الدور الكوردي المفترض والمفروض…
م. محفوظ رشيد*
ما من شك أن «الدولة العميقة» الحائزة على مراكز السلطة والثروة هي التي ترسم الخرائط السياسية والاقتصادية في العالم، والدول العظمى أمريكا ثم روسيا ثم أوربا ثم الحلقات التالية… تتبوأ تنفيذها على الأرض، متقاسمةً مناطق النفوذ ومتبادلةً الأدوار لضمان أمن بلدانها ومصالحها تحت سقف محدد من التنافس، دون اكتراث بتداعياتها وعواقبها الوخيمة من الويلات والكوارث التي تحيق بالشعوب وأوطانها.
لم تكن مصادفة اندلاع ثورات ما تسمى بالربيع العربي، فالفوضى المنظمة عبر الأدوات الإرهابية المدعومة بأحدث أجهزة التسليح ووسائل الإعلام والتواصل كانت الحامل والبوصلة لها، والهدف منها استنزاف البلدان من كل طاقاتها البشرية والطبيعية، لتصبح ضعيفة ورهينةً لمشاريعها الحيوية وأجنداتها الاستراتيجية، وسوريا هي إحدى الضحايا الأكثر تضرراً من العبثية الخلاقة بحكم خصوصيتها الجغرافية والديمغرافية، حيث قسمت بين موالاة ومعارضة، وتدخلت ما هب ودب من القوى الأجنبية والأجندات في الساحة، وجعلتها في أزمة خانقة، تمرُّ عبر نفقٍ مظلم، مجهول النهايات والمعالم.
والكورد باعتبارهم الجزء الهام والمميز (الأكثر تنظيماً وتسييساً) في توجهاتهم القومية والوطنية والديموقراطية، فقد كانوا موضع تركيز وتعرض للضغوط من قبل مختلف الأطراف لتجنيدهم أو تحييدهم خدمةً لمشاريعها، فغياب المشروع السياسي الوطني الديموقراطي الشامل لدى باقي مكونات الشعب السوري على اختلاف تياراتهم السياسية والقومية والدينية في السلطة والمعارضة، وكذلك الفراغ الإداري والأمني الحاصل في المناطق الكوردية جراء سحب النظام لدوائره ومؤسساته فرض عليهم مهمة الحماية والإدارة، التي واجهت وخلقت تحديات ومصاعب كبيرة وكثيرة، أبرزها انقسام البيت الكوردي بين أطراف النزاع والذي أصبح ثغرة وذريعة للتدخل في شؤونه وتحجيم دوره وتهديد وجوده وإجهاض تطلعاته، وهذه لا تعفي مطلقاً الأحزاب الكوردية السورية والكوردستانية المتنفذة (المعنية) من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها عن ما تؤول إليه الأوضاع.
والتحدي الأكبر كان التصدي للمجاميع الإرهابية الإسلامية المتمثلة بالنصرة وداعش وأخواتهما ومحاربتها على الأرض بالتعاون والتنسيق مع دول الحلفاء بزعامة أمريكا والتي فرضت على الكورد شروطاً عملياتية قاسية وخيارات محددة في التحرك والانتشار، فقد أجبروا على القبول بالأمر الواقع على مضض، بسبب الصفقات المشبوهة التي عقدت بين القوى العظمى المتنفذة والإقليمية، بعيداً عن القيم الإنسانية والأخلاقية بسلوك مافيوي سافر، ومخالفاً للقوانين والشرائع السماوية والدولية، ابتداءً من عفرين وانتهاءً برأس العين وتل أبيض، ومازال مسلسل التراجيديا الكوردية مستمراً في فصول الإبادة والتطهير العرقي الذي يلف الغموض تفاصيله ونهاياته.
وما يزيد الوضع تعقيداً وخطراً هو احتضان تركيا الإخوانية للعصابات الإرهابية ورعايتها واستخدامها في غزو المناطق الكوردية تحت شعارات إسلامية قوموية متطرفة تبيح ارتكاب جرائم القتل والسبي والخطف والنهب والتهجير، بأبشع وأفظع صورها، وذلك تنفيذاً لمشاريعها العثمانية العدوانية التوسعية (الميثاق الملي)، متذرعةً بالخطر الكوردي المزعوم (PKK) على أمنها القومي، بهدف إنهاء القضية الكوردية خطوةً خطوةً، منطقةً منطقةً، جزءاً جزءاً، كهدف استراتيجي معلن، وهو منع تكرار تجربة إقليم كوردستان العراق، ومحاربة تشكيل أي كيان كوردي ولو على سطح المريخ، تطبيقاً لشعار تركيا التاريخي (الكوردي الجيد هو الكوردي الميت)، مستغلةً موقعها الجيوسياسي الحيوي وعضويتها في الحلف الأطلسي، في ظل هذه الظروف المفصلية الحرجة التي نمرُّ بها.
وفي ضوء مجريات الأحداث المتسارعة والمتقلبة ساعة بساعة بفعل تواتر وتغير المواقف من لدن القوى العظمى (تغريدات ترامب) المسببة لاختلاط الرؤى وتعذر التوقعات والتحليلات، نورد فيما يلي عدة أمور لأخذها بعين الاعتبار:
1) المرحلة الراهنة مصيرية بالنسبة للكورد، فهي قضية وجود أو لا وجود، والمعركة تخص الكل ومسؤولية الكل، بدون استثناء، فالفشل سيطال الكل والنصر سينعم به الكل، وليست وقتاً للمحاسبة والمعاتبة من منظار حزبي أو فكري ضيق.
2) ضرورة التصالح مع الذات والابتعاد عن جلده وتأنيبه، وهذا لا يعني إغلاق باب المراجعة والنقد والتقويم، ولا بد من استنفار كل الطاقات والإمكانات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فاللعبة لم تنته بعد، والبداية بتوحيد الخطاب والجهود، لتفعيل الحضور والأداء على الأصعدة السياسية والدبلوماسية والإعلامية.
3) أصبحت القضية الكوردية في سوريا اليوم، قضيةً دولية في فحواها وصداها ومداها، فهي موضع اهتمام وتعاطف لدى الرأي العام الشعبي والرسمي عالمياً، وعلى الكورد الارتقاء لمستواها وتفهمها واستثمارها.
4) وجوب الرهان على الخصوصية الوطنية والاستقلالية، فالتحرر من القيود الخارجية إرادةً وقراراً، وبخاصة من الدول المقتسمة لكوردستان، مع التأكيد على العمق الكوردستاني المتعاون والمتفاهم، والامتداد السوري المتلاحم، والتحالف الدولي الداعم، على أساس الاحترام المتبادل.
5) التأكيد على الحل السلمي التشاركي بين كافة مكونات الشعب لبناء سوريا موحدة وطناً لجميع أبنائها، على أساس نظام ديمقراطي علماني تعددي لامركزي، يحفظ للجميع حقوقهم ويحترم خصوصياتهم الإثنية والدينية والفكرية في دستور عصري متفق عليه.
6) إن النظام الذي لم يتغيب يوماً عن الساحة الكوردية، واليوم يعاد تأهيله عربياً وعالمياً، لقطع دابر الإرهاب والفوضى وإعادة الأمن والشرعية والسيادة للدولة السورية، فالمفروض والمطلوب أن يكون للكورد دوراً فاعلاً وبارزاً في تركيبتها السياسية والأمنية والدستورية بما يؤمن حقوقهم العادلة والمشروعة حاضراً ومستقبلاً.[1]