ايمان البستاني
#بلند الحيدري# ولد في بغداد في 26 أيلول سبتمبر 1926 شاعر عراقي، كردي الأصل واسمه يعني شامخ في اللغة الكردية. والدته فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي كان يشغل منصب شيخ الإسلام في إستانبول..
=KTML_Bold=العائلة الحيدرية=KTML_End=
والد بلند كان ضابطا في الجيش العراقي، وهو من عائلة كبيرة أغلبها كان يقطن في شمال العراق ما بين أربيل وسلسلة جبال السليمانية، ومن هذه العائلة برز أيضا جمال الحيدري الزعيم الشيوعي المعروف والذي قتل في انقلاب الثامن من شباط فبراير عام 1963 مع أخيه مهيب الحيدري. وهناك إلى جانب بلند الأخ الأكبر صفاء الحيدري وهو شاعر بدأ كتابة الشعر بالطبع قبل بلند وله دواوين شعرية عديدة مطبوعة في العراق، وصفاء هذا كان يتصف بنزعة وجودية متمردة، ذهبت به للقيام بنصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة لغرض السكنى فيها، وهناك في بعقوبة تعرّف على الشاعر الوجودي المشرد حسين مردان الذي بدوره عرّفه على بلند
=KTML_Bold=المنافسة بين بلند وصفاء=KTML_End=
كانت بين الأخوين بلند وصفاء منافسة واضحة، فعندما كان صفاء على سبيل المثال ملاكما كان بلند ملاكما أيضا، وعندما برز اسم صفاء الحيدري في ساحة الشعر العراقي ظهر اسم بلند ليتجاوزه وينال حظوة وشهرة في العراق والعالم العربي. وكان صفاء يكتب رسائل لبلند ويخبره بأنه غطى عليه وانه حطمه الخ..
=KTML_Bold=حياة مضطربة=KTML_End=
في بداية حياته تنقل بلند بين المدن الكردية ؛ السليمانية وأربيل وكركوك بحكم عمل والده كضابط في الجيش. في العام 1940 انفصل الوالدان. ولما توفيت والدته التي كان متعلقا بها كثيرا في العام 1942 انتقلت العائلة إلى بيت جدتهم والدة أبيه. لم ينسجم بلند في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة فحاول الانتحار وترك دراسته قبل أن يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدءاً تشرده في سن المراهقة المبكر وهو في السادسة عشرة من عمره. توفي والده في عام 1945 ولم يُسمح لبلند ان يسير في جنازته. نام بلند تحت جسور بغداد لعدة ليال، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العرائض (العرضحالجي) أمام وزارة العدل حيث كان خاله داوود الحيدري وزيرا للعدل وذلك تحدي للعائلة. بالرغم من تشرده كان بلند حريصا على تثقيف نفسه فكان يذهب إلى المكتبة العامة لسنين ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل إذ كوّن صداقة مع حارس المكتبة الذي كان يسمح له بالبقاء بعد إقفال المكتبة. كانت ثقافته انتقائية، فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس وكان معجب بفرويد وقرأ الفلسفة وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية والديمقراطية، علاوة على قراءته للأدب العربي من خلال الترجمات. وتوفي بلند سنة 1996 في مستشفى بنيويورك وقد اختص بيروت التي عشقها ب 14 قصيدة ضمنها ديوان صغير (إلى بيروت مع تحياتي) 1989 وفي إحدى هذه القصائد يخاطب زميل دربه خليل حاوي بعد أن فجع بحادثة انتحاره قف كالنخلة فارعة أو قف كالطود الشامخ واجمع في فوهة سوداء لبركان صارخ صوتك واعلن موتك وأخيراً صدر لبلند ديوان (دروب في المنفى) قبل أيامٍ من رحيله إلى مثواه الأخير وظل بلند الحيدري ملتزماً بالمقالات والأبحاث والدراسات والأشعار التي يطل بها اسبوعياً على قراء مجلة (المجلة) منذ سنوات نشأتها الأولى. ونظراً لمكانته الأدبية وإسهاماته الإيجابية في العطاء الصادق فما كان يستقر لأيام معدودات في بيته، وإذ بالمهام الأدبية والفكرية التي أناطته بها المؤسسات الثقافية في الوطن العربي.. والتي قد فرضت عليه أن يرحل من موقع لآخر في أرجاء العالم..
ولبلند – الشاعر – دراسات أخرى في حقول الأدب والنقد والفكر
زمن لكل الأزمنة 1979
نقاط ضوء 1979
مدخل إلى الشعر العراقي الحديث 1987
لهذه الأسباب وغيرها، فلم يكن لدى بلند الحيدري من الوقت الكافي للخوض في معارك دون كيشوتية، إن معركته الحقيقية مع الواقع المعاش كانت تأخذ منه جل إهتمامه ووقته. ولكن مع كل هذا فإن الشهادة له بالريادة في الشعر الحديث قد جاءته من المتعاركين أنفسهم، فانتصر لنفسه في معركة الريادة في الشعر الحديث دون أن يخوض تلك المعارك!! فها هو بدر شاكر السياب يسجل اعترافه لبلند الحيدري عام 1956 حينما كتب بلند الحيدري، هذا الشاعر الممتاز الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعتبرها واقعية
وقبل تاريخ كلمة السياب بأربع سنوات، كانت هناك شهادة عبد الوهاب البياتي الذي يندر أن يصدر شهادة لأحد إلا إذا كان قد استحوذ على إعجابه وفرض عليه نفسه.. كتب البياتي عام 1952:
إن بلند شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها.. وفي طريقته التي لا يقف فيها معه الا شعراء قلائل من العراق وقد توسعت دائرة الاهتمام بمعطيات الشاعر بلند الحيدري لتجتاز الحدود العربية بعد أن قام ديزموند ستيوارت بترجمة أشعاره إلى الإنجليزية أن شعر بلند يعبر عن الشعور بالخيبة الذي يكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير هو أصدق من قصائد الحماسة المتعمدة التي ينظمها الشعراء السياسيون، حيث يهاجمون جميع الناس لجميع الأسباب».. وديزموند ستيوارت – الذي ترجم أشعار بلند الحيدري 1950 – قد أظهر إعجاباً منقطع النظير بشعره دون سواه من أقرانه. ثم توالت الترجمات المختلفة للغات المختلفة لشعر بلند الحيدري، الذي كرمته فرنسا قبيل رحيله في محفل أدبي كبير لا يكرم فيه عادة إلا الكبار في عطاءاتهم الأدبية في العالم. .. نستنتج مما سبق أن الشاعر الإنسان بلند الحيدري لم يكن لديه من الفراغ ما يملأ به تلك السجالات التي تدور في فلك (لمن الأولويات في ريادة الشعر الحديث)، فقد كانت الأولوية عند بلند للقصيدة وللبحث.. وللحضور الأدبي والفكري والثقافي أما عن خصائص بلند الحيدري الشعرية، فإن الحديث يطول بنا فهناك العديد من الدراسات الأكاديمية التي قامت بها أعداد كبيرة من الدارسين والدارسات في مناطق متعددة من جامعات العالم قد استفاضت في تحديد وتشخيص ملامح القصيدة الشعرية عند بلند. ولكن هناك شبه إجماع من النقاد العرب بأن نازك والسياب والبياتي لم يدركوا الرومانسية في الشعر العربي إلا في أيامها الأخيرة.. ولم يكن تبنيهم لها في مجاميعهم الشعرية الأولى لمرحلة حضارية عاصروها، كما كانت جماعة (أبوللو).. لأن هذه المرحلة في حياة المجتمع العربي بدأت بالانحسار على إثر انفتاح هذا المجتمع – بعد الحرب العالمية الثانية – على ملامح واقع جديد، وتيارات فكرية وفنية جديدة، وانما كان تبنيهم لها تمثيلاً لمرحلة ذاتية كان يمر بها هؤلاء الشعراء الشباب. .. ومما يؤكد ذلك أن ديوان بلند الحيدري الأول (خفقة الطين) كان ينطوي على بوادر كثيرة للإبداع الفني مما ينفي عنه صفة الشاعر المبتدئ. أما عن التأثيرات التي صقلت موهبة بلند الحيدري فإنه يعترف بها في محاضرة ألقاها في صنعاء ودونها الدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه (الشعر: بين الرؤيا والتشكيل) حيث تحدث بلند الحيدري عن فترة تكوينه ونشأته الفكرية وتأثره بالمدارس الثقافية السائدة في عصره حيث قال: « في تلك الفترة نشأنا بالقرب من تجربة الجواهري، والياس أبي شبكة، وعمر أبو ريشة، ومحمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه.. وكذلك تجربة شعراء المهجر، ولا سيما إيليا أبو ماضي ونسيم عريضة.
• وكنا نحاول أن نلتقي ونفترق في آن واحد.. لأن العصر كان يمر بمنعطف، وهذا المنعطف كان يجمع ويفرق في آن واحد.. وإذا كنتم تسألونني عن المضمون – والكلام لازال لبلند الحيدري في صنعاء – فالمضمون بلا شك هو الذي يغير الشكل، ولكن ليس بالضرورة أن يكون المضمون تجديداً تقدمياً، ف (إليوت) من أكبر المجددين في بنية القصيدة الإنجليزية الحديثة.. إلا أنه ينطلق من خلال ثلاث بؤر رجعية في فكره أهمها: هيمنة الكنيسة والطبقة الحاكمة، ويراها مصدراً من مصادر القوة لكل العالم.. وكذلك هو (عزرا باوند) – استاذ اليوت – كان من المجددين، لكنه يحمل فكراً فاشياً.» وينهي بلند محاضرته قائلاً: « ما نقوله نحن في التجديد في الشكل قد لا يكون تقدمياً، ولكن ثمة مضامين فرضت تغييراً في الأشكال « إلا أن بعض النقاد قد قارنوا بين قصائد بلند الحيدري، وقصائد أخرى لشعراء كبار مثل إلياس أبو شبكة حيث تمت المقارنة بين قصيدة (شمشون) وقصيدة بلند (سمير اميس).. وتبين من هذه المقارنة أن بلند الحيدري قد أُعجب بشعر أبي شبكة وبالذات في موقفه من الجنس مما أدى إلى ذلك التشابه بين القصيدتين في الروح والوزن والقافية.. رغم أن قصيدة أبي شبكة قد اتخذت المنهج العمودي في وضوح الصور والمعاني وجزالة التركيب، بينما أضفى بلند على قصيدته طابعاً من الغموض والهجس..
وأشار النقاد إلى تأثر بلند الحيدري أيضاً بأسلوب (عمر أبو ريشة) ويرون أن الحيدري حاول تقليد أبو ريشة في بعض موضوعاته عندما كتب قصيدة (موت شاعر) واعتبروها الأخت الصغرى لقصيدة عمر أبو ريشة (مصرع فنان)... ووجد النقاد كذلك نفس القصيدة (موت شاعر) تلمح فيها ظلال من قصيدة (المساء) لإيليا أبو ماضي، ويستشهدون بقول بلند الحيدري
كفى التألم واهجعي
سلمى زمانك لا يعي عبثاً
ترومين الصباح.. وصبح سعدك قد نعي
ولكي لا نقفز على مجرى تتابع الأحداث في حياة الشاعر بلند الحيدري فلا بد من الاشاره إلى أهم المحطات التي أثرت في تاريخ مجرى حياته.
بلند الحيدري يجسد الأنموذج الأمثل – بعد عباس محمود العقاد – للمثقف العصامي الذي أدار ظهره لصروح الأكاديميات، وأخذ ينهل بشغف من الثقافات الإنسانية المتنوعة، مما هيأة لأن يكون حجة ومرجعاً لكل ما يمت إلى تلك المعارف الانسانية في مضمار الآداب والفنون بصلة وعندما عمل في مؤسسة الزراعة العراقية، وساهم في انشاء مجلة الزراعة، كان يشاركه في تحريرها صديقه الشاعر حسين مردان، وجد أن تلك الوظيفة وتلك المجلة، لا تحققان ما تطمح إليه نفسه فتركها لينضم إلى مجموعة من الثائرين على المألوف، أطلقوا على أنفسهم مجموعة (الوقت الضائع) حيث ضمت هذه المجموعة عدداً من الفنانين التشكيليين من أبرزهم جواد سليم ونزار سليم وبلند الحيدري وكانت هذه المجموعة تحظى بتشجيع وتأييد دعاة التجديد في الفنون ومن بينهم جبرا ابراهيم جبرا وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، كان بلند الحيدري من أبرز الأعضاء المؤسسين والنشطين في اتحاد الأدباء في العراق، حيث استمر في عطائه، إلى أن زُج به في السجن بسبب التقلبات السياسية التي اتخذت من العراق مسرحاً لها بعد قيام الثورة أو الانقلاب العسكري فيها.
وأطلق سراح بلند الحيدري من السجن بصعوبة بالغة ليرحل إلى بيروت وليتولى سكرتارية التحرير في مجلة علمية متخصصة، ظن القائمون عليها أن الحيدري متخصص في دراسة العلوم ويمارس هوايته في كتابة الشعر
عاد إلى العراق بدعوة رسمية ليشارك في مهرجان الاحتفال بذكرى (أبو تمام) الذي أقيم في مدينة الموصل.. ولما رجع إلى بيروت وجد أن الحرب الأهلية قد استعرت.. فشد الرحال إلى بغداد ليعمل في وزارة الاعلام كمسئول في مجلة آفاق عربية لكن بلند الحيدري لم يكن يحتمل ما يحدث من انتهاكات وتجاوزات بحق شعب العراق، فجاء إلى لندن ليستقر فيها منذ ذلك التاريخ حيث انطلق من العاصمة البريطانية بذلك الزخم الكبير من الانجازات الثقافية والسياسية التي كان يقوم بها عبر نشاطاته المستمرة دون هوادة.
منذ سنوات، رحل بلند الحيدري إلى مثواه الأخير، وقد حفلت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى بذكر هذا الرزء المؤلم، وكتبت العديد من المقالات والمرثيات التي جاءت على الكثير من تاريخ حياته وأشادت إلى معطياته، وتحدثت عن صفاته وسجاياه الطيبة في وطنه وفي منفاه. ولا أحسب أني بقادر على الإتيان بجديد عما قيل في بلند الحيدري سوى أن أطلعكم على ما كتبه بلند الحيدري عن بلند الحيدري قبيل دخوله المستشفى بساعات: « كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، فقد فقد وضعت كرسياً ومنضدة متهرئة لأغدو كاتباً للعرائض – (عرضحالجي) – أمام بوابة وزارة العدلية التي كان خالي داوود باشا الحيدري يشغل منصب الوزير فيها.. وهذا التمرد على العائلة كان صدى لتمردي على الشكل العشائري الموروث. ربما بدأ المنفى في حياتي يوم عشت غربة حقيقية في داري حيث توزع حب والديّ ما بين حب أمي لأخي الكبير وحب أبي لأخي الصغير وهذا ما أشعرني بالكثير من الاغتراب في حيز العائلة، وهو مادفع بي إلى الهرب من البيت. إذن فالمنفى كان في نفسي منذ البدء، وكبر هذا المنفى بمعان مختلفة عندما وقفت، وأقف سياسياً ضد النظام السائد في العراق
بلند الحيدري وبتول الفكيكي مع شقيقها اديب
وعن تجربته الكبيرة أثناء اقامته في بيروت يكتب بلند الحيدري: في بيروت وقعت في البيت ذي الأبواب العديدة، كان لكل منا أن يجد نفسه في الباب التي يريد عبورها.. المسلم مسلم، والمسيحي مسيحي.. في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديموقراطياً وأن أفهم الآخر، وأن أؤكد على كل الأبواب المفتوحة على بعضها بعضاً. طريقي إلى بيت يوسف الخال كان مفتوحاً، وطريقي إلى بيت حسين مروه كان مفتوحاً وطريقي إلى بيت أدونيس كان مفتوحاً، ومن خلال بيتنا خرجت (مواقف) يومذاك: وكل هذا الكلام على التوجهات المتناقضة التي تعودت أن أتعامل معها علمني أن أكون ديموقراطياً، وحسبي أن أذكر صداقتي لتوفيق صايغ رغم اختلافنا اختلافاً جوهرياً. في هذا البلد – بيروت – تعلمت أهمية احترام الرأي الآخر والدفاع عن الرأي الآخر عندما يكون الهجوم على هذا الرأي هو منال منك – أيضاً - في يوم آخر، في هذا البيت الكبير عقدت الصداقات مابين أدونيس والشيوعيين، وفي هذا البيت عقدت صداقات مابين القوميين وخليل حاوي.. وبين الآخرين المناوئين لتوجهاته.. إذن تشكل في بيروت المنحى الأهم في تجربتي الشعرية وتجربتي السياسية في الآن ذاته» بيروت.. يا موتاً اكبر من تابوت.. يا موتا لا يعرف كيف يموت.. لن يعرف كيف يموت
لا أظنني في هذا الموضوع قد وفيت الشاعر الأديب المثقف الانسان بلند الحيدري حقه.. ولهذا سآتي على جزء من قصيدة له قال فيها:» خسئتم.. من قال: مات لا.. لم يمت.. مازال صوت خطاه يملأ عرق.. ها.. نحن آتون به..مواكباً تسأل عن طريقها في الموت والفداء»..رحم الله الشاعر الانسان بلند الحيدري. [1]