كُرد المهجر بين وحدة المصير ورؤية الهدف
د. علي أبو الخير
مُقدمة حول دول المهجر
عندما نتحدث عن دول المهجر، نقصد بها أوروبا وأمريكا الشمالية، لأن دول الشرق الأوسط وأفريقيا، يرحل عنها اللاجئون، ويلجؤون لدول الشمال الأبيض الأوروبي في هجرات غير شرعية عبر قوارب في البحر الأبيض المتوسط، يلجؤون لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، ومنها يمكن اللجوء لدول أخرى وسط وغرب أوروبا، منهم من تعيده السلطات إلى بلاده، ومنهم من يحصل على الإقامة الشرعية، ومنهم من يحصل على الجنسية البيضاء.
كرد المهجر، يعيشون في عدة دول أوروبية، يشكلون جالية مهمة، فهي جالية كبيرة مثقفة ومتعلمة، لا يحدث منها أي نوع من أنواع التطرف الفكري أو العملي، مثلما يحدث من بعض الجنسيات الأخرى، ورغم ذلك يتعرّض الكرد إما لاغتيالات سياسية أو لأهداف عنصرية، كما سترى في هذا المقال.
ولابد من القول عند الحديث عن كرد المهجر، أنهم ينتمون إلى جغرافيا أمة الكرد في الدول الأربعة التي يعيشون فيها، ولكل جماعة كردية مهاجرة أسباب أدّت للهجرة، حسب وجود تلك الجماعة من إيران والعراق وتركيا وسوريا، بعضهم من أجل حياة أفضل، وأكثرهم بسبب الاضطهاد، كما هو الحال في سوريا والعراق ما قبل صدام، ولكن الاضطهاد الأكبر كان من تركيا، وهي أكبر دولة طاردة للكرد ليعيشوا بعيداً عن السجون التركية.
ولقد وحّد المهجر كافة الكرد على اختلاف جنسياتهم، كلهم مسلمون، وكلهم كرد يتحدثون لغتهم الأم الكردية، وتمكنوا من توحيد مصيرهم، ورأوا في وحدتهم في غربة الشتات ما يمكن أن يقدموه لشعبهم المشتت بين أربعة حدود جغرافية.
بدايات الهجرة الكردية لأوروبا
عاش بعض الكرد الأفراد في دول أوروبا الغربية المختلفة، وكذلك عاشوا في دول الكتلة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية، في عصر الاتحاد السوفييتي، وأُنشأت في تلك السنوات “جمعيات الصداقة” المختلفة، كتلك التي في رومانيا، وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، وكانت هذه الجمعيات تُعنى بشكلٍ رئيسي بالثقافة الكردية، من غناء، ولغة، وتبادل ثقافي مع الدول التي وُجدت فيها، ولكن انهار السوفييت، وبدأت الرحلة الكردية للعمق الأوروبي الغربي، رغم أن الغرب الأوروبي عرف الكرد منذ الستينيات من القرن الماضي.
فقد كانت أولى الجماعات الكردية التي وصلت إلى أوروبا الغربية بشكلٍ كبير، وصلت في ستينيات القرن الماضي، وكان معظمهم من كرد تركيا “باكور كردستان”، وصلوا مع العمّال الذين جلبتهم حكومات ألمانيا، وهولندا، والسويد، وبلجيكا، من تركيا، والذين باتوا يُعرفون باسم (العمال الضيوف).
أمّا الحضور السياسي الكردي في أوروبا الغربية في ذاك الوقت، فقد اقتصر على وجود أفراد، وشخصيات سياسية وثقافية لها حضورها في الحياة العامة الكردية، من أمثال (نورالدين ظاظا) وغيره، من دون وجود تنظيمات حزبية، أو فروع لأحزاب كردستان في أي دولة أوروبية.
إلّا أنّ تأثير مصطفى البرزاني وسياسته، على معظم هذه الشخصيات، كان واضحاً. كما ذكر الأستاذ الكاتب الصحفي (دلير يوسف) في موقع رصيف 22 https://raseef22.net/article يوم أعلى النموذج2 نوفمبر 2021.
موجات الهجرة الكرديّة الكبرى لأوروبا
في منتصف السبعينيات، وبعد هزيمة ثورة الملّا مصطفى البرزاني في كردستان العراق “باشور كردستان”، فتحت بعض الدول الأوروبية أبوابها أمام عدد من عائلات السياسيين المقاتلين البشمركة الكرد، ولاسيما هولندا.
وبهذا وُجدت أول كتلة شعبية كردية سياسية في أوروبا الغربية والشمالية، والتي عملت لاحقاً على توطيد العلاقات السياسية والثقافية بين الكرد والأوروبيين، بطرق مختلفة.
شكّلت الأحزاب الكردستانية في الدول الأربعة في أوروبا، امتداداً للأحزاب الكردية الموجودة أساساً في أجزاء كردستان المختلفة.
في سنة 1980، نفّذ الجنرال العسكري (كنعان ايفيرين)، انقلاباً عسكرياً يهدف إلى “إعادة مبادئ الجمهورية التركية، حسب ما بناها أتاتورك”. وفي إثر الانقلاب، أعدمت السلطات الجديدة العشرات، واعتقلت مئات الآلاف، ومات المئات في السجون تحت التعذيب، ممّا تسبّب بموجة هروب ولجوء كردية وتركية كبيرة، نحو القارة الأوروبية.
مجموعات من الأحزاب الكردية، والسياسيين الكرد، كانوا ضمن الهاربين من الانقلاب التركي. كما انضم إليهم الكرد الهاربين من إيران والعراق، نتيجة حرب الخليج الأولى، لتساهم هذه “الهجرات” في تشكيل أحد أكبر تجمعات الكرد السياسية في أوروبا، وبالتحديد في السويد، التي حضر فيها الكرد منذ سنوات طويلة قبل ذلك، ليشكلوا جزءاً من المجتمع السويدي، وصولاً إلى وجود نوّاب كرد في حكومات السويد المتعاقبة.
الموجة اللاحقة من “هجرة” الكرد إلى أوروبا، حدثت بعد انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدّام حسين سنة 1991، والتي أعقبت هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، وانسحاب الجيش العراقي من الكويت.
قمع النظام العراقي الشديد أدى إلى هرب مئات الآلاف من العراقيين، كرداً، وعرباً، وآشوريين، وسرياناً، وتركماناً، نحو دول الجوار، ومنها إلى أوروبا ودول العالم.
في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، لجأت بعض الكوادر والقيادات والسياسيين من حزب العمال الكردستاني، إلى دول أوروبا الغربية، وبشكلٍ خاص إلى هولندا، وألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا.
بعد بداية الألفية، وبالتحديد بعد انتفاضة كرد سوريا سنة 2004، هرب الكثير من الشبان الكرد السوريين نحو أوروبا، مفتتحين موسم الهجرة السورية الكبيرة نحو الشمال، لتزداد الأعداد بعد عام 2011، وتبلغ ذروتها في عام 2015، حين وصل مئات الآلاف من اللاجئين العرب، والأفغان، والكرد، وغيرهم، إلى الأراضي الأوروبية.
القيادات السياسية الكردية في أوروبا
اعتمد الكرد في بدايات وجودهم في الدول الأوروبية، على تأثير الشخصيات الكردية البارزة، من أجل دعم القضية الكردية سياسياً وثقافياً، ومن أجل دعم اللاجئين الكرد في الدول الأوروبية، وتنظيم عمل الجالية الكردية التي تزايد عدد أفرادها مع مرور الوقت.
خلال السنوات، ومع موجات الهجرة المتعاقبة، نشأت حركات سياسية تابعة لأحزاب الكرد الأساسية، أو أفرع وتنظيمات تابعة لهذه الأحزاب في الدول المختلفة، ولاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحزب العمال الكردستاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.
شكّلت هذه الأحزاب امتداداً للأحزاب الكردية الموجودة أساساً في أجزاء كردستان المختلفة، وتأخذ قرارها من قياداتها الموجودة في كردستان (المقسّمة بين أربع دول رئيسية هي: سوريا، والعراق، وإيران، وتركيا)، ولكن هذا لم يمنعها من لعب دور دبلوماسي وسياسي، بالإضافة إلى العمل على الحفاظ على الثقافة والتراث الكرديَين.
هذا بدوره أدى إلى تعاظم دور الأحزاب الكردية داخل الجاليات الكردية في أوروبا، فتشكلت جماعات وقوى ضغط في الدول صاحبة القرار، وخاصةً ألمانيا وفرنسا، كما تشكّلت حركة سياسية كردية مهمة على صعيد العلاقات الكردية الأوروبية، في دولتَي النمسا والسويد.
كذلك لعب المثقّفون والأكاديميون الكرد في أوروبا، دوراً في الحفاظ على اللغة الكردية وتطويرها، والعمل على الجوانب الثقافية والتراثية الكردية، من خلال المعاهد والجامعات والمراكز الثقافية الكردية المنتشرة في مختلف الدول الأوروبية.
كما ظهرت حركة كردية مستقلة عن الأحزاب الكردية في أوروبا الغربية، أو بالأحرى صارت أكثر وضوحاً، بعد وصول أعداد كبيرة من الناشطين السياسيين، والفاعلين الثقافيين، والسياسيين المستقلين، إلى أوروبا، خلال السنوات العشر الأخيرة.
العنصرية الأوروبية في زمن العولمة
رغم أن الكرد بصورةٍ عامة لا يميلون نحو الإرهاب أو التطرف، فهم أيضاً في أوروبا يتعرضون لهجمات عنصرية، كتلك التي تحدث ضد الأفريقيين والعرب، مع العلم أن الشعب الكردي ذو أصول آرية، ولكنهم معرضون لهجمات دموية، مثلاً في يوم 23 كانون الأول 2021، حدثت مجزرة دموية عنصرية ضد بعض الكرد، حيث جرت الوقائع في شارع قرب مركز ثقافي كردي، في حي تجاري حيوي ترتاده الجالية الكردية، وقُتل في إطلاق النار ثلاثة أشخاص هم رجلان وامرأة، وأصيب رجل بجروح خطيرة واثنين آخرين جروحهما أقل خطورة، والمرأة التي قُتلت هي (أمينة كارا) وكانت قيادية في الحركة النسائية الكردية في فرنسا، بحسب المجلس الديمقراطي الكردي في فرنسا، أما الرجلان اللذان قُتِلا فهما (عبد الرحمن كيزيل) وهو “مواطن كردي عادي” يتردد على المركز الثقافي “يومياً”، و(مير بيرور)، وهو فنان كردي ولاجئ سياسي (ملاحق في تركيا بسبب فنه المعارض للنظام التركي).
لم يفعل هؤلاء الكرد شيئاً ليتم قتلهم لأنهم ليسوا فرنسيين، والقاتل المحترف ليس شاباً، ولكن عمره 69 عاماً، أي أن العنصرية تمثل جزء من تاريخه، وقد سبق للقاتل مطلق النار ارتكاب أعمال عنف بسلاح في الماضي وهو معروف للقضاء، وكان قد حُكم عليه بالسجن عام 2021 بارتكاب أعمال عنف ذات طابع عنصري، مع سبق الإصرار، مستخدماً أسلحة، والتسبب بأضرار لأفعال ارتُكبت في الثامن من كانون الأول 2021. أي أن الأمن الفرنسي يعلم خلفيته الدموية، ولكنه ترك له الحرية للقتل عدة مرات.
وليست تلك هي المرة الأولى في الهجوم العنصري ضد الكرد في أوروبا، خاصةً في فرنسا، فقد تم اغتيال الناشطة والسياسية الكردية البارزة للكرد في أوروبا، المرأة الثائرة (ساكينة جانسيز)، واثنتين من رفيقاتها على يد المخابرات التركية، بتواطؤ مخابراتي فرنسي، وذلك يوم 9 كانون الثاني 2013، بدون أي إدانة شديدة اللهجة من الغرب الأوروبي، أو من الشرق العربي الإسلامي.
الرمز الأوجلاني
ورغم كل المآسي، فإن كرد المهجر، ومنهم المثقفون والأكاديميون والفنانون وغيرهم، تمكنوا ويتمكنون من وضع القضية الكردية أمام العالم.
وبوحدتهم يمكنهم توحيد كل قوى الشعب الكردي، ليطالبوا بخروج الرمز القائد عبد الله أوجلان من سجنه الذي طال، فهو معتقل رأي، لم يحمل السلاح ولم يقتل، ولم يتعرض لأي إدانة قانونية، تسمح ببقائه داخل الأسوار طوال ما يقرب من ربع قرن من الزمان…
يتمكن كرد المهجر من ذلك، هم يفعلون ولكننا نريد دفعات قوية لإطلاق سراح الرمز قريباً، كما يستطيع كرد المهجر من التعامل مع المنظمات الدولية وقوى الأحرار في العالم، ليحصل الشعب الكردي على حق تقرير مصيره… وهو حق أصيل لكل الأحرار في العالم بأسره…[1]