منذ سنوات قليلة، رحل #بلند الحيدري# إلى مثواه الأخير، وقد حفلت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى بذكر هذا الرزء المؤلم، وكتبت العديد من المقالات والمرثيات التي جاءت على الكثير من تاريخ حياته وأشادت إلى معطياته، وتحدثت عن صفاته وسجاياه الطيبة في وطنه وفي منفاه.
ولا أحسب أني بقادر على الإتيان بجديد عما قيل فيه سوى أن أطلعكم على ما كتبه بلند الحيدري عن بلند الحيدري قبيل دخوله المستشفى بساعات:
«كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياً وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، فقد وضعت كرسياً ومنضدة متهرئة لأغدو كاتباً للعرائض – (عرضحالجي) – أمام بوابة وزارة العدلية التي كان خالي داود باشا الحيدري يشغل منصب الوزير فيها.. وهذا التمرد على العائلة كان صدى لتمردي على الشكل العشائري الموروث.
ربما بدأ المنفى في حياتي يوم عشت غربة حقيقية في داري حيث توزع حب والديّ ما بين حب أمي لأخي الكبير وحب أبي لأخي الصغير وهذا ما أشعرني بالكثير من الاغتراب في حيز العائلة، وهو مادفع بي إلى الهرب من البيت.
إذن فالمنفى كان في نفسي منذ البدء، وكبر هذا المنفى بمعان مختلفة عندما وقفت، وأقف سياسياً ضد النظام السائد في العراق.»
* وعن تجربته الكبيرة أثناء اقامته في بيروت يكتب بلند الحيدري:
«في بيروت وقعت في البيت ذي الأبواب العديدة، كان لكل منا أن يجد نفسه في الباب التي يريد عبورها.. المسلم مسلم، والمسيحي مسيحي.. في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديموقراطياً وأن أفهم الآخر، وأن أؤكد كل الأبواب المفتوحة بعضها على البعض.
طريقي إلى بيت يوسف الخال كان مفتوحاً، وطريقي إلى بيت حسين مروه كان مفتوحاً وطريقي إلى بيت أدونيس كان مفتوحاً، ومن خلال بيتنا خرجت (مواقف) يومذاك:
وكل هذا الكلام على التوجهات المتناقضة التي تعودت أن أتعامل معها علمني أن أكون ديموقراطياً، وحسبي أن أذكر صداقتي لتوفيق صايغ برغم اختلافنا اختلافاً جوهرياً.
في هذا البلد – بيروت – تعلمت أهمية احترام الرأي الآخر والدفاع عن الرأي الآخر عندما يكون الهجوم على هذا الرأي هو منال منك – أيضاً - في يوم آخر، في هذا البيت الكبير عقدت الصداقات مابين أدونيس والشيوعيين، وفي هذا البيت عقدت صداقات مابين القوميين وخليل حاوي.. وبين الآخرين المناوئين لتوجهاته.. إذن تشكل في بيروت المنحى الأهم في تجربتي الشعرية وتجربتي السياسية في الآن ذاته»
بيروت..
يا موتاً اكبر من تابوت.. يا موتا لا يعرف كيف يموت..
لن يعرف كيف يموت..
حروب الدكتاتور
.. في سنوات تفاقم الأحداث السياسية الخانقة، كرس بلند الحيدري جل وقته – إلى جانب واجباته الثقافية – للعمل السياسي في صفوف المعارضة العراقية وان كان يعتبر نفسه مِلْكاً لكل العراقيين.
* وقد كون مع مجموعة من المثقفين تنظيماً ديموقراطياً من أهدافه تأصيل الغد الديموقراطي لعراق المستقبل.
... وأصبح الشاعر بلند الحيدري الذي عاصر سلسلة من الهزائم والحروب في الشرق الأوسط، من أكثر الشعراء المعاصرين ازدراءاً للعنف ونقمة على الارهاب والارهابيين.. وما كان يترك مناسبة ثقافية أو سياسية إلا ويطرح السؤال تلو السؤال:»من أدخل الحرب إلى المنطقة؟ وبالذات الحرب التي عصفت بلبنان لعدة سنوات؟»ويجيب:»لا بد من الإجابة!!! أن ثمة دولاً كبرى كانت وراء هذه الحرب اللعينة، وهي التي صرفت مليارات الدولارات على استمرارها ليحرق هشيمها الأخضر واليابس».
ويطرح بلند الحيدري نفس السؤال عن حرب أخرى في منطقة أخرى:
«من كان وراء الحرب التي دارت رحاها بين الجارين إيران والعراق؟»
ويشخص بالارقام ما استنفدته هذه الحروب من خسائر بشرية ومادية.. ويكتب بلند الحيدري في مكان آخر:»وجاءت الحرب التي قادها النظام العراقي على الكويت، وكأن هدف هذه الحرب هو البقاء على الديكتاتورية قائمة في المنطقة بعد أن دفع شعب المنطقة مئات المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة، ومعنى ذلك أن النظام العراقي سيبقى دائماً لأن بقاءه ضمان لبقاء جيوش أجنبية في المنطقة».
المثقف.... المثقف!
ويسأل بلند الحيدري عن دور المثقف العربي في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا؟!
فتتحرك قسمات وجهه من شدة الغضب، لكنه يجيب مبتسماً – كعادته -:»أين هو المثقف العربي؟».. المثقف العربي في بلادنا موزع تحت ثلاثة أنواع من القهر المنظم الذي تمارسه السلطات ضد الثقافة، وهذا لا يسري على العراق فحسب والعراق ليس المجتمع الديكتاتوري الوحيد في الشرق الأوسط.
فمعظم الأنظمة.. وبالذات الثورية منها قد فرضت على المثقف أن يكون خاضعاً لها، وهذا القمع، وهذا الخضوع.. قد انتج ثلاثة نماذج من المثقفين:
الأول: ما يسمى بما سحي أحذية النظام.
الثاني: ذاك الذي يتمثل بالقردة الهندية الثلاث (لم أسمع، لم أر، لم أتكلم) ليحفظ سلامته.
الثالث: هو الذي وجد فسحة صغيرة هرب بها إلى الخارج ليمارس وبصوت هامس شيئاً من واجبه كمثقف.
.. هذا هو القهر الأول.. أما القهر الثاني: فهو القهر الذي تمارسه العصبيات القومية والحزبية، وتلك التي جعلت من نفسها وصية للسماء على الأرض... وكلها ضد المثقف ومن يخرج عن تعاليم هذا الثالوث قليلاً كان مصيره القتل والتنكيل والحكم عليه بالزندقة والهرطقة.. وهكذا أصبحنا نتلقى الأنباء يومياً وهي تحمل لنا قتل العديد من المثقفين في مناطق متعددة من وطننا بل كادت السكين ان تحتز رقبة نجيب محفوظ.
.. والقهر الثالث يأتي من الأمية الشائعة في عالمنا العربي بحيث لم يقم الجمهور بأي دور لحماية الانسان المثقف والوقوف إلى جانبه باعتباره معبراً عن ضمير الأمة كما هو شأن الشعوب في الأمم المتطورة والمتحضرة... فماذا يفعل المثقف العربي وسط هذا المحيط القهري.[1]