الرحالة المصري محمد ثابت
دخلنا بلاد العراق من جزئها الشمالي وهو كردستان، وكنا وافدين من حلب فوصلنا نصيبين بعد 17 ساعة بالقطار، وسط سهول مهملة تزرع القثاء والبطيخ، ولقد سميت الجهة ببلاد البراغيث لكثرة سماع كلمة برغوث، وهو عملة تركية متداولة، وكانت القرى بالطين والناس يتكلمون أربع لغات: التركية، والكردية، والأرمنية، والعربية.
وفي نصيبين تقع الحدود التركية السورية، ومظهر الناس مخيف في العيون السوداء البراقة الواسعة، والأنف الأشم، والقامة الشامخة، والشعر الأسود الغزير. والنساء يظهرن في خرق مرقعة ويدلين من الصدغين خصلتين ثقيلتين طويلتين من الشعر، ويربطن الجبهة بمنديل ملوَّن. وبعد نصف ساعة من نصيبين بالسيارة دخلنا حدود العراق عند الموصل، فبدت أبنيتها تحكي أبنية القرون الوسطى في أقبية فطساء، وكثير منها متهدم كأنها بلد أثري، وشواطئ دجلة مهملة جدٍّا نرى النساء في جماعات يغسلن الثياب وبيد كل واحدة مطرقة لدقها عند الغسيل، والمقاهي البلدية متعددة يقتل القوم عليها وقتهم بدون جدوى، وعلى النهر قنطرة ترفع على الزوارق، وقد أذكرني هجير حرها بحَرِّ بلاد الهند.
والناس خليط عجيب، الأكراد بأرديتهم الفضفاضة وأسلحتهم المجهزة، واليزيديون عبدة الشيطان بقمصانهم الحمراء الغريبة، والآشوريون أهل الجبال، والكلدانيون في سراويلهم وجلهم من المسيحيين، والبدو وهم سواد أهل البلاد يلبسون العقال، والمتحضر من الحرير « العبا » منهم يلبس الفيصلية، ونساؤهم رشيقات، وأعجب ما في هندامهن الأسود يرسل من فوق الرأس على الجسم كله.
ولم تشعرني الموصل بماضيها المجيد يوم كانت من كبريات العواصم وأمهات المدن التجارية والصناعية، فلا يزال الحرير الموصلي المسمَّى موسلين يحمل اسمها مع أنه لا يُصنع فيها اليوم، وحولها منطقة عظيمة الخصب ومنابع غنية جدٍّا بالبترول، ولا أدري لِمَ « عربانة » يهملون كل أولئك حتى يستعملها الأجانب وكان الوطنيون أولى بذلك؟ قمت في إلى نينوي على الضفة الأخرى لدجلة، فبدت كومة هائلة من تراب بها بعض السراديب والمغائر وذاك كل ما بقي من عظمة آشور، وزرت بجانبها تل النبي يونس الذي ابتلعه الحوت، يقام على مدفنه مسجد ذو مئذنة دقيقة، ويقال إن المدفون هناك رفات قديس مسيحي كان يقوم حوله دير قديم، وعلى جوانب هذا التل عثر المؤرخون على المكتبة الملكية لنينوي وقد كُتِبت بالخط المسماري على ألواح من طين. دخلت أحد مطاعم الموصل لأتناول الغداء قبل مغادرتي البلدة، وكان القوم من حولي يأكلون، ولما أن قمت أدفع الحساب وإذا بأحد الموصليين دفعه عني إكرامًا لي دون أية معرفة، «. خالص أخي » : قال الرجل وحاولت عبثًا أن أرده فأبى، فالعراقيون قد جمعوا بين كرم الخصب الزراعي وكرم أهل البادية، وتلك من أخصفضائلهم، وقد زاملني في السيارة من الموصل إلى كركوك طائفة منهم أوقفونا في الطريق مرات للاستراحة وتناول الشاي، ولم أستطع دفعشيء قطُّ طوال الطريق.إحدى مدن الآشوريين على اسم أحد « نمروذ » سرنا بالسيارة وعرجنا على قريةملوكهم، الذي لما عارضه سيدنا إبراهيم أمر بحرقه وألقي في النار سبعة أيام خرج بعدها سليمًا، وإلى جنوب هذه القرية رأينا أطلال آشور أقدم بلدانهم.
بغداد
قمنا بالقطار وسط سهول نصف مهملة، وترى كأنها قرى صعيد مصر، وأخيرًا في عشر ساعات بدت طلائع بغداد في شكل متهدم منفر خيَّبَ ظني، على أني لما أوغلت في البلدة الذي يحكي « الرشيد » ألفيت فيها بعض نواحي الجمال، وبخاصة في شارعها الرئيسي شارع محمد علي بمصر. ولقد هداني السائق إلى فندق هلال، وما كدت أعود إليه ليلًا حتى وجدت نفسيوسط مكان للغناء والموسيقى والرقصوالمجون الذي يظل كذلك طوال الليل،فأمضيت ليلتي على مضض، ولو أني استمتعت بمناظر المرح التي أذكرتني بأقاصيص ألف ليلة، وفي الصباح عبرت جسر مود السابح على الزوارق، وتجوَّلْتُ في الرصافة في الشرق والكرخ في الغرب، وهنا تقام الملاهي والمقاهي والمقاصف، فهو مستراضالشباب عند الأصيل، مما يُشعِر بأن الشعب العراقي مَرِح ميَّال إلى الرفه والمجون، والنساء على جمال فائق وبخاصة اليهوديات بالمعاطف المهفهفة من الحرير الثمين، ويلبسها حتى كذلك شعورهن السوداء الغزيرة الهادلة من أخص،”العبا » صغار الفتيات وتُسمَّى علامات الجمال العراقي، وإن عابه طول الأنوف والمنطق المنفر الممطوط.
وركبت عربة مدة ساعتين إلى طاق كسرى أو إيوان كسرى، ولم يَبْقَ منه إلا جانب من الواجهة والبهو الأوسط في عُلُوٍّ هائل، ومن الآجر الأصفر، وكان يضم من آيات البذخ والغنى لملوك الفرس الأقدمين وقعت كلها غنائم في يد سعد، وزَّعَ أربعة أخماسها على جنوده، وعددهم ستون ألفًا، فخص الواحد ما قيمته 312 جنيهًا، أما الخُمْس فأرُسِل إلى بيت المال.
قمت بالقطار إلى الحلة وسط أرض خصبة يسقيها سد الهندية الذي يروي ثلث مليون فدان، والذي أقُِيم على نهر الفرات، وأخذت سيارة مسيرة ساعة إلى بابل التي بناها الكلدانيون على الضفة اليمنى للفرات، فوجدتها أطلالًا من الطين من بينها بقايا الحدائق المعلَّقَة إحدى عجائب الدنيا السبع، وكانت تقام من مساطب فوق بعضها كالهرم المدرج من الصخر ترفعه البوائك، ترويها مضخة هائلة ترفع الماء إلى الدور الأعلى، ومنه يجري فيروي الحدائق كلها، ولاتقاء الرطوبة بُطِّنَتِ الأقبية بطبقة من الرصاص. وإلى شمالها وبجانبها أسد بابل الشهير الذي يطأ تحته رجلًا، « نبوبولصار » قليلًا رأينا أطلال قصور وهنا جرت أكبر موقعة بين سعد بن أبي وقاص وجيوش الفرس سنة 16 هج حينما فتح العرب المدائن. قمنا بالسيارة إلى الكوفة، وكانت تكثر من حولنا أنقاض القدماء في تلال منثورة، وزرنا مدفن ذي الكفل الذي يقدِّسه المسلمون واليهود على السواء.
إلى البصرة بلدة السندباد البحري
دخلتها وافدًا من البحر عند عودتي من فارس، فدخلت بنا الباخرة الخليج الفارسي، ثم شط العرب باتساعه الهائل، وعلى جوانبه غابات من النخيل يصدر من بلحه بمليون جنيه كل عام. والثغر بدا هائلًا كثير الحركة والبواخر والأرصفة، وتُعنَى به إنجلترا كثيرًا، وقدقمنا من الميناء بسيارة نحو عشرة كيلومترات إلى البصرة نفسها، وكانت لا تزال تُرصف في هذه الجهةِ الشوارعُ وتخطط الأحياء الحديثة، أما البلدة فقذرة منفرة ليس بها من جمال سوى فروع شط العرب التي تُرَى أينماسرت، وفيها الزوارق النحيلة التي تحكي جندول وقد أقَلَّتْني ساعة إلى القرنة،« البلم » البندقية، وتُعَدُّ وسيلة هامة للنقل هناك ويسمونها عند ملتقى النهرين ويسمونها جنة عدن، ولو لم أجد بها ما يعزز ذلك؛ فهي حقيرة فقيرة حولها المستنقعات، تقوم عليها أخصاص السكان من الغاب ويتصلون بالزوارق، وهم سبَّاحون مهرة، غذاؤهم الأرز والسمك، على أن البيئة المائية خلقت فيهم انحلالًا خلقيٍّا شنيعًا. وإلى الشمال منهم حول قرية عمارة قوم من الصابئة من الموحدين المغالين في أمور الطهر والغسل، يحرِّمون خدمة الغير لهم، ويخالهم المسلمون أهل سبأ والنصارى.
قمت بالقطار من البصرة إلى بغداد مسافة 550 كم قطعناها في يوم كامل وسط جو مترب لافح الهجير، ومنها إلى الشام فمصر، وودعت العراق بذكريات الماضيالعظيمة التي لم ألمس من قوتها شيئًا اليوم، اللهم إلا في حماسة القوم ونعرتهم القومية التي لا شك ستصل بهم إلى المستوى الذي يليق بكرامتهم، وإلى نبذ ما تخلف عن الماضيمن خيالات.
وخرافات وسحر تسرَّب إلينا نحن في مصرمنها الكثير.
عن كتاب (رحلاتي في مشارق الارض ومغاربها).[1]