عن أوهامٍ وأحلامٍ تعيق الحوار الكردي- العربي في سوريا
الأستاذ: موفق نيربية
مجلة الحوار – العدد /77/ – 2021م
“معارض وكاتب سوري. سجين سياسي سابق. الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي سابقاً (حزب الشعب الديمقراطي). عضو الأمانة العامة لإعلان دمشق سابقا. نائب رئيس الإئتلاف سابقاً “.
لم تحظَ القضية الكردية السورية بالاهتمام والتركيز ذاته دائماً، بل تعاظم ذلك بالتدريج، وخصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين. وحين اشتدّ عود القضية القومية تلك بما يكفي لإثبات الوجود والصوت، كانت القضية القومية العربية ما زالت تملأ الأجواء الإقليمية صخباً وتأثيراً، الأمر الذي زاد من صعوبة تسويق الأولى.
من الواضح كذلك أن القضية الكردية أكثر وضوحاً وتجسّداً في تركيا والعراق وإيران منها في سوريا. ولا يتعلّق هذا بحجم السكان المعنيين هنا وحده، بل أيضاً بتوزّعهم الجغرافي، الذي ينفصل بأماكن التواجد أحياناً، إذ يجمع كرد سوريا بأربعة أشكال جغرافية: الجزيرة وكوباني وعفرين وجبل الأكراد في الساحل، ودمشق وحلب والمدن الأخرى، وكذلك بتوزّعهم التاريخي إن جاز القول، حيث هنالك وجود متباين في قدمه على تلك الجغرافيا.
ولم يبدأ الكرد بالتواجد سياسياً في المساحة السورية المشتركة إلّا في مطلع هذه الألفية، بغض النظر عن تواجدهم في الأطر الشيوعية بوضوح سابقاً، أو في تواجد وجهائهم في الأحزاب السورية التقليدية الأخرى من دون انعكاس كرديّتهم على نشاطاتهم المباشرة. ولم يبرز مثل هذا التواجد بشكل قوي، كما لم ينعكس في توقيعات بيان ال99 أواخر 2000، وبيان الألف في كانون الثاني التالي إلاّ بحدود ضئيلة جداً.
لذلك ابتدأ” الحوار” بطريقة عاطفية وعضوية تقريباً، مع الاندماج الكامل من خلال مسائل المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ثمّ تطوّر بسرعة نحو السياسة ووصل إلى التحالف الكامل مع تأسيس إعلان دمشق للتغيير في عام 2005. ولم يتوقّف هذا الحوار أبداً بعد ذلك وإن بشكلٍ متفاوت، لأن انخراطاً إيجابياً بين القوى السياسية على الطرفين قام وابتدأ تأثيره المتبادل، فيما يخصّ العلاقة مع النظام، والعلاقة بين أطراف المعارضة.
اعتور ذلك التفاعل حالات من الضعف والانزواء جانبياً- ونسبياً- منذ نهاية عام 2007، بعد انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، الذي كانت المشاركة الكردية فيه وفي التفاعل حوله مهمة جداً. ونشأت تلك الظاهرة بعد هجمة النظام على قيادات الإعلان، واعتقال قسم مهم من الفاعلين فيه والليبراليين خصوصاً، في حين تجنّب اعتقال المساهمين الكرد، رغم” ليبراليتهم” الفعلية في السياق، ولذلك أسباب ربّما يظهر بعضها فيما بعد.
ثمّ انشغلت القوي الكردية بتأسيس مجلسها الوطني، الذي كان من نتائجه الابتعاد أكثر، بذريعة عدم الدخول في الأحلاف المعارضة وقتئذٍ. وبسبب الرغبة في تظهير وتدعيم” الخصوصية”. ولكن العاصفة الثورية التي اجتاحت البلاد في عام 2011، جاءت بمعادلات جديدة ومفاجئة، بانطلاقها من خارج الأطر السياسية العتيقة والقائمة، وباستنادها إلى قوة الشباب بطرائق مستقلة عملياً. وكان لذلك أن يبعث رعباً مكتوماً في تلك القوى، ويكون باعثاً لها على التفكير وارتجال المواقف في إيجابيتها وسلبيّتها، للحد من التأثيرات الجانبية لتلك العاصفة، من دون مواجهتها مباشرة بالطبع.
حدث حوار كردي- عربي في دوائر مختلفة وبتفاعل عملي، ولكن أوّل حوار معمّق حقيقي كان في محادثات المجلس الوطني الكردي مع الائتلاف الوطني المعارض، الذي نتجت عنه اتفاقية هي الأكثر تقدماً حتى الآن، فرضتها وقائع الأمور أكثر من أن تكون تعبيراً فعلياً ومتجذّراً، ولدى العرب أكثر مما لدى الكرد نسبياً. لذلك، ربّما قصّر الطرفان في تظهير تلك الاتفاقية وجوهر ما ورد فيها، وهو إيجابي حتماً، ولقي مقاومة شرسة في الهيئة العامة للائتلاف عند التصديق عليه، كما تبعه شيء من التراجع اللاحق من عديدين صوتوا عليه تحت الضغط وقوة التيار.
حالياً: استطاعت القوى الكردية الجديدة الفاعلة علي الأرض، وأهمها حزب الاتحاد الديموقراطي وقواته” حماية الشعب”، وبدعم لاحق من تحالفها مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة- بعد تلكؤ الائتلاف والفصائل القريبة منه وتحت التأثير التركي بدخول تلك العملية ضد داعش-..، استطاعت تلك القوى المحاربة أن ترفع من الروح الكردية بشكل غير مسبوق، بما حققته من نجاحات متميّزة على الأرض وفي تنظيمها وانضباطها وتقدّم بنيتها ومكاسبها على الأرض، وأدّى ذلك مع تهلهل المعارضة السورية التقليدية وارتهانها، وتحوّلها إلى حالة أكثر انعزالاً، إلى أن تنعكس ضعفاً على التمثيل السوري أيضاً في العملية السياسية، بالتباين في الآراء أحياناً، أو بالتباين على الأرض أيضاً، وخصوصاً من خلال العلاقات الخارجية التي يستقوي بها الطرفان هنا وهناك.. فيضعفان معاً على المدى الأبعد.
هذا الحوار لا بدّ من الدفع به، لأن أهميته مصيرية، ولأنه أساسي في استعادة الأنفاس والاستقواء المتبادل بين الجانبين كما ينبغي، للخروج من وضع الكارثة. ربّما يكون للحوار الكردي- الكردي خصوصاً، والحوار العربي- العربي أيضاً، أهمية في استعادة بعض ما فقدناه بأخطائنا وممارساتنا، وهو كثير.
ندرك مصاعب هذا المسار. ولكننا إذا استوعبنا- ربّما- أوهامنا وأحلامنا الخاصة والمشتركة أو المتشابهة، لنتعامل معها بما ينبغي من الصبر وتفهّم الآخر وحقوقه، نمهّد أرضاً لذلك الحوار بحيث يبدأ بشكل صحيح، ولا ينتهي بعد ذلك أبداً:
– حلم الوحدة العربية، وحلم الوحدة الكردية:
لكلّ جماعة قومية حقها في الحلم وحصتها من التاريخ والجغرافيا.. ولكلٍّ طريقتها في التعامل مع حلمها، واستعماله أو التماهي فيه. ولكن المكاشفة في أنّ ذلك مجرّد حلم أو حلم مجرّد، لا موضوعاً راهناً للتعامل معه أو استلاله من الصدر حيثما ينبغي ولا ينبغي، أمرٌ ضروري ولازم لحسن المسار وتحسين مواصفات هواء غرفة الحوار، وتهوين بعض عوائقه.
من الواضح كثيراً أن العرب السوريين قد ابتعدوا نسبياً عن ذلك الحلم بعد أن كان مستحوذاً عليهم، وأخذوا بالتعامل معه براغماتياً وبواقعية وبحسابات المصالح المشتركة، لا تغفل منافع التقارب المدروس، ولا تستعيد حمّى الخمسينات والستينات.
من الواضح أيضاً؛ ومن العديد العديد من الحوارات العامة والفردية؛ أن الكرد أيضاً- والسوريين منهم خصوصاً- قد مالوا إلى الإقرار به حلماً لا هدفاً راهناً ومنظوراً، وإن كان ذلك بطريقة أخفّ من الحالة العربية، وهذا طبيعي.
هنالك ما هو أقرب إلى” الرهاب” العربي من” مشروع الانفصال الكردي”، وهذه عقدة مقابلة لا بدّ للكرد من تفهمّها، وللعرب معالجتها. فتلك التمظهرات الكردية المتنوعة للتعبير عن تفاعل التوضّعات الجغرافية الأربعة، تبعث لدى العرب خيالات تظاهراتهم القومية، وأحياناً أمجاد القبائل وأيامها.. وكلها أرواح هائمة أو أشباح.
– القضاء على سايكس وعلى بيكو وخريطتهما:
في هذا الوهم يشبه الأمر حرباً على طواحين الهواء. فقد مرّ العرب في المشرق طويلاً بتلك الظاهرة، ودأبوا على اتّهام السيدين المذكورين بتقسيم” الأمة العربية” أو” الأمة السورية الكبرى”، وكأنهما كانتا موحّدتين من قبل. وكذلك يتّهم الكرد تلك الخريطة بتضييع فرصة العمر على الوحدة القومية المستقلة في كلّ مواطنهم، في مفاوضات الصلح بعد الحرب العالمية الأولى.
أنجز سايكس وبيكو اتفاقهما في العام 1916، وانعقد مؤتمر الصلح بعد ذلك بثلاثة أعوام تقريباً؛ الذي كانت من أهم مهامه عملية تقسيم تركة الرجل المريض وحماية أقلياته في المشرق، إضافة إلى رسم حدود أوروبا الداخلية وتقسيم تركة الأمبراطورية النمساوية الهنغارية. ارتبك ذلك المؤتمر كثيراً بأعماله تلك، وانعقدت مؤتمرات عديدة إلى جانبه- أهمها كان في لندن-، وكانت الولايات المتحدة شبه مشلولة بفعل الخلاف العنيف بين الكونغرس الجمهوري والرئيس الديموقراطي.. حتى التوصّل إلى اتفاقية سيفر، التي تزامنت- لسوء حظ الكرد والأرمن والسريان- مع النهوض القومي التركي المحارب بقيادة كمال أتاتورك. الأمر الذي دفع إلى اتفاقية مختلفة في لوزان.. هنا كانت ربما لحظة القدر الكردية، التي لم تأبه بتلك الأمة الأضعف آنذاك، والتي لم تكن أصواتها عالية حتى بمقدار أصوات العرب الضعيفة أساساً، إلى حدّ منع الأمير فيصل آنذاك من حضور مؤتمر الصلح بطريقة مهينة.
كان للمشرق كلّه المصيرَ نفسه، الذي انحصر التحكّم فيه بين الميول الإنكليزية والفرنسية وربما الروسية لحماية أقلياته ودعم الموارنة واليهود خصوصاً، مع مبالغة ضاعت في سياقها مصالح البشر وإراداتهم.
كان بنتيجة ذلك أن قضى عرب المشرق مائة عام يشتمون سايكس وبيكو، وقضى الكرد وقتاً أقلّ يقومون بالشيء ذاته ولو باستمرارية أكبر. فتحسب الطائفتان أن مصيراً عظيماً راح عليهما، وتصبحان” ضحيتين” عاجزتين عن تصنيع الخيارات وخلقها على أرضية واقعية وحديثة.
انتهى الأمر منذ زمن طويل، ولا بدّ من ترك الرجلين بأمان في قبريهما، لأنهما لم يقوما إلّا بما كانت القوى العربية تقوم به قبلهما تحضيراً لنهاية تلك الخلافة، وربّما القوى الكردية لو كانت قد ظهرت بعد بالقوة الكافية. وآن لنا احترام آثار تلك المرحلة وواقعيتّها، وإلّا سيضيع قرن آخر، أكثر تسارعاً ودراماتيكية بشكل هائل.
وربّما يكون” الحفاظ” على ما يُسمّى بحدود سايكس- بيكو حلم هذا الموسم من الكوارث والكفاح، وللكرد أن يستفيدوا على الأقل من قوة المثال وبعض تفاصيله.
– الثوابت والمتغيّرات:
عانى العرب السوريون بقوة من ثوابتهم، التي عقلت أيديهم وأرجلهم عن القيام بما هو ضروري للحاق بالأمم الأخرى. وتركّزت تلك الثوابت في مسائل” الأمة العربية” الخالدة، ووحدتها، ومجدها التليد، وقضاياها الكبرى (ويفعل بعض الإسلاميين مثلهم الآن مع حلم يشطح حتى إلى” خلافة” و”سلطان”…وبالطبع كانت النتيجة تنحية المسائل الوطنية” المحلية”، وتقزيم النضال الديموقراطي وعدم الاعتناء بمنع الاستبداد من التحكّم بالمسار… وعاشت الأنظمة- وأهمها البعثي- الأسدي- بأمان كاد أن يصبح أبدياِ على إيقاع طبول الأمة الكبرى. ونعيش حالياً آثار ونتائج ذلك الانزياح الطويل الأمد، محرقة وهولاً ومصائر ممزقة.
وللكرد ثوابتهم، التي لا تسعف محتاجاً على طاولات الحوار والعقلنة.. وهم يعرفون جيداً تجارب الآخرين مع الثوابت ولطالما عانوا منها وسخروا أيضاً.. ولكنهم يبحثون بدأب عن خلق ثوابت خاصة وجديدة، وتابوهات مستخرجة من التاريخ والحكايات… والأساطير أحياناً. لا بأس بها في مكانها ووظيفتها، خارج الحوار المجدي. فالكرد السوريون حقيقة قومية واقعية على الأرض، وسوريا كذلك، وحالة الاستبداد المستدام… بغضّ النظر عن تاريخ تلك المفاهيم وآثارها.
– الوطنية السورية:
هذا” حلم” أقرب إلى الواقعية حين نستخلص السحر منه، يمكن أن يكون جامعاً وسطاً. هو حلم حالياً لأن هنالك وهماً تنامى إلى جانبه مؤخراً في أن تعود سوريا كما كانت، وآخر مختلف عنه في الحفاظ على سوريا دولة مركزية موحدة لا تحقق شيئاً من طموحات الكرد كمجموعة قومية متماسكة مختلفة، ويقابله وهم تقسيم سوريا إلى دول ميكروية جديدة… حلم” اللا مركزية” حقيقي وممكن، يحتاج إلى ورشات شرعية وتمثيلية تتوصّل إلى أفضل شكل للدولة يحفظ مصالح الجميع ويستخلص ما تيسّر من حقوق الجميع.
وصل الكرد السوريون بخطى مختلفة، ولكن بما يشبه الإجماع بين القوى والنخب، إلى الاعتراف بانتمائهم السوري، وتقدّمه العملي على غيره، ولكن لا بدّ من الدفع بهذا الاتجاه من دون تلكؤ هنا وهناك، حسب حرارة الصراع والنكايات. فذلك يجمعهم مع العرب الذين يذهبون أحياناً إلى تعظيم صدام وتاريخه، وأردوغان وطموحاته، وكلّ ما يمكن أن يساعد علي قمع الحلم الكردي، والسلام الاجتماعي إلى جانبه.
الوطنية السورية تستطيع أن تساهم وتكون حدّاً جامعاً. فهنالك حاجة لدى الكرد والعرب للتفريق بين” القومية” و” الوطنية” بشكل من الأشكال، ولو من خارج مفاهيم وتعاريف العالم الحديث الآخر. لأن تلك الحاجة توحد الطرفين خارج “مساطر” علم الاجتماع السياسي الثابتة والمتكررة.
– وهم الاستقواء بالاستبداد أو الغريب:
ما ينبغي للوطنية السورية أن تجتمع عليه هو الانتهاء من الاستبداد بشكل قاطع وإقامة دولة حديثة قائمة على المواطنة المتساوية للأفراد كلّهم، والحقوق الجمعية الداخلية في الوقت نفسه، وأكبرها حقوق الكرد القومية، إضافة إلى حقوق الجماعات الدينية والطائفية الأخرى، على النماذج الحديثة والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان. وليس الجمع بين المسألتين بصعب على علم الاجتماع السياسي وتجاربه الحديثة المتنوعة.
لذلك سوف يبقى الموقف من النظام معياراً ورائزاً. فرغم أن الحوار ينبغي أن يكون أيضاً مع النظام للتوافق على الانتقال السياسي حسب القرارات الدولية، إلّا أنّ التوافق العربي- الكردي في مواجهة الاستبداد شيء آخر سابق لذلك ولا يتعارض معه. وفي هذا المجال، كان الكرد تاريخياً يستندون إلى” علمانية” النظام الاستبدادية، ويطمئنون إلى قدراته على قمع الآخرين، وينسون ما عانوه بأنفسهم منذ تقرير محمد طلب هلال والحزام العربي وحتى منع الكلام بالكردية في الجيش وأيضاً تصفية مجندين كرد عديدين لانتمائهم ذاك. أصبح الكرد الذين عانوا من” قومية” بعض المعارضة دائماً، ومن عنصرية بعض آخر واستنادها إلى تفوقها وحقها في الحكم على هذا الأساس الفائت، وربّما لضعف يأنس بالقوي أو شيءٍ من” متلازمة استوكهولم” جمعية. حكايات محمد منصورة – والي الجزيرة الاستخباراتي البعثي-ما زالت في الذاكرة هنا، بمجالسه التي طالما ضمته مع تلك القوى ورجالاتها.
ربّما يكون هنالك دور حالياً لانزياح المعارضة السورية جزئياً بالاتجاه الإسلاموي، واعتبار النظام- كما تفعل بعض الدول والمجموعات الأخرى والمجموعات- أكثر علمانية وأمانآً من الجحافل الإسلامية القادمة؟! تلك الميول قديمة وسابقة، ترى في النظام حليفاً محتملاً أكثر من غيره، يمكن الاستقواء به على تلك” الأكثرية” المتغطرسة. ذلك يعيد الكرد من “شعب” إلى” أقلية” ترى في الاستبداد ملجأها. وذلك وهم خطر وآثاره وخيمة في النتيجة والمآل.
ويأتي الاستقواء بالآخر، سواء كانت الولايات المتحدة أو الإقليم أو حزب العمال الكردستاني لدى الكرد، أو تركيا وغيرها من القوى الإقليمية الأقوى؛ أو النظام الأسدي؛ ليكون علّة أخرى ووهماً مخادعاً قد يكون الأكثر ضرراً وإساءة لاحتمالات مسار حواري ينتهي ببناء مقاوم للعواصف في المستقبل.
– وهم عودة بني عثمان أو هزيمة تركيا:
لدى بعض عرب سوريا- بين أصحاب العقلية الإسلاموية خصوصاً- أوهام بعودة الدولة الإسلامية الكبرى التي ستعيد المجد القديم من أبواب استنبول، وسيبدأ ذلك بالانتصار على الأسد والأمريكان والروس، وهم بذلك قذ يفتحون باباً جديداً لرياح التقسيم والتفتيت. وعلى الجهة الأخرى هنالك أوهام بإمكانية الانتصار على تركيا وهزيمتها نهائياً بقيادة حزب العمال الكردستاني صاحب القوة الخارقة وزعيمه الأسطوري السجين (فكّ الله أسره)… ويعزّز وهم استدامة الدعم الأمريكي لهزيمة داعش ذلك الوهم بإمكانية الانتصار على تركيا. لا يأخذ أصحاب تلك الأوهام العبرة مما يتطوّر على الأرض، وكيف تتم حياكة المسار بشكل مجدول، لا يهمل حقيقة مراكز القوى والعوامل الأكبر حجماً مما نراه نحن مباشرة (الولايات المتحدة مثلاً) غير موحدة أولاً وقصيرة الأمد في سياساتها ثانياً، ولا تتصرّف بمعزل عنم الآخرين ثالثاً.
– حق الشعوب بتقرير مصيرها مبدأ وحلم مشروع.. وهو وهم أحياناً. هو مبدأ ثابت ضمنته الأمم المتحدة في ميثاقها، حتى صار جزءاً مهماً من القانون الدولي والعلاقات الدولية. والشعب الكردي يستحق هذا الحق من دون شك.. ولكنّ شياطين كثيرة تختبئ في طيّات ذلك الحق.
فهنالك حق تقرير مصير “خارجي” يتطابق مع الحق بالانفصال أو الاستقلال أو الوحدة؛ وحق تقرير مصير “داخلي” استقرّ على الحق بالحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية ضمن دولة موحدة لا مركزية أو فيدرالية بهذا الشكل أو ذاك.
وقد مرّت على الكرد تجربة مؤلمة يوم الاستفتاء الكردي- العراقي على الاستقلال، وكيف كان مصيره السريع، ويحتّم هذا الواقع النظرة الواقعية إلى الجو الدولي الذي نشأ بعد الحرب الكونية الثانية، وكيف توصل العالم تدريجياً إلى حالة من احترام الحدود القائمة ونبذ أي تغيير فيها سوف تنتج منه مشاكل تُضاف إلى مشاكل العالم وتوتّراته.
ينبغي لهذه الروح العملية رغم آلامها أن تكون أمام أعين العرب والكرد عند مباشرة حواراتهم في العمق، يومَ تدور دورتها.
ما ورد أعلاه ليس نقاطاً جامدة، ولا مبادئ يمكن فرضها، ولا حقائق علمية أو تاريخية ثابتة؛ بل هي مجرّد تهويمات ومحاولة لتدبّر الأمور. هي مجرّد” مسّاج” قد يساعد على الدخول باسترخاء إلى” حمّام” الحوار. فالحوار ينبغي ألّا يتأخر أبداً بعد الآن، ولن يعوض عنه أي كرنفال إيديولوجي الدوافع لخدمة خط من الخطوط بطريقة محاربة، بدلاً من الدخول إلى غرف مفتوحة النوافذ، والإقلاع عن الانزواء في غرف مسبقة الصنع فاسدة الهواء، تعتمد على عقلية المؤامرة أكثر مما على المصلحة الوطنية الجامعة.
لحلّ المسألة الكردية علاقة سببية بحلّ المسألة السورية، وربما هي ليست بتلك الصعوبة، خصوصاً بعد ارتدادات الثورة التي مالت بمواقف أغلبية القوى والمشتغلين بالحقل السياسي من غير الكرد، نحو الاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي، والاقتناع بأن” تعريب” كافة السوريين أصبح من أوهام الماضي، والمساواة في الواجبات والحقوق والإقرار بالتعددية بعيداً عن مفهوم الأكثرية غير السياسية وفرضها على الحقل السياسي.. وذلك كله أصبح أخفّ وقعاً على آذان السوريين، ربّما بتأثير من تجربة الألم الرهيبة المستمرة.
وأعتقد في هذا المجال، وليعذرني أصدقائي العروبيين- أن طموح معظم السوريين حالياً هو في إعادة تأسيس “الجمهورية السورية” من جديد.. لعلّهم بذلك يستعيدون طمأنينة مفقودة.[1]