نهر الفرات ما بين قانون الأنهار الدولية وشرع الله وفعل الإنسان الجاحد
المحامي صالح عيسى*
بداية لا بد أن نقف عند هذه الآية الكريمة «وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيٍ» (الأنبياء 30)، ثم الآية «عذبٌ فراتٌ» (الفرقان 53)، ثم الآية «واسقيناكم ماءً فراتًا» (المرسلات 27).
هذه الآيات القرآنية تجعل من هذا النهر نهراً مباركاً ومقدساً لدى المؤمنين جميعاً، إلا أن هذا النهر تحول من المقدس إلى التلوث بفعل الذي يتخذ من نفسه سلطاناً وخليفة للمسلمين، مع أن جلَّ أفعاله الظالمة تُمارس بحق المسلمين الذين هم أكثر إيماناً وتقوى منه.
أولاً: تعريف النهر الدولي: هو النهر الذي يعبر مجراه أراضي أكثر من دولة مثل (النيل والفرات… الخ).
ثانياً: قانون الأنهار أو اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية: هي وثيقة أقرّتها الأمم المتحدة تتعلق باستخدامات والحفاظ على المياه العابرة للحدود الدولية بموجب قرارها رقم 51/229 بتاريخ 1997/7/21 تحت مسمى الاتفاقية العامة حول القانون المتعلق باستخدامات المجاري المائية الدولية لأغراض أخرى غير الملاحية.
وحددت هذه الاتفاقية مجموعة مواد تتعلق باستخدام المياه السطحية والجوفية من دون الإساءة للغير ومنها:
1- مبدأ المسؤولية الدولية عن الأضرار بالغير، وهذا المبدأ أصبح قاعدة عرفية لدى (محكمة العدل الدولية) و إن هذه القاعدة ليست ملزمة للدول ولكن على الدول احترامها، لعدة أسباب منها سياسية واقتصادية ناهيك عن الجانب الإنساني والأخلاقي، وهذا الجانب هو الأهم، لأنه جانب روحي ينظم العلاقة ما بين البشر والخالق، فأي خلل أو عبث بهذا المبدأ من قبل أي فرٍدٍ أو أية دولة كانت وإلحاق الضرر بالغير، عليها تحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية الناجمة عن الضرر تجاه المتضرر سواءً أكان (أفرادا أو جماعات أو دول) وتجاه المجتمع الدولي الذي يلتزم الصمت، ثم تجاه الله.
2- الامتناع عن التسبب بأضرار جسيمة للدول عند استخدام المجرى المائي الدولي، مع التسامح بحصول بعض أضرار غير جسيمة التي يمكن التعويض عنها.
حسب تصريح موظف فني لوكالة فرات ANF مؤخراً، بسبب تخفيض تركيا للمياه المتدفقة في نهر الفرات أضحى سد تشرين في سوريا خارج الخدمة، وإذا استمر الوضع مثلما هو سيخرج سد الفرات أيضاً عن الخدمة، إذ تعمل فيه حالياً عنفة توليد كهرباء واحدة من أصل أربعة، وقد تأثرت قنوات الري أيضاً – ما يقارب /300/ ألف هكتار أراضي زراعية تأثرت سلباً، وبعض مضخات مياه الشرب أصبحت خارج الخدمة.
إن ما يحدث لنهري الدجلة والفرات يشكل أكبر كارثة في التاريخ الحديث للبشرية، ولا يمكن جبرها نهائياً، حيث تقوم تركية بمحاربة شعوب المنطقة التي تقع على المجرى الوسط والسفلي لهذين النهرين اللتان تنبعان من الجزء المحتل تركياً من كردستان «راجع اتفاقية سيفر ومعاهدة لوزان».
إن تركيا من خلال الطغمة الحاكمة تتعمد إلى إحداث أضرار جسيمة بسكان المحيط بمجاري الأنهار مستغلاً الصمت الدولي نتيجة تقاطع المصالح التي أضرت بكل من دول الجوار مثل سوريا، إقليم كردستان والعراق ناهيك عن دول أخرى التي تنتظر الفرصة السانحة لإخراج هذه الورقة إلى الواجهة في مواجهة تركيا، وستكون مستند هذه الدول في المستقبل هو قانون الأنهار الدولية ومبادئ أساسية لحقوق الإنسان، ولا غرابة في ذلك أن يستشهدوا بآيات من القرآن الكريم «وجعلنا من الماء ….» لإضفاء شرعية حضارية إنسانية على العمل الذي سيقومون به لاحقاً، حيث أن صمتهم الآن وصمة عار على جبينهم بدءاً من جامعة الدول العربية ورابطة الدول الإسلامية الساكتة عن الحق مثل شيطان أخرس وصولاً إلى السلطة التشريعية العالمية «الأمم المتحدة».
هل هناك ضرر أكثر جسامة في العالم من تعطيش البشر في حرمانهم من المياه ومصادرها، والتي هي الحياة نفسها، وكذلك الإضرار بالمواسم الزراعية والثروة الحيوانية والتوازن البيئي.
هل هناك جريمة أكبر من هذه الجريمة البشعة والنكراء، بقطع الماء عن خلق الله على الأرض، إن هذا العمل الإجرامي لم يفعله المشركون الكفرة بل يفعله خليفة المسلمين عند شرائه ذمم رخيصة أخلاقياً وقانونياً، بعضهم يتبوؤون مناصب رفيعة جداً على مستوى العالم.
أليس هذا خرق واضح وفاضح للعهود والمواثيق الدولية، أليس هذا التصرف الطائش هو الوقوف ضد إرادة الخالق وضد الطبيعة الكونية، حيث أن الطبيعة وقوانينها من صنيعة الخالق سبحانه وتعالى، أجزم بأن المسلم الحقيقي لم ولن يفعل ما يفعله المجرم، المغرور، الجاحد والمشرك بالله، يدعي بأنه زعيم الأمة الإسلامية والإسلام براء منه.
3- يُمنع تحويل المجرى المائي الدولي أو تخفيض جريان المياه أو تخفيض منسوب المجرى .
هذا المبدأ قد تم الدعس عليه علناً أمام مرأى ومسمع العالم، لقد قامت تركية بتحويل المجاري في الأحواض وتخفيض جريان نهر الفرات، وإن هذا التخفيض له تأثير مزدوج على الناس والبيئة، فتأثيره على الناس بشكل مباشر من خلال تعطيشهم وهذا مخالف لشرعة الله كما ذكرنا في الأسطر السابقة، ولا يُقدم أحداً على هذا التصرف اللاإنساني إلا «التركي الشوفيني العنصري»، وهذا الحال هو نفسه بالنسبة إلى البيئة حيث أن انعدام المياه تعني الفناء لمعظم الكائنات الحية، وكذلك الغطاء النباتي، وهذا يولد كارثة بيئية ولا يمكن التنبؤ بكامل نتائجها وبخطورتها على الجيل الحالي والمستقبلي، مع أن جميع الاتفاقيات الدولية هي من أجل الحاضر والمستقبل وللأجيال القادمة؛ هذه الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تمرّ على المجتمع الدولي دون مساءلة قانونية وأخلاقية.
4- الاستخدام العادل والمنصف للمصادر المائية من خلال التعاون الدولي، على أن يكون هذا الاستخدام مثمراً و(متعقلاً) لمصلحة الدول.
إن التعقل صفة بشرية غير متوفرة لدى الكائنات الأخرى، يبدو أن الزعيم أو الخليفة قد عقل «ربط» هذه الصفة واتخذ لنفسه صفة الافتراس والالتهام، ويتجلى ذلك في «عدالته» واتخاذ العدالة حزباً سياسياً على مقاسه بكل المعايير، لينتهك كل الحرمات والمقدسات بما فيها التي وضعها بنفسه.
حيث أن الانتفاع من مصادر المياه بشكل عادل مع مراعاة الأحكام المتعلقة بالأوضاع الجغرافية يشكل الركيزة الأساسية لكل الاتفاقيات الدولية، وهذا ما يتطابق مع الحالة السورية والعراقية.
إن الدولة التركية منذ نشوئها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية إلى يومنا هذا لم تحترم العهود والمواثيق الدولية، وظهر ذلك جلياً في الآونة الأخيرة بقطع نهر الفرات بشكل شبه كامل، لتحدث كارثة بيئية ناهيك عن ما تم ذكره آنفا.
فالدولة التي لا تحترم دستورها، لا يمكن أن تحترم العهود الدولية، ولهذا نجد أن تركية لم توقع على اتفاقية قانون الأنهار الدولية، بل رفضت الاتفاقية جملةً وتفصيلاً، إلا أن تصرفاتها العملية من خلال اجتماعات واتفاقيات ثنائية بينها وبين سوريا وبينها وبين العراق بخصوص نهري الدجلة والفرات وتوزيع الحصص المائية لهو اعتراف ضمني بالاتفاقية الدولية، لكن دون توقيع وثائق رسمية مشتركة أو التزام بما اتفق.
على جانبٍ آخر تقوم تركية بإنشاء السدود من دون موافقة دول مجرى الأنهار، معتمداً على تفسيرها لتعريف النهر الدولي بخصوص نهري الدجلة والفرات، بأنهما نهران داخليان يعبر الحدود، مع أن هذا التعريف متناقض مع كل الأعراف والقوانين الدولية، فكلمة الحدود لوحدها تُفند مزاعهما بأن الأنهار داخلية.
قد تكون لهذه السدود نتائج غير محمودة، حيث أن تخزين المياه في السدود بأكثر من الطاقة المحددة للسد من الناحية الجيوفيزيائية في مناطق معرضة للزلازل مثل (تركيا) يشكل خطراً مستقبلياً ولا يمكن التنبؤ بعواقبها مهما كانت متانة جسم السد، نترك هذا الأمر لأصحاب الشأن والاختصاص.
تنويه: هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها تركية بقطع المياه عن سكان المناطق المجرى المائي، لقد سبق أن قامت بهذا الفعل وفي أكثر من موقع، كما فعل سابقاً في الأنهار التي كانت تدخل إلى منطقة عفرين وحلب وكذلك في رأس العين، والآن في الفرات المقدس.
الحرب على المياه محتملة وستكون نتائجها أكثر كارثية على العالم برمته، لأن تركية تجد في المياه ثروة وطنية، وهذا ما نوه عنه معظم المسؤولين الأتراك سابقاً والآن.[1]