قرى كوردية: بقايا أحجار قصر علي باز في قرية خوشيني
المحامي: محمود عمر
باحث وناشط في مجال حقوق الانسان
مجلة الحوار – العدد /77/ -2021م.
خوشيني أو (خوشينية) عروسة قرى منطقة آليان، يتكون الاسم من مفردتين، الأولى (خوش) والثانية (شيني)، والمعنى الخضرة الجميلة، وذلك للدلالة على جمال طبيعتها. ينابيعُها التي ما زالت دافقة، ونهرها جار، وخضارها فائضة، وتوجد فيها مساحات واسعة من حقول القمح والشعير والعدس والحمص والكمون والكزبرة، فما زالت تزرع بهذه الأنواع أراضيها. فيها كروم العنب، وبساتين الفاكهة، من التفاح والسفرجل، والخوخ، والرمان، والتين. كانت البساتين تمتد من أسفل النبعين والى نصف المسافة التي تفصلها نحو قرية (عربشاه) جنوبا. كما كانت غابات الحور على امتداد النهر، تتطاول شمالا نحو قرية (علي بدران)، وجنوبا نحو قرية (عربشاه). هذه البساتين والحقول التي ترتوي بمياه النهر القادم شمالا من قرية (عتبة) – المحاذية للحدود التركية التي رسمتها خطوط (سايكس بيكو) – مرورا بقريتي (شيدكة) و(علي بدران) يرفدها مياه الينابيع القادمة من كل هذه القرى، وفي نصف المسافة المتبقية للوصول إلى (عرب شاه) تصادفك العديد من الطواحين المائية وأحجار المعاصر المسطحة على طرفي النهر وبقايا سور قديم يحكى انه كان يحمي مملكة (عربشاه) في العهود الغابرة.
تعود القرية بملكيتها إلى ذلك الفارس النبيل (علي باز) من عشيرة (قلنك وشمخالكا)، والذي ما زال تحاك عنه الكثير من قصص الفروسية والكرم والشهامة، الرواية تفصح بأن علي باز هو الذي بنى في وسط القرية قصرا من حجر البازلت الأسود، حيث يطل القصر على نبع (كانيا كورك)، النبع الذي رمم مع نبع (الجامع)، فالمسجد بني فوق النبع مباشرة. هذا وقد شيد جامع القرية بنفس نوعية الحجارة التي بنى بها القصر، وبذات الحجر جهز علي باز لنفسه قبرا في أعلى التلة التي تطل على القرية شرقا وأوصى بأن يدفن فيه. التلة التي تضم قبور الآلاف من أبناء عمومته وأجداده. التل الذي تحول مع مرور السنين الى مقبرة كان على الدوام، وما زال مركز مراقبة جيد بالنسبة لسكان القرية، يطل على كل الاتجاهات.
“جانب من قرية خوشيني وبقايا جدران قصر علي باز”
كانت خوشيني وما زالت تضم العديد من عوائل عشيرة (علي باز) عشيرة (قلنك وشمخالكا) وعوائل من عشائر أخرى، هذه العشيرة التي تعتبر من العشائر الكردية القديمة التي تسكن هذه المنطقة وتمتد قراها شرقا وباتجاه الجنوب الشرقي نحو حدود (شنكال)، وشمالا نحو مركز هذه العشيرة قرية (آلا قمش)، وغربا نحو قرية (ديرونا قلنكا).
يحد خوشيني شرقا قرى (توكل) و (آلا قوس)، وغربا كانت تمتد كروم عنب القرية نحو قريتي (بابسي) و (ماشوق)، وشمالا لا يفصلها سوى الطريق عن قرية (علي بدران)، أما جنوبا فقرية (عرب شاه)، تقع قرية خوشيني شمال غرب قرية (جل آغا) التاريخية بنحو عشرين كيلو متر، والى الشمال الشرقي من تربسبي (قبور البيض) بمسافة مشابهة.
وحيث أن سمة اللاستقرار هي الطاغية على هذه المنطقة نتيجة تبدل الظروف الطبيعية والنزاعات ولا يبق لأهلها بد سوى الرحيل كلما حل الجفاف، والعودة للبناء والعمران حين تفيض السماء بخيراتها، لذلك وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحين حل القحط طلب (علي باز) من الجميع ان يهاجروا في أرض الله الواسعة، ويظل مع زوجته آخر من يغادر، وقبل الرحيل فكفك رمحه من الأوصال إلى أجزاء وأخفاه مع ثيابه التقليدية في حرز أمين، وارتدي ثيابا كبقية القوم وهم بالرحيل. وبعد مسيرة أيام بلياليها صوب الشمال حط رحاله على أطراف إحدى قرى جزيرة (بوطان)، وعاش بين أهلها ليقتات قوت يومه بكد يديه سنين عديدة تحت اسم (علي بري) لأنه صرح لأهلها بأنه من إحدى قرى برية الجزيرة التي أصابها الجفاف، تمضي الأيام والسنون، وفي أحد الأيام وعلى حين غرة استغل بعض الغزاة غياب معظم رجال القرية عنها لينهبوا جل مالها ومواشيها، وما أن تناهى الخبر إلى مسامعه حتى امتطي حصانه من فوره ومضى كالبرق نحو البيت، طلب من زوجته أن تخرج الرمح وتعيد تركيب أوصاله، بينما هو ينهمك بارتداء ثيابه التي كان قد أخفاها مع الرمح ولم يكد ينتهي من تعمير كوفيته وارتداء أكمامه فوق الملابس حتى كان الرمح بين يديه، سلمته زوجته لجام الحصان دون ان تنطق بكلمة هي تدرك ان أمرا جللا قد وقع، انطلق كالريح ووقف ليس ببعيد أمام الغزاة ليسارع حراس المقدمة بإخبار كبيرهم أن فارسا يعترض المسير ويطلب ترك المال وإعادته إلى أصحابه.
وحين باءت كل توسلاته لإعادة المال بالفشل طلب أن يلتقي بزعيمهم وجها لوجه، انطلق هذا الأخير نحوه وهو متيقن ان هذا الكلام والعناد لا يصدر إلا من فارس نبيل، وعلى بعد مسافة سأله: من أنت ولماذا تعترض طريقنا؟!
أنا أدعى (علي) رجل غريب دفعتني الظروف إلى ان أعيش بين أهل هذه القرية منذ زمن ولم أتلق منهم غير كل خير وحسن معاشرة، أما وقد غزوتم غزوتكم هذه مستغلين غياب رجالها، فانا مضطرُ للدفاع عنها، فرجائي منك كرجل شهم وكريم يأبى أن تهان مروءة الرجال وكراماتهم أن لا تخذلني وتترك المال كي أعيده لأصحابه.
ولكنك يا (علي) تدرك أعراف الغزو والسلب وإن رضخت لطلبك فالقوم ومن ورائهم عائلات جائعة لن ترضى بقراري لذلك أطلب منك أن تعود أدراجك سالما، ولا نريد أن نؤذيك فأنت رجل وحيد بين عصبة من الخصوم.
لن أبرح مكاني ولن أعود دون المال أو أهلك دونه؟! لذلك فليحسم هذا الأمر بيني وبينك نتبارز إن غلبتني وقتلتني فأنا وكما أخبرتك رجل غريب لن يطالبك أحد بثأر أو دم – وإن كانت الغلبة لي فسوف تعاهدني وتأخذ عهدا على رجالك بترك المال وإعادته، أعجب سيد القوم برجولة (علي) وراقت له الفكرة، انطلق نحوه كالعاصفة، وهو يقول مبتسما استعد أيها الرجل الشجاع فأنا قادم ولا أمان لك اليوم، فر(علي) أمامه لمسافة طويلة وكبير الغزاة يتعقبه قائلا: إلى أين؟ ألم يكن هذا خيارك؟ لا يليق بفارس مثلك الفرار! استمر (علي) في الفرار، وزادت المسافة إلى الحد الذي تيقن (علي) بان حصان صاحبه قد تمكن منه التعب استدار (علي) من بعيد راسما دائرة كبيرة من الغبار بحواف حصانه واستمر إلى أن أصبح خلف خصمه مباشرة اقترب منه بسرعة لم يمهله فرصة الفرار أو الرجوع للمواجهة، وما أن أصبح ضمن مرمى رمحه وضع الرمح تحت كوفيته من الخلف رفعها للأعلى ورمى بها أرضا وغرز فيها رمحه، اندهش الخصم من براعة وفروسية (علي) أوقف حصانه وتوجه نحوه منكسرا متوسلا أن يقتله فالموت أرحم من هذه الهزيمة، حاول (علي) أن يهون الأمر عليه ويشيد بفروسيته ولكن الحظ يكون أحيانا في صالح طرف دون الآخر، أعاد إليه كوفيته بكل أدب، قائلا: ان رجل مثلك لا يستحق القتل، وأنا – وكما أخبرتك غريب الديار ولا يليق بالغريب أن يخلق الفتن ويزرع الثأر ويهدر الدماء بين الأقوام، فقط عليك ان تفي بوعدك، طلب من رجاله أن لا يقترب أحد من (علي) وأن يسلموه كل مال الغزو وكل مشى في وجهته.
“ينابع قرية خوشيني”
ومنذ ذلك اليوم أعجب الجميع بفروسية وشهامة (علي) وأصبح من مقربي ومستشاري كبير القرية خاصة بعد أن أطلعهم على حقيقة أمره، مرت الأيام وعلم (علي) بأن القحط قد غادر المكان وأن الناس تعود إلى قراها لتجدد في العمران والبنيان ومع اشتداد شوقه لأهله ومواطن صباه وعزته بين أهله قرر العودة و طلب الإذن بالرحيل، خاصة أن وجوده سيتسبب في مشاكل لصاحبه، فمنزلته التي كانت تزداد كل يوم أصبحت مبعث قلق وغيرة وحقد ابن أخيه وأصبح في كل شاردة وواردة يحاول الإساءة إليه، فابنة عمه ترفض الزواج به، وتقترب كل يوم من (علي) هذا الذي رفض عرضها للزواج أكثر من مرة، مبررا موقفه بأنه سعيد مع زوجته وأن والدها سيكون في موقف لا يحسد عليه سواء بالرفض أو القبول، مع ان زوجته كانت تطلب منه دوما أن يتزوج بها أو بغيرها عسى الله يرزقه بطفل ولكنه كان يقول هذا نصيبي من الدنيا وأنا راض بقسمة ربي ولكي لا تتطور الأمور أكثر ومع إلحاحه على صاحبه بأن يأذن له، أمن له هذا الأخير جميع مستلزمات السفر ورافقه مع بعض رجاله إلى مسافة آمنة، وودعوه واستمر(علي) مع زوجته في المسير، وبعد قطع مسافة ليست بطويلة تفاجأ بفارس ملثم يتعقبه، وحين الوصول رفعت اللثام فاذا هي (خاتي) ابنة صاحبه قد لحقت به وتترجاه أن لا يعيدها، احتار (علي) ونظر خجلا في وجهها ووجه زوجته يضرب كفا بأخرى، طلب منه زوجته ألا يكسر بخاطرها فامرأة قد رضيت بكل هذه العواقب لا تستحق أن تعاد، وربما يكون في الأمر كل الخير، وبعد مسيرة طويلة وصلوا إلى قريتهم، التي كان قد سبقه اليها بعض العوائل، وأول عمل قام به أنه أرسل رسولا إلى والد الفتاة يخبره بتفاصيل القصة وأنه لن يعقد عليها دون موافقته رجع الرسول وهو يقول إن والدها سعيد بمصاهرته وإنها هديته إليه، وهكذا مضت الأيام والسنون بسرعة وسعادة بعد عسر ومجاعة والناس تبني وتعمر وتجدد إلى أن بلغ (علي) من العمر عتيا، وحانت ساعة الفراق الأبدي، مات (علي) ودفن في قبره أعلى القرية بناء على وصيته، وبعد وفاته ظلت خشوني كبقية قرى المنطقة تعيش حياة هانئة هادئة لعقود حين وفرة الماء والخضار، وتعود خاوية كمثيلاتها لعقود حين يحل القحط والمجاعة.
تأتي بدايات الربع الأول من القرن العشرين ويزداد نفوذ (حاجو آغا) ويبسط سيطرته على المنطقة، وهنا يقترح (عفدي مرعى) الذي كان يقطن (ديرونا آغى) وهي كبرى قرى منطقة آليان ومركزها التاريخي، ويطلب من ( ابراهيم حجي أوسي) الذي كان يقطن قرية توكل ان يتوجه إلى خوشيني ويعمرها من جديد كونها من القرى التي تعود ملكيتها في الأصل لعشيرته (قلنك وشمخالكا)، فتوجه اليها هذا الأخير، رمم قصر (علي باز) من جديد واتخذه مسكنا له ولعائلته، وتتابعت العوائل في العودة إلى القرية، فعاد اليها من توكل المرحوم سيد عباس سيف الدين والملا محمد ملا ياسين الحسيني وعوائل: حسن عيسى قصدوها من قرية شيرو، وكذلك قصدتها عوائل: محمد حاجي من آلا قوس، وعاد اليها حمودي موسك من ديرونا أغى، و رمو عباس من قرية كيشك، ومع هذه العودة عادت الحياة لتزدهر من جديد في القرية وعادت البساتين لتزدهر بالفواكه وكروم العنب، وعادت خوشيني الى جمالها السابق وطبيعتها لتكون من جديد عروسة منطقة (آليان).
أما في زمننا المعاصر ونتيجة لسنوات الجفاف والقحط التي حلت بالمنطقة، خاصة في التسعينيات من القرن العشرين، وأمام خصومات ونزاعاتنا نحن بني البشر، ومع مغادرة بعض أهلها واستقرار آخرين لم يبق من جمال قرية خشوني سوى الينابيع وبعض أشجار التوت التي ما زالت صامدة تقاوم جشعنا وطمعنا، وما زالت بقايا أحجار قصر (علي باز) الباقية شاهدة على أثار رجل شهم نبيل كان يسكن هذا المكان وحافظ عليه.[1]