الكُرد بين الحكومات والشعوب… بين المنبر والسلطة
د. علي أبو الخير
مقدمة
حوالي ربع قرن من الزمان والقائد عبد الله أوجلان خلف أسوار السجن، وهو لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا السجن، ولكنه الحلف المتعدد الأطراف بين تركيا من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، وللأسف ثالثاً من دول شقيقة في “الدين”، ولكن أمريكا وضعت (حزب العمال الكردستاني) كمنظمة إرهابية بناءً على طلبات تركيا المتوالية، حتى حققت حلمها العثماني.
ومنظمة الأمم المتحدة لا يعنيها الأمر، إلا بقدر ما تطلبه السياسة الأمريكية، وهي المنظمة التي لم تُدين ما حدث ويحدث للكرد في المنطقة، والأمر متروك لأحرار الشعوب في كل مكان من العالم، ودائماٍ ما ينتصر الحق في النهاية، وما يحزننا هو موقف المنظمات الإسلامية، التي تعلن في أهدافها الوقوف بجوار الشعوب الإسلامية.
وذلك ليس كل شيء، لأننا عندما نكتب عن المشكلة الكردية نجد أنفسنا دائماً في مأزق التمييز بين الشعوب والحكومات من جهة وبين المنبر (الإعلام) والسلطة (السياسة) من جهة أخرى، فنحن نكتب عن شعب ينتمي عقائدياً لأمة المسلمين، وكان ومازال من المفترض أن يدافع المسلمون عن الكرد، سواء في خطب المنابر، ومن داخل المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، وهنا نكتب عن دور منظمة التعاون الإسلامي، ثم عن العلاقة ين المنبر والسلطة عبر التاريخ وفي العصر الراهن أيضاً.
منظمة التعاون الإسلامي
كانت تُعرف سابقًا باسم منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي منظمة إسلامية دوليّة تجمع سبعًا وخمسين دولةً إسلامية، وتصف المنظمة نفسها بأنها (الصوت الجماعي للعالم الإسلامي)، وأنها تهدف لحماية المصالح الحيوية للمسلمين البالغ عددهم نحو 1,9 مليار نسمة. وللمنظمة عضوية دائمة في الأمم المتحدة.
تأسست المنظمة في الرباط بالمغرب في يوم 25 أيلول 1969، كرد فعل على حريق المسجد الأقصى من قبل الصهيونيين وذلك يوم 21 آب 1969، وعُقد أول اجتماع بين زعماء دول العالم الإسلامي، حيث طرح وقتها مبادئ الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين، المتمثلة في القدس وقبة الصخرة، وذلك كمحاولة لإيجاد قاسم مشترك بين جميع فئات المسلمين، وبعد ستة أشهر من الاجتماع الأول، تبنّى المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء الخارجية المنعقد في مدينة جدة بالسعودية عام 1970، وتم وقتها تبني دستور المنظمة، الذي يُفترض به تقوية التضامن والتعاون بين الدول الإسلامية في الحقول الاجتماعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
من أهداف المنظمة
من ضمن أهداف منظمة التعاون الإسلامي، ما يخص يحثنا، وهو أن تعمل منظمة التعاون الإسلامي على التضامن الإسلامي ما بين الدول الأعضاء مع بعضها البعض – تساعد في دعم كفاح الشعوب الإسلامية بهدف صيانة كرامتها، واستقلالها – ودعم التعاون المشترك بين الدول الأعضاء في جميع المجالات سواء كان في المجال السياسي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، أو العلمي.
ومن مبادئها
ومن ضمن مبادئها المساواة التامة بين جميع الدول الأعضاء المشاركين في منظمة التعاون الإسلامية – احترام وتقرير المصير لأي دولة من الدول المشاركة في المنظمة مع عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء- احترام السيادة والاستقلال لأراضي كل دولة من الدول الأعضاء في هذه المنظمة – حق كل دولة في تقرير مصيرها بذاتها
منظمة حكومات لا شعوب
كارثة الكوارث أن منظمة التعاون الإسلامي، لا تمثل الشعوب، ولكنها منظمة حكومات، ومعناه أن كل دولة لا ينبغي أن تتدخل في الشأن الداخلي لدولة أخرى.
ولذلك لم نضبط المنظمة يوماً بجوار الأقليات المسلمة، لأنها لو فعلت ستكون متدخلة في الشأن الداخلي لدول مثل الهند والصين وروسيا وميانمار… الخ.
وتزداد المأساة عندما لا نجد أي صدى أو رد فعل للمشكلة الكردية، لم نسمع لها صوتا يطلب الحرية لشعب أغلبيته مسلمة، رغم أن من ضمن أهدافها أن تساعد في دعم كفاح الشعوب الإسلامية بهدف صيانة كرامتها، واستقلالها، وهي بناءً على ذلك تخالف الميثاق الإسلامي الذي وضعه مؤسسو المنظمة نفسها.
ولا نلوم المنظمة كثيراً، لأنها منظمة حكومية، وبين أعضائها خلافات كثيرة، وصلت لحروب مثل (العراق وإيران – الحرب الأهلية في أفغانستان – مشكلة الصحراء والخلاف بين الجزائر والمغرب)، وبالتالي لا نتوقع أن يكون لها أي دور فاعل ومؤثر.
إن الكرد يعيشون في دول هي أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي (العراق – إيران – تركيا – سوريا)، وحيث تُتخذ القرارات بتصويت أجماعي، فلا يوجد قرارات لصالح حقوق الكرد، فمن يمثل تلك الدول الأربعة، هم أنفسهم من لا يعطون للكرد حقوقهم، ورغم بشاعة الموقف، فنحن لا نلوم منظمة تأثيرها على الشعوب محدود.
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
كما يوجد ما يُسمّى (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، وهو منظمة غير حكومية، لا تخضع لإشراف الحكومات، ولكن هذا الاتحاد أيضاً لم يذكر القضية الكردية على الإطلاق منذ تأسيه عام 2004، رغم أن من أهدافه أيضاً (أن الاتحاد عالمي، وليس محلياً ولا إقليميًا، ولا عربيًا ولا عجميًا، ولا شرقيًا ولا غربيًا، بل هو يمثل المسلمين في العالم الإسلامي كله، كما يمثل الأقليات والمجموعات الإسلامية خارج العالم الإسلامي).
ورغم الكلمات البراقة لا نجد له وجود أو أثر في القضايا الإسلامية، كما أنه لم يتحدث أبداً عن مأساة الشعب الكردي، بل وصف رئيس الاتحاد السابق الشيخ المرحوم (يوسف القرضاوي) بأن الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) هو خليفة للمسلمين، وعلى كافة المسلمين مبايعته، وهو قول طائفي استبدادي لا يرى ما يفعله أردوغان وأسلافه من قتل وتهجير ومطاردة للشعب الكردي، الذي من المفترض أن يدافع عنه اتحاد علماء المسلمين، طالما أن منظمة التعاون الإسلامي لا تملك قراراتها، فالشيخ القرضاوي وغيره من الشيوخ لم يروا أن هناك حقوقاً مسلوبة من شعب كامل يعيش على أرضه، التي لا يشاركه فيها أحد عبر التاريخ الطويل الممتد لآلاف السنين.
كل ذلك يقودنا لنتحدث عن تاريخية العلاقة بين المنبر (الإعلام بمفهوم اليوم)، وبين السلطة بتراثها الاستبدادي، وهو ما يجعلنا نفهم كل مآسي الأمة وليس الكرد وحدهم.
ما بين المنبر والسلطة
ما سبق دفعنا للبحث عن علاقة الإعلام والسلطة في الماضي والحاضر، كان الإعلام في الماضي من فوق المنابر وعلى ألسنة الشعراء.
وتوجد علاقة طردية بين المنبر والسلطة، في كل الأديان في الزمن القديم والمعاصر، ولكننا نكتب عن السلطة والمنبر عند المسلمين، والعلاقة الطردية تعني أنه كلما زادت السلطة استبداداً، زادت المنابر سخونة للدعاء السياسي للمستبد السلطوي القديم، ثم الجديد، وعلينا الاعتراف بأنه مهما كتب الكتّاب وألّف المؤلفون، وكتب الشعراء، لا يكون لهم تأثير مثل تأثير الخطب المنبرية، لأنها تحدّث العوام وتؤثر فيهم وتملك ناصيتهم.
والمفترض أن منابر المساجد وسيلة لتحقيق الأمن النفسي، ونشر ثقافة التسامح والإخاء والمساواة، وتجديد النشاط الروحي، خاصةً أن المسلم يذهب لصلاة الجمعة كل أسبوع، حتى تتحقق الغاية الإيمانية من الخطبة والصلاة.
والمفترض أن خطبة المنبر توحّد جهود الأمة، خاصةً وأن الخطباء من فوق ملايين المنابر لا ينفكون يرددون الآية 92 من سورة الأنبياء “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ”، وكذلك الآية 52 من سورة المؤمنون “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقونِ”، ولكن الوحدة لم تتحقق أبداً، رغم أن شرعية الخلفاء تزداد عندما يُخطب لهذا الخليفة أو ذاك من فوق المنبر المكي في الحرم الشريف والمدينة المنورة، ولكنها شرعية السيف واستغلال الدين برمزه المنبري الشائع.
والواقع العملي على مدار التاريخ الإسلامي، هو أن تحولت المنابر لأبواق سياسية دعائية، وهوس مذهبي أحدث التفرق والتشرذم والحروب الأهلية من أجل الحكم، فتعددت الدول وتعدد الخلفاء، وتفرّق المسلمون، حتى قال شاعر أندلسي عاصر دول الطوائف: “وتفرقوا شيعاً فكل قبيلة… فيها أمير المؤمنين ومنبر”، أمير للمؤمنين سلطة، والمنبر جهاز إعلامي ديني حكومي موجه.
ولقد حدث استخدام سياسي كريه للمنابر، كرّس فيها الخلفاء والسلاطين والأمراء والملوك الاستبداد السياسي باسم الدين، وعندما تقوم دولة بعد أن تسقط دولة، يكون المنبر هو الجهاز الإعلامي للحكم الجديد.
وعندما يتعدد الخلفاء تتعدد المنابر بميولها وأهوائها وخطبائها، لدرجة أن قال ابن حزم الأندلسي الظاهري متحسراً في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”: “فضيحة لم يقع في الدهر مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، أحدهم في إشبيلية والثاني بالجزيرة والثالث بمالطة والرابع بسبته”، ابن حزم يتحسر على الرقة ولكنه لم يتحسر على الاستبداد باسم الدين.
العصا المنبرية والسيف السلطاني
لقد بدأ التأريخ العلني لدور المنبر السياسي مبكراً، في عصر الخلافة الراشدة، ثم صار أكثر علانية وصلافة منذ صعود الخلافة الأموية، كما “جاء في البداية والنهاية” لابن كثير عن سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة خارج الكوفة الجمعة في الضحى ثم خطبنا فقال: “ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت إنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون”.
أي أنه يريد الإمارة ودونها قطع الرقاب حتى لو صلى الناس وصاموا وحجوا، وخطا عبد الملك بن مروان خطوة أجرأ، فقال من فوق المنبر علنا: “لو قال لي أحد بعد مقامي هذا لضربت عنقه بالسيف”، هكذا بدون أي رابط ديني أو خُلقي أو إنساني، وبالفعل قطع الرقاب بدون محاكمات.
وتكرر الأمر عبر التاريخ الدموي، فقال أبو العباس السفاح ضمن ما قال في أول خطبة له يوم جمعة من فوق منبر جامع الكوفة كما جاء في كتاب “الكامل في التاريخ” لابن الأثير “وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير… استعدوا فأنا السفاح المبيح، والثأر المبير”، السفاح المبيح أي الذي يبيح كل شيء وأي شيء، أما (المبير) فهو المهلك القاتل الفتّاك.
في تلك الخطبة العصا والجزرة، فيها زيادة الأعطية، وفيها التهديد بسفك الدماء وإهلاك المعارضين، ويستمر الحال على ما هو عليه، فعندما سقطت الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي، فقد أعلن سقوط الدولة الفاطمية وخضوعها للخليفة العباسي في بغداد.
ودام الأمر في العلاقة الملتبسة بين المنبر الديني والسلطان السياسي في العصر العثماني، وما بعده حتى اليوم، ومن فوق ألف منبر ومنبر تأتي شرعيات حكومية زائفة، وخُطب منبرية مشوهة.
ومن يراقب الأمور في كل البلاد الإسلامية يجد المنابر المؤثرة على نشر الفكر التكفيري الدموي الإرهابي الداعشي البوكو حرامي تحض على الكراهية والعنف والقتل والسبي.
ختامها حرية
بعد العرض السابق، فهمنا أن المنظمات الإسلامية الحكومية وغير الحكومية، لا فائدة تُرجى منها، كما فهمنا تلك العلاقة بين الإعلام والسلطة، وبين المنبر والسياسية، وبالتالي لابد من الاعتماد على النفس والحق والعدل وكرامة الإنسان.
نجد لزاما علينا تكثيف توجه القيادات والرموز الكردية، ومعهم أحرار العالم العربي والإسلامي والعالمي، الذين يعرفون قدر حرية الفرد، فكيف بحرية شعب بأكمله، ومهما كانت العلاقة بين المنبر والسلطة، فلن نعدم إعلاماً يؤيد القضية، وهي القضية التي بدأ التعرف عليها وأعداد المؤيدين يزدادون رغم ضراوة الهجمات، خاصة تلك التي تأسر وتخطف وتسجن الأحرار، مثلما حدث مع الزعيم عبد الله أوجلان، وهو أمر لو يعلمون عظيم…[1]