العلاقات الكُردية العربية قبل الإسلام
د. أحمد خليل
باحث وأكاديمي كردي من عفرين
مجلة الحوار – العدد /77/ – 2021م.
مدخل:
بعد سقوط مملكة ميديا سنة 550 ق.م، أصبح الكُرد تابعين للفرس، ثم للإسكندر المكدوني والدولة السُّلوقية من سنة 330 ق.م، ثم للدولة الأشگانية من سنة 250 ق.م، ثم للدولة الساسانية من سنة 226 م، وكانت مناطق شمال وغرب كُردستان تقع أحياناً تحت سلطة الأرمن والرومان، وعند ظهور الإسلام كان ثلثا كُردستان تقريباً تابعاً للدولة الساسانية، وكان الثلث الباقي تابعاً للدولة البيزنطية (الرومية)، وكانت نِصيبين أهم مركز عسكري ولوجستي للروم، وكان الصراع بين الفرس والروم يدور على الغالب في الأراضي الكُردية الفاصلة بين الدولتين.
والمعروف أنّ الوجود العربي قبل الإسلام كان يصل إلى الحِيرة (قرب الكوفة) وإلى تخوم الشاطئ الغربي لنهر الفرات؛ أي إنّ العرب كانوا يتنقلون في غربي بلاد ما بين النهرين (العراق) حيث الصحراء، أما العراق جنوباً ووسطاً وشمالاً فكان موطن الشعوب القديمة من سومريين ونَبْط (لعلهم صابئة مَندائيون) وأكّاديين وبابليين وآشوريين وكِلدان، إضافةً إلى الكُرد والفرس، وأما مناطق شرقي دجلة فكانت مواطن الكُرد خاصةً، ولذا سمّاها العرب “عراق العجم”.
السلاح واللباس الكُردي في جزيرة العرب:
صحيح أن الساسانيين أسرة كُردية الأصل، لكن الدولة كانت باسم الفرس، وكانت كُردستان والعراق تابعتين للدولة الساسانية (الفارسية رسمياً)، ولم يكن الكُرد والعرب أصحاب دولة مستقلة، لذلك اقتصرت العلاقات بينهم على النشاطات التجارية، والدليل على ذلك وجود السلاح واللباس الكُردي في المجتمع القَبَلي العربي، وخاصة في النصف الشمالي من بلاد العرب.
1 – السلاح الكُردي: كان الميد (ماد)- وهم أبرز أسلاف الكُرد- مشهورين بإنتاج الجيّد منه، وظل السلاح الميدي محتفظاً بشهرته في العهود اللاحقة، وقد ذكر هيرودوت بشأن الجيش الذي قاده الملك الفارسي أَحْشَويرش لغزو اليونان، أن سلاح (السَّرنجيين)- وهم من أقوى فِرق الجيش الفارسي- هو “القوس والنُّشّاب والرماح الميدية”. وقال هيرودوت أيضاً في وصف الغزوة نفسها: “أما الآريون فكان على رأسهم سيزامنس بن هيدرانيس، وسلاحهم القوس الميدي”.
وكانت صناعة الأسلحة قليلة في النصف الشمالي من بلاد العرب، فكان العرب يستوردون معظمها من المناطق المجاورة كاليمن وسواحل الخليج والشام والعراق بل من الهند أحياناً، وكانت الأسلحة المصنوعة في كردستان تصلهم عبر العراق، وتُباع باسم السلاح المادي (نسبة إلى ماد = ميد)، وسمّاه العرب (ماذي)، باعتبار أنهم كانوا ينطقون حرف (د) في كثير من الكلمات غير العربية بصيغة (ذ)، فقالوا (بغداذ، آزاذ، آباذ، همذان، قُباذ، سُنباذ) بدلاً من ( (بغداد، آزاد، همدان، قُباد، سُنباد)، ولأمثلة على ذلك كثيرة في مصادر التراث العربي. وعدا هذا فإن الطَّبَري أورد اسم الميد بصيغة (ماذ)، وسمّى الملك الأخميني كورش (كيروش الماذَوي)، كما أن ابن خَلْدون أورد اسم الملك الأخميني داريوس بصيغة (داريوش ملك ماذي).
وقد قال الشاعر اليَثْرِبي عبد الله بن رَواحَة (من مشاهير الصحابة في الإسلام) يردّ على منافسه الشاعر اليَثْرِبي قَيْس بن الخَطِيم، قبل الإسلام:
ومُعْتَرَكٍ ضَنْكٍ يُرى الموتُ وَسْطَهُ مَشَينا له مَشْيَ الجِمال المَصاعِبِ
برَجْلٍ تَرى الماذِيَّ فوق جلودهمْ وبَيْضاً نَقيّاً مثلَ لون الكواكبِ
[معترك: معركة. ضنك: حامية جداً. المصاعب: جمع مُصْعَب، وهو الفحل القوي الذي لا يُركب، ويُترك للفحولة، وبه سمّى العرب اسم مُصْعًب، ومنهم مُصعب بن الزُّبَيْر بن العَوّام. رَجْل: مقاتلون مشاة. الماذيّ: السلاح. بَيض: جمع بيضة، أي خوذة].
وقال النابِغة الذُّبْياني (شاعر عاش قبل الإسلام) يمدح بعض العرب:
مُسْتَحْقِبِي حَلَقِ الماذِيِّ يَقْدُمُهم شُمُّ العَرانِينِ ضَرَّابُونَ لِلﮪامِ
[مستحقب: حامل معه. حلق الماذي: السلاح. العرانين: الأنوف. الهام: الرؤوس].
2 – اللباس الكردي: الكرد مشهورون إلى الآن بصنع الثياب والبسط، بسبب بعدهم عن المدن، واعتيادهم على الاكتفاء الذاتي في توفير الحاجات الأساسية، ونظراً للشبه بين حياة البدو الكرد Koçer والبدو العرب، كانت بعض الألبسة المصنوعة في كُردستان تلقى قبولاً في الوسط العربي، وكان يحمل اسم (الكُرديّ)، وقد جاء في (سُنَن أبي داود) ما يلي:
“عن عائِشةَ قالتْ: صَلّى رَسُولُ اللّه صَلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ في خَمِيصَةٍ لها أَعْلامٌ [= أهداب]، فقال: شَغَلَتْنِي أَعلامُ هذه، اذْهَبُوا بِها إلى أبي جَهْمٍ، وأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ… قَالَ [= الرواي]: وأَخَذَ كُرْدِيّاً كان لأبِي جَهْمٍ. فقِيل: يا رسُولَ اللّهِ، الخَمِيصَةُ كانتْ خَيْراً مِن الكُرْدِيِّ”.
ويُفهَم من المصادر أن الخَمِيصَة كِسَاء مُرَبَّع أسود في الغالب، يُنسَج من الحرير أو الصُوف، فيه تطريز بلون مختلف عن لون الكساء. أما الأَنْبِجَانِيَّة فكِسَاء غَلِيظ من غير تطريز، نسبة إِلَى مَوْضِع يُقَال لَهُ أَنْبِجَان. والمقصود بعبارة “وَأَخَذَ كُرْدِيّاً”، أَيْ “رِداء كُرْدِيّاً”. وجاء في بعض المصادر أن هذا النوع من الأردية منسوب إلى كُرْد بن عَمْرو بن عامر بن رَبِيعَة بن صَعْصَعَة، وقد ذكر بعض النسّابة العرب- ومنهم أَبُو الْيَقْظَان- أن كُرد بن عمر هو جدّ الكُرد”.
ونستخلص مما سبق أن مصنوعات كُردستان كانت تصل إلى أسواق العرب، وتحمل معها اسم (الكُردي)، وهذا دليل على وصول التجار العرب، أو التجار الذين كان العرب يتعاملون معهم، إلى كُردستان، أو إلى أسواق العراق التي كانت تتوافر فيها البضائع الكردستانية، وربما كانت ثمة علاقات تجارية بين الكرد والعرب.
الصحابي جابان الكُردي
ثمة دليل آخر على وجود العلاقات بين الكُرد والعرب قبل الإسلام، فالكتب الخاصة برجال الحديث النبوي تذكر تابعياً اسمه مَيْمُوْن الكُردي، وجاء في كتاب “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” للحافظ الذَّهَبي (ت 748ﮪ) أنّ كُنية ميمون هي أبو بَصِير، وذكر كلٌّ من الحافظ الذَّهَبي والحافظ المِزّي تابعياً آخر اسمه مَيْمون بن جابان، وكُنيته أبو الحَكَم، روى عن أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة مرفوعاً: “الجراد من صيد البحر”.
وروى ميمون الكُردي عن أبي عثمان النَّهْدي، وعن أبيه، عن النبي محمّد، وروى عنه جماعة منهم الزاهد الشهير مالك بن دِينار، وعَدّه أبو داود من الثِّقات في رواية الأحاديث النبوي، وقال أحمد بن حَنْبَل في مُسْنَده: “حدَّثَنا يزيد، حدّثنا دَيْلم، حدّثنا ميمون الكُردي، عن أبي عثمان؛ سمع عمرَ [= بن الخطّاب] يخطب، فقال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ أخوفَ ما أخاف على هذه الأُمّة كلَّ منافق عليمِ اللسان”.
قال اليَماني بشأن ميمون الكُردي: “لم يُعزَ ولم أعثر عليه، ووالدُ ميمون الكُردي لا يكاد يُعْرَف، وقد ذُكر في (أُسْد الغابة والإصابة) باسم جابان، ولم يذكروا له شيئاً. وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكُردي أنْ حدِّثْ عن أبيك الذي أدرك النبيَّ وسمع منه، فقال: كان أبي لا يُحدّثنا عن النبيّ مَخافةَ أن يَزيد أو يُنقص”.
ولم تُذكر السَّنة التي توفّي فيها التابعي ميمون الكُردي، لكنّ المصادر تشير إلى أنّ مالك بن دِينار الذي روى عنه عاش في البصرة وتوفّي سنة (123 أو 127 أو 130 ﮪ)، وإذا أخذنا بالحسبان أنّ متوسط عمر كلّ جيل يتراوح بين 35–40 سنة، فذلك يعني أنّ ميمون الكُردي كان حياً- على الغالب- في العَقد الأخير من القرن الأول الهجري.
ومهما يكن فإنّ ما يهمّنا هو جابان والد ميمون، وجاء في “أُسْد الغابة” لابن الأثير وفي “تجريد أسماء الصحابة” للحافظ الذَّهَبي وفي “روح المعاني” للآلُوسي اسمُ صحابيٍّ يدعى جابان أبو ميمون؛ سمع من النبي محمد حديثاً يفيد أنّ أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألاّ يعطيَها الصَّداقَ لَقِيَ اللهَ عزّ وجلّ وهو زانٍ. أمّا في كتاب “الإصابة في تمييز الصحابة” لابن حَجَر العَسْقَلاني فجاء الخبر عنه كما يأتي: “جابان والد ميمون: روى ابن مَنْدَه، من طريق أبي سعيد مَوْلى بني هاشم، عن أبي خالد: سمعتُ ميمونَ بن جابان الصَّرْدي، عن أبيه، أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم غيرَ مرة، حتى بلغ عشراً، يقول: مَن تزوّج امرأة وهو ينوي ألاّ يُعطيَها الصَّداق، لَقِيَ الله وهو زانٍ”.
ولم يذكر ياقوت الحموي في “معجم البلدان” بلداً أو قرية باسم “صرد”، ولم ترد النسبة إلى هذا الاسم في كتاب “الأنساب” للسَّمْعاني (ت 562ﮪ) ولا في كتاب “اللُّباب في تهذيب الأنساب” لابن الأَثير عزّ الدين (ت 630ﮪ)، لكن ورد في “معجم البلدان” لياقوت الحموي اسم “سَرْدَرُوذ”، وهي من قرى هَمَذان، وقد تكون النسبة “صَرْدي” محوّرة من “سَرْدي” نسبةً إلى سَرْدَرُوذ؛ وإذا صحّ ذلك فالأرجح أنّ جابان الصَّرْدي هو والد ميمون الكُردي، لأنّ هَمَذان تقع في إقليم الجبال، وهي من بلاد الكُرد، بل هي عاصمة الميديين القديمة أگباتانا.
تعليق واستنتاج
إن الأخبار السابقة تقودنا إلى الحقائق الآتية:
أولها: كردية جابان، فقد نصّت المصادر على كردية ابنه ميمون، وليس من المعقول أن يكون الابن كُردياً ويكون الأب من جنسية أخرى.
وثانيها: أنّ جابان كان من الصحابة، وأنه كان شديد الورع إلى درجة أنه كان يتحرّج في رواية الأحاديث عن النبي محمد مخافةَ السهو أو الخطأ.
وثالثها: أنّ سماع جابان من النبي محمد كان متكرّراً؛ أي إنه كان يلتقيه مراراً، وإلاّ فلماذا يطالب الناس ابنه ميموناً بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه عن النبي محمد؟
ورابعها: أنّ الكُرد منذ فجر الدعوة الإسلامية كانوا شعباً قائماً برأسه معروفاً باسمه، وكان معروفاً عند العرب في الحجاز باسم (كُرد)، والدليل أنه لم يُقل “ميمون الفارسي” كما قيل عن سلمان “سلمان الفارسي”، بل قيل: ميمون الكُردي.
ونستنتج مما سبق أنّ جابان كان مقيماً على الغالب في المدينة، حيث أقام النبي محمد بعد الهجرة، ولعله كان من أهل مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه؛ فالمعروف أنّ جاليات فارسية ورومية وصابئية وحبشية كانت تقيم في مكة لأغراض تجارية أو تبشيرية بالزردشتية أو سياسية، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات، على أن نأخذ بالاعتبار أنّ الكُرد كانوا- في الغالب- من التبعية الفارسية سياسياً ومن التبعية الزردشتية ثقافياً.
ومن المحتمل أن يكون جابان قد وقع في الأسر خلال الحروب الفارسية والبيزنطية، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتهى به الأمر إلى مكة أو المدينة، باعتبارهما مركزين تجاريين بين العراق وبلاد الشام من ناحية وبين اليمن بوّابة شبه الجزيرة العربية على إفريقيا وجنوبي آسيا من ناحية أخرى. وعلى أية حال لم يكن جابان حديث عهدٍ بالحجاز، وإلا فكيف أجاد اللغة العربية فهماً وتحدّثاً إلى درجة أنه كان يفهم بدقّة ما يسمعه من النبي محمد، وينقل ما سمعه إلى الآخرين بدقة؟
المراجع:
هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 517.
المرجع السابق نفسه.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 1/683.
النابغة الذبياني: ديوان النابغة الذبياني، ص 230.
أبو داود: سُنن أبي داود، 1/303 – 304.
محمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود، 2/409.
الذَّهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، 4/236. وانظر المِزّي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 27/136، 29/236. ابن حَجَر العَسْقَلاني: تهذيب التهذيب، 10/394 – 395.
عبد الرحمن بن يحيى اليَماني: الأنوار الكاشفة، ص59.
الذهبي: تجريد أسماء الصحابة، 1/71. ابن الأثير: أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، 1/299. ابن حَجَر العَسْقَلاني: الإصابة في تمييز الصجابة، 1/201.
ياقوت الحموي: معجم البلدان، 3/236. وانظر ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب، ج2، باب السين والراء. السَّمعاني: الأنساب، ج5، باب السين والراء.[1]