لقمان محمود
يجمع الدكتور #عزالدين مصطفى رسول# بين النقد الأدبي والترجمة، وله في ذلك أكثر من خمسين كتاباً مطبوعاً، ما زالت تحتل الصدارة في المكتبة الكردية.ومن خلال إستقراء هذه الكتب، نلمس بوضوح جهده المتواصل، الذي يمثل مصدرا في الثقافة الكردية، بدءاً من كتابه “ الواقعية في الأدب الكردي “، ومروراً بكتاب “ ديوان الشعر الكردي “.
وإذا ما رجعنا إلى أقصى البدايات، لوجدنا عزالدين رسول يدعم هذه الحقيقة المتألقة، على الرغم من الحساسية التي أحاطت بهذه المسيرة. غير أنّ الدلائل كثيرة، والرغبة ممتلئة بالحركة والإبداع والأحداث.
وبما أنّ الكلمة الكردية منذ بداياتها كانت وسيطاً للجرح، تعكس من الاسى الكثير في جوانب الحياة المتقلبة والظالمة، ظهرت الحكاية الكردية، ثم ظهر الشعر الكردي، وأيضاً ظهرت القصة الكردية.. والرواية والمسرح.. إلخ.
وعلى هذا النحو يمكن قراءة القصة الكردية ، منذ بداياتها الأولى، وحتى الثمانينيات، في كتاب “ بحوث وشذرات “ للدكتور عزالدين رسول على الشكل التالي:
كانت مدينة السليمانية قد أسست حديثاً ( 1784 )، وكان القادمون إليها من المنتخبين من أبناء هذه العشيرة أو تلك، نفضوا عن أنفسهم غبار تخلف الريف والترحل، واندمجوا في مسيرة المدينة والتمدن مع من قدموا من المدن الأخرى.
وكان علماء الدين القادمون من الريف، أو من المدن الأخرى، يتبارون مع علماء جامع السور ( المدرسة الحمراء ) في الجزيرة ( جزيرة بوتان )، وقبان في العمادية، ودار الاحسان في سنندج، وكانوا – هؤلاء العلماء – يبغون في تصاعد إندماجي أن يبلغ جامع السليمانية الكبير الأزهر، وآيا صوفيا، وجامع الأموي في الشام.
ومن المفيد هنا أنْ نلاحظ كيف يربط عزالدين رسول ميلاد القصة الكردية بولادة مدينة السليمانية، التي أنشأت فيها معامل يدوية وصناعات صغيرة مع بناء المدينة. حيث كانت القوافل تعود من بلاد الروم والعجم، أو كانت قوافل هؤلاء تمر من هنا.
وكان بصيص الحضارة هذا، يريد من الأدب موضع قدم جديد، ينتسب إلى الحضارة. وكان يولّي وجهه شطر مبدع وهب القدرة كي يكون المؤسس لهذا النمط. وكان ذلك المبدع كغيره من أصحاب الوجد بمحراب الأدب، قد بدأ بالشعر. ولكن – والكلام للمؤلف – أي سر يمكن أن يترك الشعر ، وأي سر في عجز الشعر من إيجاد مكان له في مصاف الشعراء، في حين تمكّن بقدرة مبدعة وبحس مرهف في تثبيت الكلمة الكردية، أن يعرف نفسه بتاريخ الأدب الكردي كمؤسس للنثر الكردي.
هذه هي قصة ظهور النثر الكردي، وكتابة أول نتاج له حسب الدكتور عزالدين رسول، والمتمثلة في قصة “ المولد “ للشيخ حسين القاضي ( 1790 – 1870 ).
إنَّ ما يجب قوله هنا، هو أنّ “ قصة المولد “ هذه، ليست ببداية للنثر والسجع الكرديين فحسب، بل هي بداية للحكاية – القصة أيضاً.
وقد يثير هذا الكلام الاستغراب، ولكن – والسؤال للمؤلف - : ما هو العمل الأدبي الذي يدخل في إطار القصة؟ وما الذي يخرج من دائرتها ؟
بالطبع – والجواب للمؤلف - : ما نعتبره اليوم شعراً، لم يكن بالأمس شعراً معترفاً به. وهنا تفرض قاعدة فلسفية نفسها، وهي قاعدة “ التاريخية “ التي توجب علينا رؤية الظاهرة في حدودها التاريخية، إنتساباً إلى زمنها ومكانها.
وانطلاقاً من وجهة النظر هذه للمؤلف، فإنّ القصص والحكايات الصغيرة التي قصها الشيخ حسين القاضي عن “ المولد “، وكذلك الحكايات التي رواها في مبحث التكوين والوجود، الأرض والسماء، وميلاد النبي محمد ( ص ) التي منحها صبغة رواية حديثة، يمكن إعتبارها بداية بسيطة للقصة الكردية. لأنّ القصة الكردية ليست إستمراراً للحكاية الكردية وحدها، وليست مجرد نقل وإقتباس أوربي أيضاً، بل أنّ القصة الكردية الحديثة تدمج بين الثروة الشفاهية والمدونة لشعبنا، وبين تكنيك القصة عند الشعوب بصورة مبدعة وبإستفادة جليلة من معدن تجربة الحياة، لتخلق من صور الماضي والحاضر رؤية ثورية للمستقبل.
من هذه البداية البسيطة للقصة الكردية، ننتقل إلى البداية الناضجة والراسخة، والمتمثلة في قصة “ في حلمي “ لجميل صائب.
وإذا رجعنا إلى الوراء، نجد أنّ حكاية إكتشاف هذه القصة، تعود إلى جهود الكاتب المبدع حسين عارف، الذي يقول:
في أواخر عام 1959، كلفت من قبل شاعرنا الخالد عبد الله كوران بإعداد دراسة أولية عن القصة في الأدب الكردي، لتلقى في محفل أدبي كان وشيك الانعقاد. فبدأت بالبحث والتنقيب في الجرائد والمجلات والكتب القديمة، بهدف معرفة أوائل من كتبوا هذا اللون الأدبي الجديد في أدبنا الكردي، وأولى النتاجات في هذا المجال. فجاءت ثمرة جهودي مقالاً مطولاً نشر في عددين من مجلة ( بليسه – الشعلة ) عام 1960. وكانت الميزة البارزة لمقال حسين عارف، هي الكشف عن القصة الكردية الأولى ، المكتوبة والمؤلفة بإبداع من كاتب معلوم.
حيث تعود نشر هذه القصة لأول مرة بصورة متسلسلة في جريدة “ زيان “ إلى عام 1925، وبذلك – والكلام لحسين عارف – حدّدت تلك السنة ببداية نشوء فن كتابة القصة في الأدب الكردي.
ولأهمية هذه القصة، قام الكاتب جمال بابان في عام 1975، بإعادة طباعتها مع دراسة قيمة تؤكد ريادة جميل صائب لفن القصة الكردية.
لكن للدكتور رسول رأي مخالف، إذ يجد أنّ هذه الريادة تعود إلى قصة “ قصة “، المنشورة في مجلة “ شمس كردستان “ عام 1913، والعائدة إلى مؤلفها محمد تمو.
وحكاية هذا الإكتشاف يعود إلى الأخوين كريم فندي ورشيد فندي اللذين كشفا النقاب عن هذه القصة، التي أثارت نقاشاً طويلاً بين المثقفين الكرد. فتمت طباعتها للمرة الثانية في عام 1981، بالأفسيت.
بالإضافة إلى هاتين القصتين، هناك قصتان للشاعر المبدع بيره ميرد ( 1847 – 1950 )، الأولى بعنوان “ فرسان مريوان الإثني عشر “، والثانية بعنوان “ محمود آغا الشيوكلي “، وكلتا القصتين عبارة عن تدوين أدبي لحكايتين تاريخيتين، كانتا متداولتين شفاهاً بين الناس، وأخذتا بمرور الزمن طابعاً أسطورياً.
وحسب الدكتور عزالدين رسول، فقد ترك لنا الشاعر بيره ميرد علامات فارقة في ميدان القصة أيضاً. حيث كان يقتبس الحكايات من الفولكلور الكردي ومن التاريخ الكردي، فيسكبها في إطار جديد نوعاً ما.
فقد صاغ من جديد قصة عن “ مم وزين “ تختلف عن “ مم وزين “ لأحمد خاني، وتختلف عن “ ممي آلان “ أيضاً.
تبعاً لهذه المرحلة، والتي يُسميها عزالدين رسول بمرحلة البداية، نجد أنها قد إتسمت من حيث الشكل بسماتها الخاصة.
ثم تأتي المرحلة الثانية، وتبدأ هذه المرحلة في فترة الحرب العالمية الثانية، وتنتهي بثورة الرابع عشر من تموز 1958، وفيها حقّقت القصة الكردية قفزة نوعية من ناحية الشكل الفني، ومن ناحية الموضوع. واستطاع القاص الكردي بمهارة إبداعية التعبير عن كل شيء.
ولو عدنا إلى مواضيع القصص وصنَّفناها سنجد:
المشاكل الاجتماعية، الهم القومي، حياة الشعب بشكل عام والفئات الكادحة بشكل خاص، كفاح الشعب الكردي، وحدة الصف الوطني، الأخوة العربية الكردية، التضامن الكفاحي بين الشعوب، مسائل السلم والحرب، تثمين الانسان وصورة المرأة الكردية.
وفي هذا الصدد يقول عزالدين رسول: لقد أثّر الفكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية على مجمل الأدب الكردي، سواء في نتاج من ارتبطوا بذلك الفكر، أو من كانوا بعيدين عنه إلى حد ما، وكانوا يتناولون القضايا اليومية من منطلق تقدمي، فيعتبرون الإنحياز إلى قضايا الكادحين وسيلة للتخلص من التخلف.
أما المرحلة الثالثة، فيسميها المؤلف بمرحلة انتقال وتبدل في القصة الكردية. وفيها نقرأ بلغة الأسماء: حسين عارف، مصطفى صالح كريم وكاوس قفطان. وهذه الأسماء هي نفسها التي بدأت في الخمسينات وما زالت تحقق إستمراريتها.
وهنا بإمكاننا تلخيص آراء الدكتور رسول إستناداً إلى مقدمته بما يلي:
لقد ركّز على المضمون فقط، ولم يخض تفاصيل النوع الأدبي والتكنيك.
لذلك جاءت بعض آرائه قاسية نوعاً ما على القصّاصين. وهنا سألقي بقعة ضوءعلى عينة من هذه الآراء، من خلال ثلاثة أسماء مبدعة، أمثال: حسين عارف ومصطفى صالح كريم وكاوس قفطان.
بالنسبة لحسين عارف، يقول عزالدين رسول: يمكننا أن نعتبر حسين عارف أستاذ التكنيك، فهو يخرج خيوطاً من أعماق إنسان واحد، ويجعل منها لوحة، ولكن الإصرار على تغلب الشكل واستخدام تكنيك أكثر حداثة، يضيّع ذلك الإنسان وتشرع بداية ضياع الانسان المعاصر وتشويه سيمائه.
أما عن مصطفى صالح كريم، فيقول: كنا نجد عنده في قصص الخمسينيات والستينيات صوراً ذاتية وانشغالاً بالشرائح النادرة، في مثل قصة “ دموع الندم “، ونتاجه في السنوات الأخيرة يدخل في أوسع دائرة لصب الذاتي في العالم، ومعاناة الشعب والجماهير، ولا أدل من قصص: القلم، الطيور تعود إلى المصيف، ولابسة السواد.
أما عن كاوس قفطان، فيقول: ينبئ بشيء جديد موضوعاً وأسلوباً وقدرة فنية.. لكنه ينتقل في مواضيعه إلى عالم شخصي ضيق ( محاط بجدران أربع ) .. لذلك فهو بهذا قد أبعد نفسه عن العالم الرحب وهموم الجماهير.[1]