كتاب (أكراد سوريا)عنوان برَّاق، ومضمون أجوف
علي شمدين
بين يدي الكتاب:
تلقيت بتاريخ21-11-2020، نسخة من كتاب الصديق مهند الگاطع، الصادر عن دار قناديل (ط1/ 2020)، تحت عنوان (أكراد سورية/ التاريخ- الديموغرافية- السياسة)، يضم الكتاب (590) صفحة من القطع الكبير، ويتوزع على أربعة أبواب (مدخل تاريخي، الحركة القومية في العصر الحديث، تطور الحركة الكردية في سورية/ 1946- 2018، منظومة العمال الكردستاني/ 1978- 2018)، فضلاً عن (المقدمة، والخلاصة، والملاحق ولائحة المصادر). تتصدر الغلاف الأول صورة التقطتها عدسة أوبنهايم لقبيلة الملّلية وهي، وبحسب ما دونه المؤلف، تعبر الخابور قادمة من تركيا باتجاه الجزيرة سنة 1929، وعلى الغلاف الأخير يقدم الدكتور مخلص الصياد الكتاب للقراء كما يلي: (هذا الكتاب يتناول بالدراسة أكراد سورية، تاريخهم، مناطق توزعهم، وخطابهم السياسي.. ويحاول المؤلف تقديم صورة واضحة عن المغالطات التي يحملها الخطاب القومي الكردي في سورية، وانعكاسات ذلك على المشروع الوطني الجامع في سورية.. إلخ).
لقد بدأت بقراءة الكتاب بشغف واهتمام، مرّة لأن عنوان الكتاب- وكما أسلفنا- يتناول قضية هامة بحجم القضية الكردية في سوريا، التي تطرح اليوم أكثر من أي وقت مضى على بساط البحث والمناقشة والجدل، خاصة في ظل هذه الظروف الحساسة والمتغيرات الجذرية التي باتت تعصف بالبلاد منذ ما يقارب العقد من الزمن، والتي أخرجت إلى السطح مثل هذه القضايا التي ظلت مغيبة تماماً خلال عهود طويلة من الإنكار والتجاهل والتهميش، فصارت تفرض نفسها بقوة على طاولة الحوارات المعنية بالأزمة السورية والتي جرت في مختلف المحافل الوطنية والإقليمية والدولية.
ومرّة لكون الكاتب ينتمي إلى المكون العربي، وهو من سكان منطقة القامشلي التي يتعايش فيها مختلف المكونات ( العربية، والكردية والآشورية وغيرها)، جنباً إلى جنب بتآخ وتآلف ومحبة، جمعتها تاريخياً تحالفات مشتركة في مواجهة المخاطر التي هددت ولا تزال تهدد هذه المناطق، وكذلك تربطه مع أبناء المكون الكردي، وعلى حد علمي، علاقات وصداقات شخصية، خاصة من الوسطين ( السياسي، والثقافي)، هذه العلاقات التي من المفترض أن تجعله أقرب من غيره إلى معاناتهم والشعور بآلامهم، وأكثر تضامناً مع قضيتهم العادلة، وأشد دفاعاً عن حقوقهم المشروعة.
ومرّة أخرى لاعتقادي بأن الكاتب سيكون، بعد كل هذه المتغيرات، قد تحرر من هيمنة المواقف الشوفينية المسبقة تجاه الكرد، والتي تقول: ( ليست المشكلة الكردية الآن، وقد أخذت في تنظيم نفسها، إلا إنتفاخ ورمي خبيث، نشأ، أو أنشئ في ناحية من جسم هذه الأمة العربية، وليس له أي علاج، سوى بتره..)(1)، هذه المواقف الحاقدة التي تعد بحق دعوة صريحة لتنفيذ سياسة الجينوسايد والتطهير العرقي بحق المكون الكردي في البلاد، ولتوقعي بأن الكاتب قد نجح في التحرر من تلك الأسطوانة المشروخة التي ظل يرددها البعث منذ تأسيسه عام (1947)، والتي تزعم بوجود الخطر الكردي، وتحذر من بناء الكرد لاسرائيل ثانية، والتي ترى في الوجود الكردي خطراً: ( أخذ طريقاً مشابهاً تمام المشابهة إلى طريق اليهود في فلسطين..)(2)، هذا بالرّغم من أن الكرد أثبتوا على الدوام، ومنذ إلحاقهم بالدولة السورية الحديثة إثر اتفاقية سايكس بيكو، انتماءهم لوطنهم سوريا، وأظهروا من دون تردد إخلاصهم الشديد في الدفاع عن استقلاله وصون وحدة أراضيه، وبرعوا في المشاركة الفعلية في إدارته وازدهاره، وحماية أمنه واستقراره، ولكن مع ذلك ظل فريق واسع من الكتاب والباحثين يروجون، من دون كلل أو ملل، نفس تلك الأسطوانة، من أمثال سهيل الزكار، ومنذر الموصلي وجمال باروت وآخرين، الذين أخفقوا في التحرر من تلك العقلية المريضة، التي تعتبر كل من تكلم العربية، عربياً.
عنوان برّاق:
الحقيقة، أن ما شدني إلى قراءة هذا الكتاب أكثر، هو عنوانه الذي يتناول أهم قضية وطنية، لأكبر مكون قومي في البلاد بعد المكون العربي، وهو المكون الكردي، ومع ذلك ظل هذا الشعور مشوباً ببعض القلق تجاه المنهج الذي عادة ما يعتمده معظم الباحثين العرب الذين يتناولون هذه القضية وفقاً لمواقف سلبية مسبقة، فيخرجون في النتيجة بصورة مشوهة تتساوق مع المنهج الذي تتبناه الأنظمة الشوفينية تجاه هذا المكون الوطني الأصيل، ولكن الذي هدأ من قلقي هذا من جديد، وأثار لدي نوعاً من الاطمئنان، هو ما جاء في الإهداء الذي ذيل به الكاتب، مشكوراً، نسختي من هذا الكتاب، والذي نص حرفيا: ( إهداء إلى الأخ الأستاذ علي شمدين، أرجو أن يكون هذا العمل مقدمة لحوار وطني سوري- سوري، صريح وشفاف.. مع خالص محبتي.. / مهند الگاطع).
وبذلك توسمت خيراً بأنني سأقف مع باحث يقرّ بجرأة في كتابه هذا بحقيقة الوجود الكردي عبر خطاب وطني واقعي بعيداً عن السجالات العقيمة حول قضايا بديهية، وبأنني سأواجه كاتباً موضوعياً يؤمن بالحوار الوطني سبيلاً أنجع لحل هذه القضية الوطنية العادلة، التي فشلت المشاريع العنصرية والسياسات الشوفينية المتلاحقة في طمسها والشطب عليها، ولكنني وبعد، الانتهاء من قراءة هذا الكتاب من الجلد إلى الجلد كما يقال، تفاجأت- مع الأسف الشديد- بأن ما كنت أتوقعه، والأصح ما كنت أتمناه من صديقي الكاتب مهند الگاطع، كان حلماً لم يتحقق، وما يؤلمني أكثر هو بقاؤه- بوعي وإدراك- حبيس الدائرة المغلقة التي لم تفض إلى أيّة فسحة للحوار الوطني السوري- السوري الذي ينشده، لا بل دفع هو الآخر بهذا الحوار، من جديد، بمغالطاته المتتالية، نحو نقاش بيزنطي حول أسبقية البيضة أم الدجاجة.
مضمون أجوف:
لقد ظل الكاتب في الباب الأول (مدخل تاريخي)، كغيره من الذين سبقوه، أسير تلك العقلية التي تتنكر للوجود الكردي وتقوم بتشويهه، مع أن: (الجذور التاريخية للشعب الكردي ضاربة في القدم، وأن جمهرة من المؤرخين يعيدون وجود الأكراد في المنطقة التي يعيش معظمهم فيها، إلى 2500 سنة قبل التاريخ الميلادي..)(3)، وتتنكر تلك العقلية لتعدادهم السكاني الذي يتجاوز عشرات الملايين، الذين أطلق عليهم عبر التاريخ اسم (الكرد)، وهم: (يشكلون رابع قومية في الشرق الأوسط بعد العرب والإيرانيين والترك..)(4)، تجمعهم خصائص قومية مشتركة من اللغة والتاريخ والتراث والعادات والتقاليد والعوامل السيكولوجية، ويعيشون تاريخياً في بقعة جغرافية متكاملة سميت عبر الزمن باسم كردستان ( موطن الكرد)، بالرغم من تقسيم هذا الوطن بحدود مصطنعة إلى أجزاء أربعة ألحقت قسراً بدول مجاورة (تركيا، إيران، عراق، سوريا)، وهم: (في كل هذه الدّول يشكلون التجمع العرقي الثاني عدا إيران..)(5)، وهذا الواقع بات حقيقة ميدانية لا يحتاج إثباتها على الأرض إلى استحضار المزيد من الأدلة والبراهين، أو العودة إلى المراجع والمصادر التاريخية، ومن ضمنها المصادر التي احتكم إليها الكاتب، الذي يقول بنفسه: (إن الكرد شكلوا مجتمعاً مستقلاً، اجتماعياً واقتصادياً، قائماً بذاته وهويته وعاداته وطبائعه، فهم ليسوا فرساً بهذا المعنى، كما أنهم ليسوا عرباً أو أتراكاً../ص25)، فقد: (ظهر تعبير كردستان، كاسم جغرافي وقومي للمرة الأولى في القرن/ 12م، في عهد حكم السلاجقة- الأتراك.. وتشير الأبحاث التاريخية القروسطية للشعوب المجاورة للأكراد، إلى أن هذا التعبير قد دوّن في المصادر الأرمنية في وقت أبكر بين القرنين/ 11- 12 ميلادي، في حوليات المؤرخ الأرمني متى الرهوي..)(6).
أما ما يتعلق بالإحصاءات النهائية لتعداد الكرد والحدود الجغرافية لموطنهم، فهو موضوع آخر لم يحسم الجدل حوله بعد، وهذا يمكن أن يكون موضوعاً قابلاً للمزيد من النقاش لعدم توفر الإحصائيات الدقيقة التي تعمدت الأنظمة حجبها، كما يؤكده جميع المهتمين بهذا الشأن، الذين يقولون بأن: ( عدد الأكراد الذين يعيشون في الشرق الأوسط اليوم غير معروف على وجه اليقين، هناك تقديرات مختلفة تخضع في بعضها للظروف والأهواء السياسية، إما بسبب نقص في المعلومات الأولية المؤكدة، وإما بسبب رغبة سياسية..)(7)، وهذا ما يؤكده الكاتب أيضاً، بقوله: (عملياً لا توجد إحصاءات رسمية معلنة، ولا تعدادات سكانية نظامية توثق أعداد الأكراد في الدول التي يتوزعون فيها، وفي سوريا خاصة.. ومعظم هذه الأرقام تفتقر إلى الصدقية العلمية المعروفة في علم السكان.. /ص246).
ورغم ذلك فان الكاتب يلجأ إلى منهج من سبقوه من الذين ينفون الوجود الكردي على أرضه التاريخية، وذلك ليس فقط من خلال رفضه لتسمية هذه الكتلة البشرية بمصطلح (الشعب)، وإنما حتى يستكثر عليها مصطلح (الكرد)، لأن هذا المصطلح يدل على: (شعب وقومية مستقلة.. /ص30)، ولذلك فهو يصر خلال بحثه على استخدام مصطلح (الأكراد)، وحتى أنه عَنْوَن كتابه باسم ( أكراد سورية)، لأنه يرى بأن: ( مصطلح الأكراد يحمل دلالات البداوة، ويحمل سمة عدم الاستقرار الحضري.. /ص30)، وأخيراً يقول الكاتب بأن الكرد لا يتصفون بمقومات الشعب، وإنما ظل يسميهم صراحة بالأكراد، لاعتقاده بأن: (مصطلح- الكرد والأكراد- يعكس نمط حياتهم في الرعي والتنقل من دون أن يتخذ أي مدلولات عرقية../ص34).
وهكذا، وبحسب مختلف المعاجم اللغوية العربية، فإن: (الأعراب: جمع عَرَب، وهو أسم يطلق في أصل اللغة على سكان البادية..)(8)، ويقول ابن الأثير في هذا المجال أيضاً: (الأعرابي هو البدوي وجمعه أعراب)(9)، إذاً فأن الأعرابي هو البدوي العربيّ، والأعراب هم الذين قال عنهم الله عز وجل: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ..)(10).
ومع أن الشعب الكردي يتميز بكامل مقومات الأمة والشعب، هذه المقومات التي حفظت هويته من الضياع والانقراض عبر آلاف السنين في مواجهة الخصوم والأعداء والغزاة الذين دمروا موطنه (كردستان)، وجزأوه بين دول عديدة لازالت تحكمه بالحديد والنار، وتتنكر عليه هويته ووجوده، وحالت دون امتلاكه لكيانه المستقل ليعبّر فيه عن هويته بحرية، إلاّ أنه ظل رغم ذلك مكوناً قائماً بذاته محتفظاً بخصائصه القومية من اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك والمعتقدات الدينية، وكذلك يجمعه وطن متكامل جغرافياً رغم تجزئته، ويعد اليوم المكون الرابع في الشرق الأوسط جنباً إلى جنب المكون (العربي، التركي والفارسي)، نقول رغم ذلك يصرّ الكاتب على تسمية هذا المكون الكبير بمصطلح (الأكراد)، ويستكثر عليه مصطلح (الشعب)، وذلك بهدف حجب الصفة القومية عنه، ولإضفاء طابع البداوة عليه وما يتضمنه هذا الطابع الاجتماعي من صفات الجهل والتخلف، وذلك استحضاراً لتلك العقدة التي ظلت تلازم الشوفينيين العرب، الناتجة عن ما قاله الله عز وجل عن (الأعراب)، وما يحمله هذا القول الشريف من وصف دقيق للأعراب وما يتميزون به من جهل ونفاق وجحود وكفر، بينما الكرد في المقابل أبعد عن ذلك، وهم أقرب إلى حياة الحضر والاستقرار وبناء القرى والتجمعات السكنية والانشغال بالزراعة إلى جانب تربية المواشي والدواب، وقد سبقوا في ذلك الشعوب المجاورة، وخاصة الأعراب، حيث: (يتجمع الأكراد على طول الشريط الشمالي محاذياً للحدود التركية في محافظة الجزيرة بعمق نحو 15- 30 كم تقريباً، ومن منطقة رأس العين غرباً حتى حدود منطقة المالكية شرقاً حيث يتكاثف هذا التجمع في الأمكنة الخصبة بحيث يستعصي عليك إيجاد جيب عربي صغير في بعض المناطق وخصوصاً في منطقة المالكية وقبور البيض والقامشلي وعامودا، وهم يحتلون أخصب المناطق في الجزيرة وأكثرها أمطاراً.. ولعل ذلك يرجع إلى قرب عهد العنصر العربي بالحياة الحضرية، حيث هم في نقلة وترحال وغفلة عما يجري ويدبر لهم..)(11)
وفي الباب الثاني (الحركة القومية الكردية في العصر الحديث)، وعند تناوله موضوع (أكراد سوريا)، ينزلق الكاتب، كأقرانه في هذا المجال، إلى دوامة الأوهام والأضاليل التي فبركتها الجهات الشوفينية بمهارة وإتقان حول حقيقة الوجود الكردي في سوريا، والتي لا تنظر إلى هذا الوجود إلاّ من خلال اعتباره حالة طارئة نتجت، حسب زعم تلك الجهات، عن موجات متتالية من الهجرات التي أعقبت انهيار ثورة الشيخ سعيد بيران عام (1925)، فنراه يربط وجود المشكلة الكردية في سوريا بتلك الهجرات المزعومة، ويقول بأنها هي التي ساهمت في: ( نقل المشكلة الكردية إلى سورية../ص103)، مستنسخاً ما يروج له محمد جمال باروت، الذي يقول بأن: (المشكلة الكردية نشأت من تحطيم مشروع الكيان السياسي القومي الكردي في تركيا، وتحول الأكراد إلى – أقليات قومية كبيرة- و – مغبونة- الحقوق في الدول الحديثة التي أنشأتها وكرستها معاهدة لوزان بتاريخ 24-07-1923) (12).
وينجر الكاتب علناً خلال كتابه إلى فريق المبررين للسياسات الشوفينية التي نفذت بحق المكون الكردي في سوريا، هذا الفريق الذي يقول بأن ما قامت به الدولة ضد الكرد إنما هو مجرد إجراءات احترازية لا بدّ منها لدرء ذاك الخطر المزعوم على أمن البلاد ووحدته، فها هو خليل المقداد (الذي يعرف نفسه في مقاله، بأنه كاتب وباحث سياسي سوري، منافح عن عقيدته، غيور على أمته، فخور بعروبته)، يقول بأن: (العرب قد دفعوا ولايزالون يدفعون ثمن ثلاث مظلوميات مفتريات لم يكن لهم يد فيهن، فمن مظلومية اليهود على يد هتلر وإقامة وطن لهم على- أرض الميعاد- فلسطين، إلى حرب الفرس على العرب باسم- مظلومية آل البيت- والثأر لهم من احفاد بني أمية، وصولا إلى- مظلومية الأكراد- ووطنهم الموعود على أرض سورية والعراق..)(13)، لا بل هناك أيضاً من يشيد من بينهم بدراسة محمد طلب هلال ويثني عليها من أمثال ياسر العمر الذي يقول: (إننا نعتبر هذا الضابط- أيّ محمد طلب هلال- محقاً في جزء من دراسته، ونرى أنه كان يستقرئ المستقبل.. وكان يفترض بالحكومة آنذاك أن تتخذ إجراءات أكثر حزماً..)(14)، وفي نفس الاتجاه يقول الكاتب أيضاً، بأن: (دراسة محمد طلب هلال بقيت صيتاً أكثر منها تطبيقاً فعلياً../ص211)، وكأنه بذلك يريد أن يقول بأن ما نفذته الدولة على الأرض من مقترحات هلال قليلة ولا تفي بالغرض، متناسياً بأنه حتى وإن ظلت تلك الدراسة صيتاً فقط، كما يدعي، فإن التبرير لمثل هذه الأفكار العنصرية يعد بحد ذاته جريمة إنسانية فظيعة ودعوة صريحة لسياسة الجينوسايد ضد الكرد، من المفترض أن يحال ليس فقط مرتكبوها وإنما حتى المروجين لها إلى المحكمة الدولية في (لاهاي)، مثلهم كمثل الذين كانوا يبررون لمجزرة حلبجة ويقولون بأنها (كذبة)، وبأن السياسين الكرد: (يريدون جعل حلبجة مناسبة لهولوكست أو محرقة يهودية ثانية لكسب تعاطف العالم ..)(15)، وبالمقارنة نجد أن الكاتب يتبع الأسلوب نفسه، ويقول حول مجزرة سينما عامودا بأن: (اللعب على وتر تحويلها إلى هولوكوست كردي وبأنها جزء من مؤامرة تستهدف الأطفال الأكراد هو أمر غير واقعي وبعيد عن الحقائق وعن المجريات الفعلية للحادثة../ص222)، مقللاً من حجم السياسات الشوفينية التي طبقت على الأرض فعلياً في المناطق الكردية، والمتطابقة تماماً مع مقترحات محمد طلب هلال، وبصدد مسألة الغمر يقول بأنها:(مسألة مبالغ فيها، ولا تعكس الواقع، وتأتي ضمن إطار محاولات إثبات ترسيخ تراجيديا كردية متخيلة على نحو مبالغ فيه، وفي كثير من الأحيان لا ينتمي إلى الواقع../ص212)، متجاهلاً الواقع الميداني الذي يؤكد فظاعة سياسات التعريب الجارية بحق الكرد في سوريا، إلى درجة إمكانية القول بأن: (سياسة التعريب والتهجير في مناطق الجزيرة السورية هي، وبصريح العبارة، سياسة إرهابية شوفينية، تنفذ جرائهما بطريقة إسرائيل في تهويد الفلسطينيين، إن التعريب هو الوجه الآخر للتهويد، إنها الطريقة الصهيونية وقد لبست غتْرَة وعقال..)(16).
ووفقاً لهذه العقلية المريضة التي يتبعها المتنكرون لحقيقة الوجود الكردي التاريخي في سوريا، يعلن الكاتب صراحة الهدف الحقيقي من وراء عمله هذا الذي بين أيدينا والذي جاء، وكما يزعم، ليفند به ما يصفه بالأكاذيب التي يتضمنها الخطاب الكردي، إذ يقول: (إن الذي دفعنا إلى هذا العمل هو طبيعة الخطاب الكردي نفسه، والمغالطات الإيديولوجية التي يتم تبنيها، والمبنية أساساً على كذبة، لكنها كذبة تساندها أجهزة إعلامية كبيرة.. فنجد أنفسنا نردد مقولات مثل الشعب الكردي في سورية، والمناطق الكردية في سورية، أو اضطهاد الأكراد في سورية../ ص9)، أجل حتى حقيقة (اضطهاد الأكراد في سوريا)، باتت كذبة في منظار الكاتب.
هذا فضلاً عن أن الكاتب خصص صفحات عديدة من هذا الكتاب للطعن في هذا الوجود الذي يعد ثاني أكبر مكون قومي في البلاد، وتقزيم تعداده السكاني إلى حد العدم، أقل من واحد مليون نسمة، والذي يعادل حسب زعمه (5،23٪) فقط من سكان سوريا، وفي هذا الإطار يقول: (لقد ازدادت وتيرة الحديث عن ادعاءات القوميين الأكراد بعد انطلاقة الثورة الشعبية في سورية عام 2011، وباتت تشكل إحدى أهم الركائز الأساسية في الأيديولوجية الكردية المعاصرة.. التي تعد نسبة المكون الكردي كقومية ثانية في البلاد، عاملاً يبرر المطالب القومية الكردية الأحادية، التي تمهد- بهذا الشكل أو ذاك- لمشاريع يمكن أن تكون ركيزة لدعوات انفصالية مستقبلاً../ص253)، وبذل كل جهده من أجل تشويه القضية الكردية، واعتبارها مجرد قضية مهاجرين ليس إلاّ، وإنكار وجود الاضطهاد الممارس بحق الكرد من قبل الأنظمة المتعاقبة على دست الحكم في سوريا، حيث يقول في هذا المجال: (لا أرى بأن أسلوب اعتماد المغالطات له علاقة بتاريخ سورية الحديث، أو المبالغة في مسألة مثل تعريب القرى، ومشروع الحزام العربي، ومسألة الإحصاء الاستثنائي، وحادثة حريق سينما عامودا.. ولا أرى بأن وضع كل هذه المسائل ضمن السياق التراجيدي المفترض للأكراد، أو ظلمهم والتآمر عليهم من قبل الشعوب المحيطة، سيكون في صالح الأكراد أو في صالح السوري العام../ ص484)، وهذا يجعلنا نتساءل: ترى إن لم تكن كل هذه المظالم التي ذكرها الكاتب نفسه، تراجيديا فما الذي يمكن أن يعتبره الكاتب تراجيديا إذاً؟ هل ينتظر تعرضهم لإبادة جماعية ثانية كما حصلت في حلبجة، حتى يعتبرها الكاتب تراجيديا؟
وهكذا، يستمر الكاتب في إنكاره للوجود الكردي الأصيل في سوريا، واعتبار هذا الوجود مجرد مشكلة مهاجرين حديثي العهد في سوريا ليس إلاّ، ويقول متهكماً بأن: (مسألة إثبات وجود أرض تاريخية لشعب ما هي أبعد من موضوع الاستشهاد بمشاهدات رحالة في العهد العثماني، لقبيلة كردية بدوية في إحدى مناطق الجزيرة السورية مثلاً، لإثبات مزاعم الأرض التاريخية ../ص183)، وهنا نسأل الكاتب: وماذا عن الذي دونه المؤرخ اليوناني الشهير (كزينيفون)، منذ أكثر من (400) عام قبل الميلاد، حول الوجود الكردي في سوريا الحالية؟، وفي هذا المجال يؤكد الرحالة الفرنسي ج. أ. أوليفييه، على أن الأكراد الحاليين هم نفسهم أحفاد أولئك الذين ذكرهم (كزينيفون) في كتابه (آناباسيس)، فيقول أوليفييه حول ذلك: (يبدو واضحاً أن هؤلاء الأكراد هم أنفسهم أحفاد الكرد الذين ذكرهم المؤرخ كزينيفون عند انسحاب العشرة آلاف، حيث لاحظنا مدى تشابه الاسم وتطابق العادات والتقاليد، مما جعلنا متأكدين من ذلك..)(17).
وأخيراً، يتناول الكاتب مطولاً في الباب الرابع من كتابه، منظومة حزب العمال الكردستاني بشكل عام، وحزب الاتحاد الديمقراطي والمؤسسات الإدارية والسياسية والعسكرية المنبثقة عنه بشكل خاص، ويتناول بتحامل شديد دورها خلال سنوات الأزمة السورية، ويبالغ كثيراً في التنديد بسياساتها وممارساتها التي ينعتها بأخطر النعوت والاتهامات، من قبيل ممارستها التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بحق المكون العربي لصالح المكون الكردي. إلى آخره من الاتهامات الممنهجة.
لا شك بأن حزب الاتحاد الديمقراطي والمؤسسات التابعة له، ارتكبت العديد من الأخطاء هنا وهناك، ومن المعروف بأن تلك الأخطاء والممارسات كانت تنعكس بأثارها المباشرة على المكون الكردي الذي كان يدفع ضريبتها بشكل رئيسي دون غيره من المكونات الأخرى، وإن كانت تلك الأخطاء قد طالت بعضاً من تلك المكونات فإنها تكون قد حصلت بشكل مجرد من أية دوافع قومية وبعيدة عن أية مشاريع عنصرية تهدف إلى التطهير العرقي كما يزعم الكاتب، وإنما تكون- إن حصلت- في إطار حملة تلك المؤسسات، وخاصة العسكرية منها، ضمن حملة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي، الذي لم يجد له حاضنة- مع الأسف الشديد- إلا في المناطق العربية، السنية منها تحديداً، وهذا لا يبرر للكاتب كل هذا الترويج لخطاب الكراهية ضد المكون الكردي، والتحريض عليه، وتحميله جريرة ممارسات فصيل سياسي أو قوة عسكرية لا تضم بين صفوفها الكرد فقط، وإنما العرب والسريان أيضاً، متجاهلاً الجرائم والكوارث التي أقدمت عليها المنظمات والميليشيات المسلحة الأخرى، التي عملت تحت مسميات وشعارات إسلاموية وعروبية، والتي أقدمت على تنفيد سياسات شوفينية مدروسة- وبدعم إقليمي منظم- وتدعو علناً إلى التطهير العرقي بحق الكرد، والتغيير الديموغرافي في مناطقهم، وقد نجحت مع الأسف في سياستها هذه الى حد كبير، مثل داعش وجبهة النصرة والجيش الحر والجيش الوطني وغيره من الذين لايزالون يعيثون فساداً وقتلاً وتدميراً في المناطق التي احتلتها تركيا (عفرين، كري سبي وسري كانيه)، وبدلاً من التركيز على هذه الفظائع التي دمرت البلاد والعباد، يحاول الكاتب جاهداً جذب الأنظار نحو (PYD)، والتركيز على ممارساته، ومن خلال ذلك تجريم الشعب الكردي وتشويه صورته، تماماً مثلما تفعله تركيا في تجريم الكرد في سوريا بحجة ملاحقتها لهذا الحزب، الأمر الذي يفقد البحث المصداقية والحيادية التي كنّا ننتظرها منه.
دراسة وهمية:
ولتسويق تصوراته وأفكاره الرافضة للوجود الكردي، والتقليل من حجم هذا الوجود، يعرض الكاتب دراسة مطولة، يقول بأن تنظيماً شبابياً مدنياً يحمل اسم (التجمع الوطني للشباب العربي)، قد أجراها، وبأن عدد المشاركين فيها (107) أشخاص، وبأن مهمتهم كانت جمع البيانات للخروج بنتائج موضوعية- حسب زعمه- فيما يتعلق بالتركيبة الديموغرافية للشعب الكردي، وتحديد التركيبة الإثنية والدينية في مناطق تواجده، ويقول: (وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها أن عدد الأكراد في سورية، ومن ضمنهم الأكراد المستعربون- العثمانيون- لم يتجاوز 937,486 نسمة كحد أقصى، وبذلك تكون نسبة الأكراد الإجمالية بالنسبة لمجموع سكان سورية، هي 5،23٪ كحد أقصى../ ص282)، ويشيد الكاتب بدراسته قائلاً: (وبذلك يكون تقدير عدد الأكراد لأول مرة، بناءً على دراسة تحليلية شاملة تتناول جميع التجمعات السكانية في المنطقة../ص254).
وبمراجعة أولية سريعة للبيانات التي يدعي الكاتب بأن فريق عمله قد جمعها بشكل موضوعي، والتدقيق في منهجه المتبع في إنجاز دراسته التي يصفها بالتحليلية والشاملة، وجزمه بدقة نتائجها التي مسخت الوجود الكردي إلى أقل من المليون نسمة، والاطلاع على البيانات المنشورة في كتابه، ومقارنتها بالوقائع والحقائق الميدانية، نؤكد بأن ما يسميه الكاتب بالدراسة تفتقد لأبسط مقومات البحث العلمي المحايد، إذ أن تشكيلة فريق عمل هذه الدراسة تعد في حقيقتها تشكيلة وهمية، وأن الذي يشرف على هذا الفريق الافتراضي هو الكاتب نفسه، وهو وكما تبين آنفاً يفتقد للحيادية في الموضوع الكردي عموماً والسوري منه خصوصاً، حيث لاحظنا بالملموس انحياز الدراسة سلفاً للجهات الشوفينية التي طبقت بحق الكرد كافة أشكال الظلم والقهر والاستبداد، ومارست ضدهم سياسات التعريب والتهجير والتجويع والتجهيل والتجريد من الجنسية، والحرمان من فرص العمل والتوظيف في دوائر الدولة ومؤسساتها، والانتفاع بالأراضي الزراعية وغيرها من الحقوق الانسانية البسيطة.
كما ان دراسته تفتقد للحلقة الأساسية التي من خلالها يمكن تقييم مصداقية الدراسة ودقتها، ألا وهي اللائحة الاسمية بأسماء المدن والقرى والمزارع التي يفترض بأن الدراسة أجريت حولها، وكذلك الخلل الواضح في كيفية فرز مكونات هذه الوحدات السكانية ومعايير تصنيف سكانها بين المكونات المختلفة (الإثنية والدينية)، إذ أن الكاتب يحاول أن يلوي عنق الحقائق بأيدي فريق وهمي، معتمداً على معلومات غير صحيحة عن التركيبة السكانية في المناطق الكردية، ويستخلص بناء على كل هذه المغالطات وغيرها، نتائج مصطنعة على مقاس موقفه المسبق تجاه الوجود الكردي الذي بات معروفاً، وبحسب مختلف الاحصائيات الواقعية، بأنه يتجاوز ال(15٪)(18)، إلاّ أن الكاتب يبذل قصارى جهده من خلال دراسة شكلية من أجل تقليص هذا الوجود إلى ما هو أقل مما يقرّ به النظام نفسه، حيث: (قدّرت السلطات السورية عددهم بمليون نسمة..)(19)، هذا ناهيك عن تجاهل هذه الإحصائيات لعدد المجردين من الجنسية، الذين شطبت الدولة أسمائهم من سجلات الاحصاء العام، حيث أحصت منظمة العفو الدولية (أمنستي إنترناشيونال)، أعدادهم في تقرير أصدرته في عام (2005)، حيث يقول التقرير بأنه: (نتيجة للتزايد الطبيعي للسكان أصبح عدد المحرومين من الجنسية السورية من الأكراد في ذلك العام يتراوح ما بين 200 و360 ألف شخص..)(20)، هذا فضلاً عن عدد المكتومين الذين يتجاوز عددهم المائة ألف نسمة، ولهذا وبهدف التغطية على هذا الخلل القاتل في منهج دراسته، ولقطع الطريق أمام كل متابع لمراجعتها والتدقيق فيها، أو لتصويبها وتصحيحها، قام الكاتب بحجب المعلومات الأساسية المتعلقة بنتائج هذه الدراسة، وخاصة اللوائح الإسمية للقرى والبلدات والمزارع قيد الدراسة، وبالتالي تصنيف البيانات بشكل كيفي وكما يريد. .
وكمثال على ما نقول، أوردنا مرفقاً مع هذا المقال، الجدول الاسمي لقرى ناحية تل تمر، الذي كان الكاتب قد أعده لدراسته التي قدمها في كونفرانس الدوحة حول المسألة الكردية في سوريا، وأجرينا مراجعة بسيطة لهذا الجدول، وقمنا بمقارنة البيانات الواردة فيه مع الواقع الميداني، ونظمنا جدولاً مقارناً بين المعلومات الواقعية والمعلومات الكيفية التي كان الكاتب قد سجلها، فتبين بأن نسبة الخطأ، أو الأصح نسبة الأخطاء المتعمدة، فظيعة جداً في البيانات التي نسجها الكاتب وأجرى بناء عليها دراسته والنتائج المشوهة التي خرج بها، وأجرينا أيضاً مسحاً مشابهاً لقرى ناحية تربسبيي (القحطانية)، التي أنتمي إليها، لكوني مطلعاً بالتفاصيل على الواقع الميداني للقرى التابعة لها، والتركيبة الأثنية والدينية لسكانها، مثلما أن اختيارنا لناحية تل تمر دون غيرها لم يكن اعتباطياً، وإنما كان اختياراً مقصوداً، لأنها منطقة ذات كثافة سكانيّة آشورية وليست كردية، حيث أن الكاتب قام بتصنيف حتى القرى الآشورية على أنها قرى عربية، وهذا يؤكد منطلقه العنصري الممنهج في عدم قبول الآخر، ورفض وجود كل ما هو غير عربي، وهنا أؤكد على تحملي لمسؤلية البيانات التي قمت بتصحيحها بالتعاون نخبة من سكان المنطقة المطلعين على تفاصيل قراها وتركيبتها السكانية، وفي النتيجة تبين بأن نسبة الخطأ في جداول ناحية تل تمر قد تجاوزت ال(50%)، وفي تربسبي ال(47%)، على أقل تقدير، في حين يقول الكاتب، بأنه: (أحتمال أن تكون هناك نسبة خطأ لا تتجاوز 2% في هذه الدراسة، وهي نسبة لا تؤثر على النتائج المستخلصة من الدراسة..)(21)، فكيف سيحكم القارئ على هكذا دراسة، وبهذه النسبة العالية من الأخطاء، المقصود طبعاً؟.
الخلاصة:
وهكذا لم ينجح الكتاب، مع الأسف الشديد، في طرح أيّ جديد من شأنه أن يمهد لحوار وطني مسؤول ينتج عنه خطاب واقعي يقرّ بالمظالم والسياسات الشوفينية التي استهدفت الوجود الكردي بشكل منظم ومدروس، ويقطع الطريق أمام المغالطات التي يزعم الكاتب بأنها باتت تشوب الخطاب الكردي، والتي كثيراً ما كانت الجهات الشوفينية تشجعها وتروج لها، لأن مثل تلك المزايدات والمبالغات، إن وجدت، من الجانب الكردي، فهي كانت تضرّ بالقضية الكردية دون غيرها.
وكما لاحظنا خلال صفحات الكتاب، بأن الكاتب قد أعاد نفس الخطاب المتحامل على الكرد، والمحرض ضدهم، والمبرر للسياسات العنصرية التي طبقت ولاتزال بحقهم، لا بل المطالب بالمزيد منها، فظل الكاتب أسير المنطق الأيديولوجي الذي روج له حزب البعث منذ انطلاقته، وظل: (يتحيز إلى الأشياء، ويؤول الوقائع، بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الحق..)(22). ، ويلجأ الكاتب في كتابه، وفقاً لمنطق الغاية تبرر الوسيلة، إلى انتقاء المصادر ويقرؤها ناقصة، على مبدأ: (لا تقربوا الصلاة..)، من دون أن يقول: (وأنتم سكارى)، وكمثال على ما نقول، نذكر ما نقله الكاتب منقوصاً عن وليام إيغلتون ليثبت ما يعتقد به، بأن:( الكرد ليسوا عرقاً واحداً – وهم لا يشكلون وحدة دينية- ولا تضمهم وحدة سياسية..)(23)، متجاهلاً تتمة النص والذي يقول حرفياً: ( شأنهم في ذلك شأن العرب، وكما أن العربي هو الشخص الذي يتكلم العربية، ويعتقد أنه عربي، فكذلك الكردي..)(24). [1]