الكُرد وأمريكا الأمة الخطيرة 2
د. علي أبو الخير
مقالنا هو عن الأمة الأمريكية الخطيرة السياسية والإنسانية ومن ضمنها موقفها تجاه الشعب من شعوب الأرض، خاصةً الخيانات المتكررة من أمريكا للشعب الكردي ويوجد بعض المنصفين الغربيين، مثل المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت)، والمؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي)، ولكنهم في النهاية لا يصنعون القرارات في أمريكا وباقي دول أوروبا، فمن يصنع القرارات هم رجال السياسة والجيش والمخابرات، ولكن علينا أن نثق في أنفسنا قبل أن نربط مصائرنا على قرارات خارجية.
ومن ضمن هؤلاء المنصفين المؤرخ والباحث السياسي الأمريكي، (روبرت كاغان)، الذي نشر في عام 2003، كتاب “الأمة الخطيرة” Dangerous Nation، والأمة التي يعنيها الكاتب هي الأمة الأمريكية، والكتاب يقع في مجلدين كبيرين يروي بواقعية تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، وتحديداً دور أمريكا في العالم وصراعاتها وحروبها مع الدول الأخرى “من الأيام الأولى حتى مطلع القرن العشرين”، وما بعدها، بعد غزو أمريكا للعراق، وقد أحدث الكتاب دوياً في وقته، دون أن تتنازل إدارة الرئيس (بوش الابن) عن التدمير والفساد.
ومن خلال الكتاب نتأمل النشأة الأمريكية، فالأوربيون قتلوا ما يزيد عن مائة مليون من الهنود الحمر عند تأسيس أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي الشمالية كانوا أكثر قسوة في الفتك بالمظلومين من أجل البلاد الأصليين.
ومن كان هذا تاريخه لا يستنكف أن يبغي الفساد في الأرض، خاصةً بعد تحالف الرأسمالية المتوحشة مع دول الاستعمار القديم، وفيما بعد الصهيونية العالمية.
وقد كتب المؤرخ (كاغان) عن الشعوب التي ظلمها الاستعمار الأمريكي، نكتب عن بعض منها بما فيها الشعب الكردي.
القضايا الإنسانية العدائية عند أمريكا
يقول مؤلف الكتاب الدكتور كاغان: إن الولايات المتحدة ابتكرت سياسة خارجية جديدة، مبنية على أيديولوجية عالمية حول القضايا الإنسانية، وقد جاءت وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي لتكرس ذلك من خلال ما نصّت عليه، وهو “أن حقوق الإنسان تسمو فوق الحدود الإقليمية وحتى فوق الروابط الدموية”.
هذا على المستوى الأمريكي، ولكنها لا تطبقه على الشعوب الأخرى، وحتى في الداخل الأمريكي، مازالت النظرة العنصرية الدونية للأمريكيين من غير الجنس الأبيض، ويؤكد الدكتور كاغان على أن هذه الأيديولوجية نمت وتوسعت فيما بعد، وخاصةً لدى الحركة الإنجيلية الأمريكية التي كرّست الإيمان بالثالوث المقدس: “النظام الجمهوري والديمقراطية والتجارة”.
النبوءة السياسية
وللتأكيد على ذلك يُنقل عن مبعوث أمريكا لدى بريطانيا في عام 1918 “جون ماكنزي أدامز” ما يشبه النبوءة السياسية والتي تتمثل في قوله في رسالة دبلوماسية رسمية: “إن الشعور العام في أوروبا هو أن النمو الكبير لشعبنا ولقوتنا -إذا ما اتحدنا- سوف يُشكل خطراً شديداً على مجتمع الأمم الأخرى”، ذكر أحد أعضاء الكونغرس في تقرير له بعد زيارة أوروبا “إن الجميع يعتبرون الأمريكيين شعباً طموحاً وعدائياً”.
على أن النبوءة السياسية ربما الأكثر وضوحاً هي التي وردت في مقال نشرته مجلة “إدنبرة ريفيو” البريطانية في عام 1918، فقد جاء في المقال: “إلى أين سيصل هذا التضخم الهائل في العدد، وهذا التوسع في الهيمنة؟ ما هي الضوابط التي تضعها الطبيعة، لمواجهة تقدّم هذه الأمة الجبارة؟ فلنحترق حسداً كما نشاء، ولننظر إلى عدم تسامحنا على أنه عنف غير مبرر، بقدر ما نشاء.
إلا أنه من الواضح أن أمريكا قوة كبيرة رغماً عنا وأنها سوف ترتفع بسرعة لتصبح القوة الكبرى”. الآن وقد أصبحت أمريكا بالفعل.
وبعد انتهاء الحرب الباردة لمصلحتها، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وتمزقه إلى عدة دول القوة الكبرى، والقطب الأوحد.
ولكن ورّثت روسيا الاتحاد السوفييتي، وبدأت تأخذ طريقها لتكون القطب الثاني، فضلاً عن وجود الصيت، التي قد تصبح قطباً ثالثاً، وربما كانت الحرب بين أوكرانيا وروسيا، محاولة من الأمة الخطيرة لإسقاط أي مشروع تحرري في العالم بأسره.
الثالوث المُقدّس الأمريكي
الواضح أن الهيمنة المباشرة على القرار السياسي وعلى الثروات الاقتصادية (النفط والأسواق التجارية) أصبحت البديل في القرن الحادي والعشرين، بما يحقق الغايات والأهداف ذاتها. فالهدف واحد.
وهو يتمثل في الثالوث المقدس كما ذكرنا: النظام الجمهوري، والديمقراطية والتجارة، أي تغيير الأنظمة السياسية، بما في ذلك النظم الاجتماعية والقيم التي تقوم عليها، وإقامة أنظمة متعاونة، تضمن المصالح الاستراتيجية الأمريكية الاقتصادية منها والسياسية على حد سواء، وحيث لا يمكن تحقيق ذلك بالحُسنى، والنموذج الأمثل هو الخيانة الأمريكية للشعب الكردي، وربما كانت الأخطاء من القيادات السياسية للكرد في العراق، هو اعتقادهم أن الدولة الأمريكية ستعمل على توحيدهم، أو على الأقل استقلال شمال العراق الكردستاني.
وهو ما يقودنا إلى الحديث عن القابلية للاستعمار، والقابلية للتفتت عند بلاد العالم الثالث، وليس الشعب الكردي وحده.
قابلية دول العالم الثالث للاستعمار
إذا كانت الولايات المتحدة مصابة بعقدة التوسع والهيمنة، فإن ثمة مناطق متناثرة في العالم تعاني عقدة معاكسة، هي عقدة تقبّل الاستعمار وحتى التمسك به.
وهي العقدة التي كان يسميها المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: “القابلية للاستعمار”. فرغم مرور حوالي أربعة عقود على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشكيل لجنة خاصة لتصفية الاستعمار في العالم، لا تزال أمام اللجنة حتى الآن خمس عشرة قضية مُعلقة حول تحرير مناطق مختلفة، لا تزال تخضع للاستعمار.
الظواهر الاستعمارية الأمريكيّة
يقول (كاغان): هناك ظاهرتان أساسيتان تواجهان عمل اللجنة:
الظاهرة الأولى هي أن معظم أعضاء اللجنة هم من دول العالم الثالث، أما الدول المستعمِرة فهي من دول العالم الأول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وبالتالي لا تستطيع اللجنة فرض قراراتها او توصياتها.
الظاهرة الثانية، هي أن معظم المناطق التي لا تزال خاضعة للاستعمار لا تريد تصفية الاستعمار، وتصرُّ على أن تبقى تابعة للدولة المهيمنة عليها، إما شعوراً منها بالعجز الاقتصادي والأمني، أو استقراء بالانتساب إلى دولة كبرى.
وكما يقول الدكتور (روبرت كاغان) في كتاب “الأمة الخطيرة”: وفي الحالتين فإن فشل أنظمة الحكم الوطنية في تحقيق الشعارات الاستقلالية بالحرية والازدهار والأمان، أدى إلى نشوء ظاهرة الردة على الاستقلال التي تسود هذه المناطق، وهي: ساموا – إنغويلا – برمودا- فيرجين آيلند (الجزر العذراء) البريطانية – جزر كايمن- جزر الفوكلاند – جبل طارق- جزيرة غوام -جزيرة مونت سيرا- كاليدونيا الجديدة- بيتكيرن- توكيلو – تيرك وكايكوس- سانت هيلانة.
حتى أن دولة إفريقية صغيرة مؤلفة من جزر شهدت محاولات تمرّد طالبت إحداها بالعودة إلى الاستعمار الفرنسي الذي تحرّرت منه منذ عدة عقود، وقد فشلت المحاولة لأن فرنسا رفضت تأييد الحركة أو التجاوب معها، إلا أن مجرد قيامها يُشكل إحراجاً للجنة تصفية الاستعمار في الأمم المتحدة، ذلك أنه خلافاً لفلسفة اللجنة فإن البعد الحقيقي لحركة التمرد تلك يعكس شعوراً بأن التحرر من الاستعمار لا يؤدي بالضرورة إلى السعادة الوطنية المنشودة، وأنه ليس بالضرورة الطريق المضمون إلى المستقبل الأفضل.
وتطرح هذه الظاهرة علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كانت الحرية مع الفقر، هي أفضل من الاستعمار مع الاكتفاء، ولو تُرك الخيار لسكان هونغ كونغ لربما آثروا استمرار الانتماء إلى بريطانيا. غير أن بريطانيا كانت ملزمة بموجب معاهدة مع الصين بإعادة هونغ كونغ إلى الوطن الأم في عام 1997، كما حدث بالفعل.
ومنذ عام 1967 رفض سكان جبل طارق، في أول استفتاء شعبي جرى بإشراف الأمم المتحدة الاستقلال عن بريطانيا (بأكثرية 12138 مقابل 44 فقط)، كما رفضوا في الاستفتاء نفسه الانضمام إلى إسبانيا، وتكرّس هذا الموقف في كل الاستفتاءات التي جرت فيما بعد وحتى اليوم. وكانت بريطانيا قد سُلخت جبل طارق عن إسبانيا في عام 1704 بالتعاون مع هولندا وكرّست تبعية الجبل (الصخرة) للتاج البريطاني بموجب معاهدة أوتريخت في عام 1713 وتبلغ مساحة جبل طارق (والذي يحمل اسم طارق بن زياد فاتح الأندلس) 3.5 ميل مربع (أي حوالي 9 كيلومترات مربعة فقط)، وهو امتداد لجنوب إسبانيا ويتمتع بموقع استراتيجي مهم، بحيث إنه يُشكل البوابة، بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، إلا أنه المنطقة الوحيدة في أوروبا، التي لا تزال تخضع للاستعمار.
السقوط الأخلاقي الأمريكي
يبقى السؤال الذي طرحه (كاغان) وهو: أي مبرر لاستمرار لجنة تصفية الاستعمار في الأمم المتحدة، وأي مصير ينتظرها إذا كانت عاجزة عن تحرير المناطق التي تنشد الاستقلال؟
وإذا كانت مناطق أخرى ترى في الاستعمار “فضيلة” تتقدم على فضائل الاستقلال والتحرر فيوجد خلل سياسي عالمي ينتمي للنهج الإمبريالي، حيث تتوسع لصالح الجنس الأبيض، وتزرع إسرائيل من أجل عدم وجود وحدة عربية مستقلة يوماً ما، وتتوسع جغرافياً، واليوم تتوسع سياسياً وثقافية في حركات تطبيعية مستمرة، هذا في الوقت الذي خانت وتخون فيه أمريكا الشعب الكردي، الذي يعيش مستقلاً استقلالاً فعلياً على أرضه بموجب حقائق التاريخ والجغرافيا، رغم عدم وجود كيان سياسي موحّد.
خيانة أمريكية معروفة للكُرد
من هنا نرى، فإذا كان عنوان كتاب المؤرخ الأمريكي (روبرت كاغان) عن الطموحات التوسعية للولايات المتحدة “الأمة الخطيرة” صحيحاً، فلابد أن تكون أخطاء الآخرين هي الصدمة الكبرى على المستويات الإقليمية والدولية، التاريخية منها والثقافية..
الخيانة الأمريكية معروفة، ولكن الخيانة الأقرب للألم والفتن، هي الخيانة التي تأتي من الذين نقول عنهم أشقاء، وهو الأمر الذي يدعو إلى الحسرة.[1]