شهر آب 2020 تجوّل بطريقة استعراضية في المدينة الرمز، المدينة المنكوبة بفضل العصبيات المذهبية. يومها افترض العديد من المراقبين والمهتمين باستراتيجيات الغرب الأوربي أن فرنسا عادت إلى لبنان من جديد، وربما إلى الشّرق، كانت الفكرة وليدة اللحظة، لحظة اليأس والقطيعة مع النخب المحليّة الحاكمة التي باتت في جهة بعيدة عن جماهير لبنان والمنطقة. لدرجةٍ أن ترجمت فكرة تشجيع العودة بتقديم عريضة موقعة من قبل عشرات المواطنين اللبنانيين تطالب بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان كمخرج من المأساة الاقتصادية والسياسية.
لبنان كان مفتاحاً للتعامل مع المشّرق، وبسبب هذه المكانة التاريخية والمعنوية، تم ترجيح هذا الافتراض في أنّ تحولاً كبيراً قد حدث، ولا بدّ من صيغةٍ ما للعودة، وربما عدّ البعض أن فرنسا عائدة بالنيابة عن كل الغرب.
بعد سنة أثبتت القوى الإقليمية المسيطرة على لبنان والفاعلة في المنطقة، أن الرئيس الفرنسي قام بمجرد جولة سياحية أو أكثر في بيروت، وسيبقى في الذاكرة فقط زيارته للفنانة فيروز في دارها، حيث لم يحدث أي انفراج سياسي ولم تتشكل حكومة لبنان حتى زيارته الأخيرة لكل من بغداد، أربيل، الموصل.
4– فرنسا: الثابت والمتغير في سياساتها
الثابت غير المختلف عليه أن فرنسا دولة تتمتع برقي حضاري وفكري، وتتناول المسائل السياسية بمضامين فكرية وأدوات ثقافية ناعمة، كما تميل بمصداقية أكثر لعملية نشر الديمقراطية ودعم حقوق الشعوب والأفراد، الثابت أيضأ أنه هنالك ميل عاطفي لكل الحكومات المتعاقبة، والنخب الفرنسية اتجاه لبنان الفرنكوفونية بصيغةٍ أو أخرى. والثابت أيضأ وجود علاقات وثيقة بين فرنسا ومختلف التيارات والأوساط الكردية، لدرجةٍ أنها تتسع لتصل إلى مستوى العلاقات بين الشعبين… لكن المتغير بات حقلاً أوسع، مساحةً شاسعة جغرافياً وزمنياً، فمنذ الحرب العالمية الأولى واتفاقيات الصلّح في سيفر وحتى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان… المتغيرات باتت هائلة لا يمكن عرضها ولا استعراضها في مقال أو دراسة موجزة… طبيعة المتغيرات السياسية أنها تتصف بالتحوّل الشديد وبالمفاجآت الكبرى، لدرجةٍ أن نظام الحكم الذي مهّدت له فرنسا لتسلم السلطة في طهران، بات هو العائق الأساسي أمام سياسات وطموحات فرنسا في المنطقة، فسلطة ملالي طهران وأدواتها هي التي جعلت من خطوات ماكرون مجرد جولات سياحية في مدن المشّرق المدمرة.
هل ستمضي فرنسا قدماً بمشاريعها السياسية والاقتصادية والفكرية وتواجه التحديات الإقليمية والدولية لتتموضع ولتثبيت قدمها من جديد في المشّرق وتتحوّل إلى قوةٍ رائدة؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي لا يمكن الإجابة عنه. إلاّ أنه في حال مضت فرنسا بمشروعها إلى الأمام فإن شكل من أشكال الصراعات التقليدية ستلازمها، فهل نحن مقبلون نحو مرحلة عودة السياسات الأوربية التقليدية اتجاه المنطقة؟ وهل القيادات السياسية الأوربية مهيئة لذلك؟! وما هي القوى والدول التي ستتناغم مع فرنسا في خطوتها الأولى هذه؟[1]