ليس بالاضطهاد يُخاطَب الأكراد
بقلم: محمد الحسناوي
مجلة الحوار- العدد /77/ – 2021م
((كاتب وروائي من جسر الشغور (1938-2007). عمل مديراً لتحرير مجلة حضارة الإسلام (1961م)، نشر ديوانه (في غيابة الجب) سنة 1968 باسم مستعار (محمد بهار) كما نشر لاحقا عدة مجموعات شعرية وقصصية. ورواية (خطوات في الليل – 1994). وله كتاب عن إبراهيم هنانو على شكل قصص ومسرحيات قصيرة. كان داعية وأديبا من التيار الإسلامي.)).
لا يكاد ينقضي شهر حتى نسمع بوفاة مواطن سوري كردي تحت التعذيب في سجون الرأي أو في أداء الخدمة الإلزامية في الجيش، حتى تعودنا على سماع هذه الأنباء مثل تعودنا على سماع أنباء الضحايا اليومية البريئة في الأراضي المحتلة، في فلسطين أو في العراق، ومع ذلك في العراق وفي فلسطين يوجد حرب عدوانية بل حروب وأعداء أجانب، ولكن ماذا في سورية؟
في شهر نيسان من عام 1967م، وفي أثناء اعتقالنا في سجن المخابرات العسكرية في مدينة حلب بسبب فتنة إبراهيم خلاص ضد الأديان السماوية، والتطاول على اسم الله تعالى، والإضراب العام الذي قمع بقوة الجيش، وكسر أقفال المحلات العامة ومصادرة المغلق منها.. صادفنا بعض المواطنين الأكراد المعتقلين قبلنا بسنوات، عن طريق تكليف أحدهم بالحلاقة للسجناء الجدد مثلنا. همس الحلاق: أنا فلان الكردي، معتقل منذ كذا سنوات. من أنت؟ ولماذا اعتقلتم أنتم؟ مرحباً بكم؟ في البداية لم نستجب خوفاً من أن يكون الحلاق مخبراً مزدوجاً، لكن علمنا فيما بعد بقصة اعتقالهم، والسجين إلى السجين نسيب. وعلمنا أن نظام الخوف العام يوقع بين المواطنين، ويجعلهم يتخندقون حذراً أو شكاً أو تربصاً.
ثم تعمقت معرفتي بالشؤون الكردية حين عملي مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانوية عفرين شمال حلب لمدة سنتين، قبل يوم الثامن من آذار 1963 وبعده، واستدعيت لفرع المخابرات أكثر من مرة بسبب معاملتي العادلة لطلابي، أي ضد التمييز بين العرب والأكراد. ومع الأيام، علمت أن هناك الحزام العربي في الجزيرة السورية حول مليوني مواطن كردي، ومصادرة لأراضي الأكراد، وتسليمها للعرب المهجرين من منطقة الغمر في سد الفرات، وأن هناك حرماناً لربع مليون كردي من الجنسية السورية منذ الستينات، ومنعاً من التكلم باللغة الكردية، أو التمتع بحقوق المواطنة السورية كالتعليم والتنقل والتعيين في دوائر الدولة، وحتى اختيار أسماء المواليد، وأخيراً تم تغيير أسماء عدد من القرى والبلدات التي يُشم منها رائحة غير عربية في الجزيرة السورية والشريط الحدودي شمالاً.
كما بلغني أن رئيس الأركان السوري الأسبق أحمد سويداني فوجئ بعد هزيمة حزيران في الجبهة السورية عام 1967م بمجند سوري كردي يسأله: أأنا سوري أم غير سوري؟ فيستفسر منه غاضباً، فيجيب المجند: أنا وأمي وأبي وإخوتي محرومون من الجنسية السورية، وقد قاتلت معكم اليهود، فلماذا تحرموننا من حقنا في الجنسية؟ ولا حاجة لنقل الجواب المعروف!!
ومثل هذه المعلومات عن القطر السوري وحزبه “القومي” الحاكم، بتنا نستقبل أخبار الأكراد في العراق وتركية ونحلل ونحوقل، ونسأل الله تعالى الفرج.
إن الفتنة بدأت من سياسة التتريك ويهود الدونمة والقومية الطورانية، واقتباس المفهوم القومي على الطراز الأوروبي، وإحلاله محل الرابطة الإسلامية، ثم الغلو في التعصب للقوم لا للمبادئ والأفكار والمعتقدات التي تصنع الأمم والحضارات، وإن القول بالقومية العربية، يعني القول بالقومية الكردية، والقول بأية قومية يعني شعباً وأرضاً ودولة مستقلة، ويعني انفصالاً جديداً في جسد الأمة من معاهدة “جالديران” إلى معاهدة “سايكس بيكو”، وهلم جرّا.
لقد فرض المنطق القومي وفي صوره العنصرية المتخلفة، واحتاج الأمر إلى سياسات جديدة مبتكرة مضنية، للتعاون أو التعاضد أو الجيرة بين أقوام لا بين إخوة، وبوسعك أن تقرأ هذه المعاناة الصعبة في كتاب المقدم منذر الموصلي المتشبع بالفكر القومي البعثي، والتحليل الاقتصادي الماركسي تحت عنوان “عرب وأكراد”، يحاول فيه المستحيل لتحنين قلب الأكراد على العرب وبالعكس. ويعترف بأنه ضابط أمن سابق عمل في الجزيرة السورية وفي منطقة عفرين، التي يكثر فيها الإخوة الأكراد!! يقول: “تبدأ قصتي مع الأكراد من خلال مواجهتنا للنشاط الكردي في شمال شرق سورية العربية بمرحلة سابقة. وهو نشاط بدا فيما بعد أنه كان عابراً محدوداً لم يترك وراءه أي أثر، وكان نتيجة “هلوسات” لا تملك رؤى صحيحة ولا أي فهم لطبيعة الأوضاع الديمغرافية وحقيقة تشكلها في الشمال السوري. وكان من جراء ذلك أن ردود الفعل كانت كبيرة نجمت عنها إجراءات قمعية كان لا بد منها..” (ص9 و10).
ومن المفارقات أن أساطين التعصب القومي الذين أوقدوا نار الخلافات، يزعمون أنهم يعملون على إطفائها، فيقول ضابط الأمن القومي الموصلي في مقدمته: “لذلك يأتي هذا الكتاب بمثابة مساهمة جادة في عملية إخماد ذلك الحريق”. وكيف ينطفئ الحريق وفي كل شهر نسمع بمصرع مواطن كردي أو أكثر تحت التعذيب أو في الخدمة الإلزامية؟ وإذا كانت الوعود تطلق بالجملة، ولا يتحقق منها هباءة أو ذرة واحدة؟ وكما قيل: “ليست المسألة رمانة، ولكن القلوب مليانة”. ملأى بماذا يا ترى؟
ما معنى أن تتحول مباراة لكرة القدم في مدينة القامشلي في شهر آذار الماضي إلى مواجهة دامية، يمتد لهيبها إلى عدد من المحافظات سورية، من الجزيرة إلى حلب وإلى العاصمة دمشق، فتزهق خمس وأربعون روحاً بشرية بريئة، بعضها أطفال، ومئات المعتقلين ما زال بعضهم يعرض على المحكمة العسكرية، ورئيس الجمهورية يعترف صراحة بأن لا عامل خارجياً في المشكلة تلك؟ بل يزور المنطقة المتضررة ويعد بالنظر في المظالم، لا سيما إعادة الجنسية للمحرومين منها، وفي تصريح آخر يعترف بالقومية الكردية الشقيقة، ولكن ذلك كله ظل حتى الآن – كما قيل – حبراً على ورق أو ذهب مع الريح!! والسؤال: من أوقد النار أصلاً؟ ومن يستمر في صب الزيت عليها بسياساته العنصرية واستبداده؟ ولماذا يزداد الاشتعال منذ خمسين عاماً حتى يومنا هذا؟
المواطن الكردي بشر له روح وكرامة وحقوق ككل المواطنين، بل إن المناطق الحدودية محرومة من البنى التحتية، مضافاً إليها سياسات هادفة للتهميش والتجهيل والتغييب وحتى الإبادة صدق أو لا تصدق، ثم يقال لك: هناك مؤامرة خارجية! إن الذين يشتبه بتآمرهم هم الذين يقتلون المواطنين الأبرياء في السجون تحت التعذيب أو في أدائهم الخدمة الإلزامية. هم الذين يدقون أسافين العداوة والبغضاء والشحناء بلا أدنى مسوّغ، إنهم يبحثون عن الأصدقاء والحلفاء الأوربيين والهنود والأمريكان، ويستعدون مواطنيهم على الشعب والأمة والوطن! نفذ ما عليك من واجبات وأعط الناس حقوقهم بسواسية وقسطاس، ثم استفسر عن العداوة أو عن المحبة. أما أن تصفعني ليل نهار وتسب آبائي وأجدادي، ثم تزعم أنك تحبني، فهذا غير صحيح. فإن كنت تفعل ذلك عامداً متعمداً، وبسياسات ممنهجة، ولأزمان متطاولة، فهذا هو التآمر بعينه. والساكت عن الحق شيطان أخرس.
المجند الكردي السوري محمد شيخ محمد اغتيل بإطلاق عيارات نارية عليه، بينما كان يؤدي خدمته الإلزامية في وحدته العسكرية بمنطقة القطيفة، كما أفادت اللجنة السورية لحقوق الإنسان (أخبار الشرق 29-10-2004م)، كما سبق أن اغتيل رقيب كردي آخر في الجيش السوري قبل شهور (مركز الشرق العربي 16-06-2004) ولم يتخذ تحقيق ولا ما يحزنون.
أما المواطن أحمد حسين حسين من سكان قرية الصالحية في محافظة الحسكة، وهو أب لأربعة أطفال، اعتقل بتاريخ 13-07-2004م، فقد توفي تحت التعذيب عند المخابرات العسكرية لتعاطفه مع القضية الكردية، ومع تنظيم عبد الله أوجلان الذي كان حليفاً للسلطة سابقاً (مركز الشرق العربي5/8/2004م). وفي الشهر نفسه توفي معتقل كردي آخر تحت التعذيب. على حين صدر حكم من محكمة أمن الدولة على المواطن الكردي محمد علي عمر بالسجن سنتين ونصف السنة، بسبب مشاركته باعتصام سلمي للمطالبة بالجنسية السورية، وهناك أكثر من 180 من الذين اعتقلوا في أحداث شهر آذار ما زالوا رهن الاعتقال، وإن 17 منهم يعرضون على محكمة أمن الدولة، وإن 35 مراهقاً تعرضوا للتعذيب، بعضهم بالصدمات الكهربائية أو بنزع أظافر أصابع القدم (القدس العربي 27/8 و03-11-2004).
إن شعباً أعطى البطل صلاح الدين الأيوبي الذي حرر فلسطين والقدس يوماً ما، وأنجب الزعماء أمثال أبي الفداء الأديب العالم ملك حماة الأيوبي وإبراهيم هنانو ويوسف العظمة ومحمد كرد علي.. إن هذا الشعب لا يستحق هذا الظلم، ولا يجازى على وطنيته وإخلاصه بالعقوق والاضطهاد، وإذا زعم زاعم أو نعق غراب بباطل، فلا أقل من اللجوء إلى القضاء العادل والدستور والقانون، وإلا فنحن نخرب أوطاننا بأيدينا، وننفذ فينا مآرب أعدائنا. يخطئ من يعامل هذا الشعب معاملة أقلية، ويخطئ أيضاً حين لا يمتعهم بحق المواطنة كالأقليات الطارئة والمواطنين الأرمن مثلاً، وهم ليسوا لاجئين ولا مواطنين من الدرجة الثانية. فكيف إذا كان يعمل على استئصالهم؟! وليس صحيحاً أن البلوى العامة تساوي بين المواطن الكردي والعربي في الاضطهاد، لأن الفساد لا يقاس عليه، وظلم قوم لا يلغيه عن قوم آخرين. ولا بد من العدل أساس الملك، فلترتفع الأصوات الحرة بالاستنكار، ولتتشابك الأيدي والأذرع والأدمغة لإزالة هذا العار.[1]