#عوني الداوودي#
بعد أنقطاع عن الكتابة محتجاً دام حوالي الأسبوع، عاد الأستاذ الفاضل القاضي #زهير كاظم عبود# للكتابة تحت ضغط الكم الكبير من الرسائل والدعوات الموجهة من قبل القراء، ومن محبيه وأصدقائه الذين عز عليهم أن يخلي هذا الانسان المناضل والقلم الغزير الساحة لبعض المهووسين لنيل الشهرة السريعة وذلك في التطاول على الرموز الوطنية العراقية سواء في الداخل او في الخارج . وبعد رسالته العاطفية والحكيمة لقراءه ومحبيه معلناً العودة للكتابة، نشر في عدة صحف ألكترونية مقالاً يحمل عنوان التمذهب القومي والطائفي في زمن البائد صدام .
فمن خلال أستقراء كمية لا باس بها من مقالات الأستاذ زهير أستطيع القول بأن القاضي أنطلق في تحليله لهذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق الحديث والمعاصر، أي منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة إلى يوم سقوط صدام، وأقول الحرجة بأعتبار أن الوضع العام للبلد لم يكن مستقراً أبداً، أذا اخذنا بعين الأعتبار بدايات تشكيل الدولة العراقية، وتنصيب الملك فيصل الاول ملكاً على العراق، ومشكلة ولاية الموصل، ومجزرة سميل عام 1933، ومن ثم النضال من أجل الاستقلال، وأنقلاب بكر صدقي عام 1936، وحركة رشيد عالي الكيلاني 1941 وثورة برزان الأولى عام 1939 والثانية 1943 1945 ، وثورة تموز 1958 وأندلاع ثورة أيلول الكوردية عام 1961 وأنقلاب شباط 1963 ومن ثم تموز 1968 والحروب التي تلتها، ناهيك عن قتل مئات الألوف من العراقيين في السجون المعتقلات على مر المراحل خلال تلك الفترة القصيرة من تاريخ الدولة العراقية، وهكذا هلم جرا... إلى يومنا هذا. قلت أنطلق ... من منطلق لا يخلو من النية الطيبة والحسنة، والحكمة السياسية، والأحساس بالمسؤولية أتجاه وطنه وشعبه، وحسب فهمي المتواضع في محاولة منه لأنقاذ ما يمكن أنقاذه، وعدم أستفحال الوضع في داخل العراق إلى حرب أهلية، فلهذا جاءت مقالته توفيقية ومبتورة لا تنطبق على واقع تاريخ العراق المعاصر من خلال العرض السريع الذي طرحه، فبأعتقادي أن السياسة الطائفية في العراق ولدت مع ولادة الدولة العراقية الحديثة وهي لم تك أبداً من صنع صدام حسين على الرغم من برزوها على السطح بشكل مأساوي خلال حكمه. وأن الشخصيات السياسية التي تناولها الأستاذ زهير في القسم الاول من مقاله سواء كانت من أصول كوردية أو تركية ، مسيحية، يهودية، خلال فترة الحكم الملكي أو من أتباع المذهب الجعفري لم تكن تمثل أبداً الفئات والعناصر المكونة لنسيج المجتمع العراقي، بل كانت لها حضور قوي كأفراد أو مجموعات صغيرة مشتغلة في السياسة وغالبيتهم من الضباط والسياسيين الذي لعبوا دوراً بارزاً لصالح الأنكليز في حربهم ضد العثمانيين أبان الحرب العالمية الأولى، ومن ثم لتثبيت دعائم سلطة الاستعمار الإنكليزي . لا أريد هنا الدخول في التفاصيل المملة لكثرة تكرارها، لا سيما المتعلقة بالمسألة القومية في العراق، لكن السياسة الطائفية في العراق تحتاج لاكثر من وقفة تأمل وتبصر، وما تفضل به الاستاذ زهير هو تبسيط بشكل كبير لما جرى بحق شيعة العراق، ولا يجب أن تمر هذه السياسة المقيتة هكذا بدون دراسات معمقة، ليس فقط لرفع الغبن الذي لحق أتباع الشيعة الاثني عشرية، بل للذهنية التي مارست تلك السياسات البغيضة ومبرراتها، لأخذ العبر وأستنباط الدروس منها لعدم تكرار ما جرى، ولتعم ثقافة التسامح في العراق الذي ننشد بعيداً عن كل اشكال التفرقة العنصرية والطائفية، ولهذا سأعيد نشر مقال لي كنت قد كتبته ونشر قبل ما يقارب العام في جريدة الاتحاد الكوردستانية وفي بعض مواقع الانترنيت، من سقوط ما لم ينطبق عليه مصطلح غير الذي أطلقه الراحل هادي العلوي رئيس عصابة نعم هذا الأسم فقط يليق بصدام، وفي العرف المافيوي الأيطالي يطلق على هذا النوع من البشر ب العراب لكن الفرق الوحيد بين الحالتين هو أن صدام أستلم زمام دولة وأرض يمتد تاريخ حضارتها إلى أكثر من سبعة آلاف سنة، ومارس جرائمه بأسم الشرعية الدولية كرئيس دولة، بينما تتمركز المافيات في العالم في بعض المناطق من بلدٍ معين وتتشكل من مجموعات صغيرة تعمل تحت الارض وهي ملاحقة من قبل السلطات المحلية والعالمية .
السياسة الطائفية في العراق
والتستر عليها تحت شعار الوحدة الوطنية
إن السطور اللاحقة التي تخوض في بعض الجوانب البغيضة للسياسة الطائفية في العراق هي
محاولة لإلقاء الضوء عليها، وعرض موجز لهذه السياسة التي دفعت بالعراق بلداً وشعباً إلى هاويات سحيقة، ومتاهات حتى بات على الذين يتألمون لوضع العراقيين، ولا يدرون ما الذي أصاب هذا البلد العريق في القدم والحضارة، والغني بثرواته الطبيعية والمائية وخصوبة أراضيه التي تعتبر من أخصب الأراضي في العالم، والتي تحتضن رفات الإمام علي بن أبي طالب في النجف، وسيد الشهداء الحسين بن علي والعباس في كربلاء وموسى الكاظم وحفيده محمد الجواد في الكاظمين في بغداد وعلي الهادي وإبنه حسن العسكري في سامراء. لكن أبناء العراق يعرفون أين تكمن العلة.... وقف أبناء العراق عراة وحيدين في مجابهة أولئك الحكام الذين مروا في تاريخ العراق تاركين بصماتهم التخريبية هنا وهناك في ربوع هذا الوطن الذي تلاقفته الأيدي الطامعة لقمة دسمة تشبع مطامع حماة الذين تربعوا في عاصمة المنصور والرشيد في دار السلام في بغداد، وسمحوا لأنفسهم أن ينطقوا بإسم الطائفة السنية ويمثلوها في الحكم، ومارسوا أبشع أنواع التمييز الطائفي ضد شيعة العراق وتحت مسميات شتى من إلصاق تهمة الشعوبية بهم إلى آخر قائمة الاتهامات التي طالت كل من أبى على نفسه السير في قافلة الموت والدمار التي ساروا فيها بخطى حثيثة إلى النهاية المفجعة التي يعاني منها العراقيون قاطبة . والمتتبع لتاريخ الأنظمة التي حكمت العراق، والتي تنتمي إلى عائلة الطغيان الكريهة يدرك الطبيعة الاستبدادية، والأساليب الحديثة المبتكرة والفريدة من نوعها التي أداروا بها دفة الحكم، حتى باتت مثالاً يُحتذى به أعضاء تلك العائلة البغيضة، وصوروا للآخرين بأن السياسة التي مارسوها ضد شيعة العراق ووضعهم على هامش الأحداث هي من أجل حماية البلد من التدخل والمطامع الأجنبية وخاصة إيران، وكان شعار الوحدة العربية الذي رفعوه هو السيف المسلط على رقاب العراقيين ليذبحوا به كل من وقف في وجه تلك السياسة الرعناء بمن فيهم أبناء الطائفة السنية. إن السياسة الطائفية في العراق من الموضوعات الملحة التي تنتظر الحل العادل في عراق المستقبل، ولشدة الحساسية من قبل الكثير للخوض في تفاصيل هذه السياسة الخبيثة والخوف من تناولها على الملأ، ما دفع الباحث العراقي حسن العلوي أن يفرد عدة صفحات في مقدمة كتابه الشيعة والدولة القومية في العراق 1914 1990 شارحاً الجوانب الإيجابية لكتابة مثل هذه الدراسات والكتب التي تعالج خطورة السياسة الطائفية في العراق. يقول : ولم تحظ الظاهرة الطائفية إلا بقليل من اهتمام الباحثين بسبب الاعتقاد المنتشر في الوسط الثقافي بأن أحداً يتورط في هذه الكتابة لا يستطيع أن يخرج منها دون تهمة. إذ جرى العرف على اعتبار الإسهام في إدانة التمييز الطائفي إسهاماً في العمل الطائفي .
ونحن أيضاً على قناعة تامة بأن المسألة الطائفية في العراق لم تحظ بالقدر الكافي من البحث والدراسات من لدن الأوساط العراقية والعربية المثقفة، وتشخيص أبعاد هذه السياسة الخطيرة، بحجة الخوف من تفتيت نسيج المجتمع العراقي والحرص على الوحدة الوطنية، ومن المحاولات الجادة للتصدي للنهج الطائفي وتمذهب الدولة العراقية هو الجهد الكبير والملحوظ الذي بذله الأستاذ العلوي في كتابه الآنف الذكر، حيث يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب وقد تكون مشكلة هذا الكتاب أن صدوره قد تأخر سبعين عاماً .
وقد حاول البعض من الكتاب والسياسيين العراقيين تبرير هذه السياسة الطائفية بأنها من صنع نظام الحكم الحالي، وأن سياسة صدام الدموية طالت جميع مكونات الشعب العراقي، وأن هذه الحالة الشاذة مرهونة بزوال نظام الحكم، وعلى الرغم من صحة مثل هذه التصريحات والكتابات في بعض الجوانب، لكنها تمارس في الوقت ذاته تضليلاً متعمداً لمدارك العامة من الناس، والتاريخ العراقي المعاصر والحديث يثبت لنا بأن سياسة التمييز الطائفي لم تكن وليدة سياسة صدام حسين على الرغم من بروزها على سطح الأحداث بشكل بارز وحاد، بل تمتد جذورها إلى بدايات تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وأنها جاءت ملبية لطموحات المستعمر البريطاني الذي إعتمد في إدارة حكمه في العراق على تلك النخبة من الضباط السنة الذين خدموا في الجيش العثماني وتشربوا بمفاهيمها، ليديروا دفة الحكم بذات السياسة الطائفية التي إنتهجها الترك العثمانيون السنة التي ضربت أوتادها عميقاً في مفاهيم تلك النخب الحاكمة، وعلى الرغم من الويلات والكوارث التي لحقت بالعراق نتيجة تلك السياسات الشوفينية والطائفية المنهج والمسلك، والتي مارستها أنظمة الحكم المتعاقبة على حكم العراق بأشكالٍ متفاوتة، وإن لم تبدُ ملامحها واضحة للعيان للوهلة الأولى، فلا يزال أصحاب الرأي الذين ذكرناهم ينفخون في نفس البوق على صفحات الجرائد والمجلات محاولين بائسين تجميل الوجه القبيح لسياسة التمييز الطائفي ضد أبناء الطائفة الشيعية في العراق بحجج شتى ورمي اللوم كله على نظام صدام.
أوجدت السياسة التركية العثمانية الطائفية شرخاً كبيراً في جسد المسلمين العراقيين، سواء في تطبيقها العملي في حكم العراق أو من خلال إعلامها الذي مارس نوعاً من غسيل الدماغ لرعاياه من المسلمين السنة. حيث يذكر المؤرخ المعروف الأستاذ عبد الرزاق الحسني في مقدمته لكتاب أصل الشيعة وأصولها في طبعتها الرابعة عشر لمؤلفه سماحة الإمام المصلح محمد الحسين آل كاشف الغطاء : وكنت وأنا أتجول في لواء الدليم أسمع عن الشيعة وعن عاداتهم وأوصافهم الخلقية ومصيرهم بعد الموت ما لا يكاد يخرج عن أساطير ألف ليلة وليلة وأحلام قمر الزمان وشهرزاد مع أن مساكن الشيعيين في الفرات الأوسط لا تبعد عن مساكن إخوانهم السنيين في لواء الدليم إلا ببضعة أميال .(1)
فمثل هذا التصور الفظيع في مخيلة العامة من الناس لأبناء جلدتهم لم يأتِ اعتباطاً أو في ليلة وضحاها، بل إنها حصيلة تراكمات لممارسة سياسة طائفية للترك العثمانيين استمرت لعدة قرون. بلغت السياسة الطائفية للترك العثمانيين حد إهمال مدن العتبات المقدسة في العراق، وكانت مدينة النجف التي تضم رفات الأمام علي بن أبي طالب تشكو من شحة المياه على الدوام دون أن يحرك العثمانيون ساكناً، مما دفع الشاه إسماعيل الصفوي بعد الاحتلال الصفوي بأن يأمر في حدود عام 1527 بشق قناة لنقل الماء من الحلة إلى النجف، لكن هذا المشروع لم يحل شحة المياه في النجف. ولكي تكون الصورة أوضح أرى أنه من المفيد أن نورد ما ذكره الباحث إسحاق نقاش في كتابه شيعة العراق : ويتجلى وضع النجف اليائس حينذاك في عريضة لربما أرسلها أحد سكان المدينة إلى الحاكم العثماني سنان باشا الذي أحالها بدوره إلى السلطان مراد الثالث ( توفي في 1594 ) . فلقد شكا صاحب العريضة مجهولة الهوية من تعرض المدينة إلى هجمات العشائر المتكررة ومعاناتها بسبب النقص الحاد في الماء. وأن افتقارها إلى الأمن والإمدادات المنتظمة من الماء أجبر الناس على الرحيل عنها. ففي حين كانت هناك في الماضي ثلاث آلاف دار مأهولة لم يبق فيها إلا ثلاثون داراً في أواخر القرن السادس عشر. وكان من بين الذين بقوا خطيب الجمعة وإمام صلاة الجماعة وسدنة الحضرة وخدامها مع قلة من الأفراد الآخرين. وعلى ما يبدو، مناشدة لشق قناة تنقل الماء إلى النجف من الفرات، وإصلاح سور المدينة . فمن خلال هذه الرسالة نستشف الطبيعة الطائفية للعثمانيين الذين لم يظهروا الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية اتجاه رعاياه المسلمين الشيعة، وبقيت مدينة النجف تشكو من قلة الماء ولم تعد إليها الحياة إلا بشق قناة الهندية من الفرات التي مولت من دولة أوذة الشيعية في الهند .
كما ولاحقت تهمة الشعوبية شيعة العراق، لا لغاية في نفس يعقوب، بل للتشكيك بعروبتهم فالشعوبية كما هو معروف مصطلح شاع منذ العصر العباسي أطلق على الأقوام غير العربية الذين دخلوا الإسلام واصطدموا مع المسلمين العرب حول شئون الحكم .
بينما شيعة العراق الذين يقدر عددهم ب 12 مليون نسمة من أصل عشرين مليون،(2 ) تعود أصولهم إلى الهجرات الأولى مع موجة الفتح الإسلامي، وما تلتها من هجرة القبائل التي لم تنقطع إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهم من بطون القبائل العربية في الجزيرة العربية كقبيلة ربيعة وبني أسد وبني ومالك والياسري والأنصاري والعامري والزبيد والخزاعل والزيدي وأقسام من الجبور والشمر وغيرها كثيرة وهذا لا يعني بأنه لم تكن هناك قبائل عربية قبل الإسلام في العراق، ومنها على سبيل المثال المناذرة في الحيرة التي تنتمي إلى قبيلة لخم العربية، وغيرها وحطت الرحال على ضفاف الفرات وقناة الهندية وفي المنتفق وفي مناطق الأهوار جنوب العراق، وتشيعت فيما بعد، بالإضافة إلى القبائل التي قدمت مع الإمام علي بن أبي طالب بعد نقل عاصمة الخلافة الإسلامية إلى الكوفة، وطبقة السادة منهم تنتسب إلى أسرة الرسول محمد وعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول. فتصور مدى الخبث الذي ترمي إليه تلك الأنظمة بإلصاق تهمة الشعوبية بشيعة العراق لتوحي للآخرين بأن هؤلاء ليسوا عراقيين وعرباً، بل إيرانيين، لتبرر نفسها من الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها بحق العرب العراقيين الشيعة الذين رمى بالكثير منهم إلى خارج الحدود، إلى إيران بتهمة التبعية الإيرانية بغض النظر عن تهجير ما يقارب نصف مليون من الكرد الفيليين الشيعة بذات التهمة .
وعلى الرغم من التناقضات والسياسات المختلفة الأوجه بين الانقلابيين الذين جاءوا إلى دست الحكم سواء في العراق الملكي أم لاحقاً في العراق الجمهوري باستثناء فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم القصيرة، ظل هاجس تلك الأنظمة من أن تكتسحهم الأكثرية الشيعية لو سمحوا بالقليل من الديمقراطية، لذا كان التمييز الطائفي يمارس بحق الشيعة ضمن برنامج مدروس بعناية ودقة، وإنها ليست حالة طارئة مقرونة بطبيعة هذا النظام أو ذاك ومزاج الحاكم، وكأن الغاية للوصول إلى كرسي السلطة هو من أجل اضطهاد هذه الشريحة من أبناء العراق، وللحوؤل بينهم وبين صنع القرار في سياسة العراق وخاصة الخارجية، بينما لم يكن شيعة العراق ينظرون إلى مجريات الأمور بنفس المنظار الطائفي لهؤلاء الحكام، فالزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان ينحدر من أب عربي وسني ولأنه لم يتلوث بداء الطائفية حاول جاهداً القضاء على هذا المرض الخطير الذي ينخر جسم العراق، فكانت الجماهير الشيعية هي السند والظهير لحكمه الذي تكالبت عليه تلك القوى الطائفية من الداخل وبمساعدة القوى الخارجية، لأنهم رأوا في سياسته شيئاً غير مألوف في حكم العراق، ولم نلحظ بأن حاول شيعة العراق النيل من الزعيم أو حبك المؤامرات ضده لاستلام السلطة. ومما زاد من حنق تلك الأنظمة على شيعة العراق هو عدم إمكانيتهم من نزع فتوى من المراجع الشيعية العليا لضرب الحركة التحررية الكردية والقضاء عليها .
وساعدت القوى الخارجية كبريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما لديها من الإمكانيات المخابراتية ووسائل إعلامها لوضع الحكم بيد الأقلية السنية في حكم العراق لتحافظ على مصالحها الحيوية في المنطقة وفي العراق على وجه التحديد ليستمر تدفق النفط إليها دون عرقلة تذكر، ولإدراك هذه القوى بأن الأقليات لا تستطيع أن تحافظ على وجودها وديمومة سلطانها في البلدان المتنوعة الأعراق والأديان والمذاهب دون الرجوع والاعتماد عليها لتستمد منها قوتها والارتماء في أحضانها . فلا ندري أيهما الذي يعمل في خدمة الأجنبي. هؤلاء الحكام أم شيعة العراق ؟
ومن هنا جاءت أيضاً عدم استطاعة إيجاد حل مرضٍ للمعضلة، وتأخر العملية الديمقراطية في ا لعراق، وتصاعد وتيرة الاضطهاد والقمع كلما طالب الشيعة بحقوقهم ومعاملتهم كمواطنين أسوة بإخوانهم من الطائفة السنية، دون تمييز وتصنيفهم إلى درجات .
ففي العهد الملكي وعلى مدى 38 عاماً وخلال 59 وزارة لم يشغل الشيعة رئاسة الوزارة سوى خمس مرات أمضوا فيها 23 شهراً فقط . (3) علماً وكما ذكرنا فإن غالبية الشعب العراقي هم من الطائفة الشيعية . وحين تم تشكيل أول حكومة مؤقتة في العراق التي عهد برئاستها إلى شخصية عربية سنية هو عبد الرحمن النقيب لم تضم تلك الحكومة إلا شيعياً واحداً، بينما ضمت الوزارة يهودياً للمالية وآخر مسيحي للصحة . ويقول الفكيكي : وقد حرص السعيد ( يقصد نوري السعيد رئيس الوزراء المزمن ) دائماً على توثيق صلاته بالجيش وضباطه ورعايتهم لدعم نفوذه السياسي وحماية الهوية الطائفية للسلطة . (4)
ومن أبرز رموز الطائفية أبان العهد الملكي هو ساطع الحصري الذي عمل كمنظر للقومية العربية، ولا يحتاج أي باحث لجهد كبير ليلمس دوره التخريبي في بث المفاهيم التي كانت تتفق والمصالح التركية والبريطانية، وقد وضع حجر الأساس لهذا البنيان المشوه الذي بنت عليها الحكومات اللاحقة هرم سياساتها التي شوهت منظر هذه البقعة الجغرافية التي شّرعت أولى القوانين في العالم لخدمة الإنسان شريعة حمورابي ليصبح العراق فيما بعد على يد هؤلاء الحكام، الأول على لائحة الدول التي تخترق حقوق الإنسان، وموقف الحصري من الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري من أجل قصيدة تغنى بها في جمال الطبيعة في إيران بعد زيارته لها، وفصله من وظيفته واتهامه بالشعوبية لها دلالتها الواضحة، للهامش الذي يسمح به للمثقف الشيعي أن يدلو بآرائه والبوح بها . لكن السياسة الطائفية آنذاك كانت تمارس ضمن سياسة هادئة يبذل فيها جهد ملحوض كي لا تطفو إلى السطح حيث النور الذي يكشف زيف الادعاءات والشعارات التي كان هؤلاء السياسيون يتبجحون بها لبناء مستقبل العراق المستقر والموحد .
بينما عرف عن رئيس الجمهورية العراقية عبد السلام عارف الذي أستلم زمام السلطة بعد انقلابه الثاني على البعثيين في 18-10- 1963 ، أحد أكبر رموز الطائفية في العراق الجمهوري وكان يمارس طائفيته بشكل علني وصارخ دون يأبه لمشاعر الملايين من أبناء الشيعة، (5) وبرز عبد السلام كحاكم طائفي لا ينازعه أحد من قبل، ففي إحدى الاجتماعات لما يسمى بمجلس قيادة الثورة . وكان جميع أعضائه قد حضروا مكان الاجتماع في القصر الجمهوري إلا محسن الشيخ راضي وهو شيعي من النجف حيث كان الجميع ينتظرون قدومه لبدء الاجتماع، فما كان من عارف إلا أن بادر الحاضرين قائلاً : ( لماذا ننتظر هذا العجمي ؟ دعونا نبدأ الاجتماع ) . (6) وفي حادثة أخرى مشابه يذكر هاني الفكيكي عن عبد السلام : ونظرة عبد السلام إلى الأكراد لم تكن أفضل حالاً من نظرته إلى المسلمين الشيعة، إذ كان يردد باستمرار كلمة الشعوبية بالمعنى والقصد اللذين كان يستعملهما بعض الطائفيين في محاربتهم لعرب العراق الشيعة، وأذكر أننا، محسن الشيخ راضي وأنا، وصلنا مرة متأخرين إلى جلسات مجلس قيادة الثورة فقال عبد السلام : جاء الروافض، وكان يقصد بذلك أننا شيعيان . (7)
حُرم شيعة العراق من التوظيف في المراكز العليا والحساسة في الجيش والوزارات فعلى سبيل المثال لم نلحظْ أن تسلم شيعي وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع وحتى رئاسة أركان الجيش لم يكن من الشيعة من تقلد هذا المنصب إلا في فترات محدودة جداً وفي هذا الصدد يقول العقيد الركن أحمد الزيدي ، من أهم المعضلات والآفات التي تنخر في روح وعزيمة القوات المسلحة العراقية وركائزها الأساسية الطائفية، فهي تمارس في الجيش بصورة تكاد تكون علنية، ولا يحتاج إلى جهد كبير لمعرفة المدى الذي وصل إليه التمييز الطائفي داخل القوات المسلحة، فلقد ظلت القيادات الرئيسية داخل القوات المسلحة دوماً بعيدة عن أيدي الضباط الشيعة في كل العهود، كرئاسة أركان الجيش وقيادات الفرق والألوية الرئيسية والمناصب الهامة في وزارة الدفاع، إلا نادراً . (8)
وعلى الرغم من إن نسبة الشيعة داخل القوات المسلحة وخاصة في الوحدات الفعالة تصل أحياناً إلى 85 % فإن نسبة الضباط لا يتعدى 20 % . وفي مسح للدورتين 44 و 45 من الكلية العسكرية في عهد الأخوين عارف، كانت الخارطة الاجتماعية للدورتين كما يلي : 20 % من التلاميذ الشيعة من مختلف المحافظات، 45 % من الموصل، 15 % من الرمادي، 10 % من بغداد من مناطق السنة 10 % أكراد ومسيحيين ويزيديين وتركمان، ولم يكن ذلك يتناسب مع حجم أبناء الطائفة الشيعية التي تشكل في مجموعها أكثر من 60 % من سكان العراق، وفي مسح للدورتين 57 و 58 في حكم حزب البعث العراقي، كانت النسبة مقاربة إلى النسبة التي كان يتم القبول على ضوئها في عهد الأخوين عارف . (9)
لم يسلم شيعة العراق من التمييز الطائفي حتى أولئك الذين انخرطوا في صفوف حزب البعث العراقي وعلى مستوى القيادة . يعترف الفكيكي في كتابه أوكار الهزيمة بأنه لم يتجرأ على مقابلة العالم الديني وإمام الشيعة ومجتهدهم السيد محسن الحكيم عند زيارته الكاظمين في بغداد، بطلب من الإمام نفسه مقابلة أعضاء من الحكومة الجديدة أي انقلابيي شباط 1963 . يقول : كنا نخاف أن نتهم بالطائفية . فإلى أي مدى كانت السياسة الطائفية تمارس من قبل السلطة ؟ لتجعل الشيعي وهو في موقع قيادي أن يهاب ممارسة مهامه أو التعبير عن الظلم الذي يقع على أبناء جلدته وطائفته في آن .
ولكي نفهم عقلية هذا الطائفي الكبير عبد السلام الذي مر بتاريخ العراق المعاصر مرور أسراب الجراد في الحقول، ونقلاً عن هديب الحاج حمود الذي كان وزيراً للزراعة أبان حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وحسب العديد من المصادر التاريخية. في عشية ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، أباح له عبد السلام : عند استلامنا السلطة علينا استئصال، الكرد ، والمسيحيين، والشيوعيين . فبهذه العقلية الظلامية حكم هؤلاء الحكام بلداً كالعراق الذي يعتبر البوابة الشرقية للعالم العربي ، والمخيبة لآمال الملايين من أبناء العراق بعد إغراقهم ببحار من الدماء بديماغوجية لم تقنع حتى الذين ساروا في ركاب تلك الرحلة الدموية، فلا عجب أن تأتي مذكرات الكثير من هؤلاء القادة فيما بعد تنضح بالمرارة واليأس من تلك السياسة الهوجاء، لكن بعد فوات الآوان .
وكذلك بالنسبة لأحمد حسن البكر رئيس الجمهورية العراقية بعد انقلاب 17-07- 1968 الذي لم يحدْ عن النهج الطائفي المترسخ في إدارة حكم العراق لخدمة المصالح الغربية وإرضاءٍ لتركيا العضو الفعال في حلف الناتو. لكنه كان يمارس طائفيته بشكل مخفي ويتستر عليها على العكس من سلفه عبد السلام ، ويروي العقيد الركن أحمد الزيدي عن طائفية البكر عشرات الأمثلة في كتابه البناء المعنوي للقوات المسلحة العراقية ومنها باختصار : ذات مرة وفي أحد شوارع بغداد أنقذ أحد الضباط امرأة من سائق تاكسي يحاول اغتصابها، فسمع البكر بهذه القصة فأرسل على الضابط الشهم كي يثني عليه ويكرمه على عمله هذا، وبالفعل أحضر الضابط أمامه، سأله البكر ما أسمك؟ أجابه الضابط : سيدي أسمي علي. سأله من أي المحافظات أنت ؟ أجابه الضابط : بأنه من إحدى المحافظات التي يقطنها أهل السنة. فقال البكر، اعتقدت بأنك شيعي عندما قلت لي بأن أسمك علي، ولكنني عرفت بأنك لست منهم صدق حدسي، فهؤلاء يقصد الشيعة لا يمكن أن يقوموا بعمل شريف كهذا أبداً لأنهم لم يتربوا على الشرف والكرامة . هكذا رؤساء حكموا العراق !!! .
وفي ظل انقلابيي 17 تموز وصل التمييز الطائفي وخاصة في القوات المسلحة لدرجة إضافة فقرة جديدة للاستمارة السرية التي يجب على الضابط أن يملأها كل ستة أشهر، وهي الانتماء المذهبي، أي أن يكتب الضابط هل هو شيعي أم سني ؟ بينما كانت الاستمارات من قبل تقتصر على حقل الديانة والقومية فقط . (10)
أما بالنسبة إلى وضع الجماهير الشيعية في عراق صدام حسين لا يماثله وضع على مدى تاريخ العراق، غير عهد حكم بني أمية على أيدي الجبروتين زياد أبن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفي .
دشن صدام حسين حكمه بشن الحرب على إيران الجارة المسلمة للعراق، بحجة الخوف من تصدير الثورة، أي ثورة الشعوب الإيرانية التي قادها الإمام الخميني ضد أحد أعتى الأنظمة رجعية وعمالة في المنطقة للغرب ألا وهو نظام الشاه، فكانت محرقة تلك الحرب المجنونة التي يصعب على العاقل تبريرها بحجج النظام الواهية تلتهم العراقيين والإيرانيين على السواء، لكن اللافتات السوداء التي كانت تتدلى من على أسطح منازل العراقيين، وهي علامة التعزية بفقدان أحد أفراد الأسرة تملأ شوارع العراق طولاً وعرضاً وفي كل الاتجاهات وأينما ذهبت، وخاصة في وسط وجنوب العراق حيث تواجد الطائفة الشيعية، تلك الأعلام التي كانت تبوح وتكشف محاولات النظام لإخفاء بشاعة وجهه القبيح، تحت شعار إعادة الأراضي والجزر العربية المغتصبة، طنب الصغرى ، وطنب الكبرى، وأبو موسى، والمحمرة، وعبادان والحق العراقي والعربي في شط العرب جنوب العراق ، الذي تنازل صدام بنفسه عن نصفها لشاه إيران في اتفاقية الجزائر المخزية عام 1975 لإجهاض الثورة الكردية . ولا أدري ، هل هناك من ينكر عراقية وعروبة شط العرب ؟ .
وكانت تلك اللافتات تنذر في ذات الوقت بالشؤم الذي سيلاحق العراقيين، والذي توّجها في معركة أم الهزائم .
وقد قام نظام صدام إرضاءٍ لهواجسه التي تقلق مضجعه بإعدام العالم الشيعي المعروف في الأوساط العلمية في العالم أجمع محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وطالت الإعدامات الآلاف من خيرة أبناء وبنات هذه الطائفة المغلوبة على أمرها بحجة الانتماء إلى حزب الدعوة أو الحزب الشيوعي العراقي أو عدم المشاركة في قادسيته المشؤومة، ولم يكتفِ النظام بهذا، بل امتدت أصابع الغدر لتغتال العالم الشيعي محمد مهدي الحكيم في أحد الفنادق في السودان، وكذلك أغتال النظام في داخل العراق العالم الشيعي البارز آية الله محمد صادق الصدر مع أثنين من أبنائه، وقتل سبعة عشر من أبناء وأحفاد المرجع الشيعي الأعلى السيد محسن الحكيم داخل العراق وخارجه، والقائمة تطول .
وباشر النظام بمنع المراسيم الحسينية التي تنظمها الطائفة الشيعية في محرم أحياءٍ لذكرى سبط الرسول الأمام الحسين الذي أستشهد في واقعة كربلاء على يد جيش يزيد بن معاوية، وهذه المراسم ذات طابع ديني، التي لم يتجرأ أحد في العهود الماضية على منعها، مما يدل على الحقد الطائفي لهذا النظام ضد كل ما هو شيعي .
وفي خلال انتفاضة آذار عام 1991 فقد نظام صدام السيطرة على أربع عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة محافظة، وقد وصف صدام المحافظات الأربع الباقية التي لم تشترك في الانتفاضة بالمحافظات البيضاء، أي أن بمعنى أن باقي أبناء الشعب العراقي، وهم الغالبية المطلقة دخلوا في لوائح النظام السوداء . (11)
لم تقتصر السياسة الطائفية على رؤساء الدولة في العراق ووزرائهم، بل تمارس بشكل مدروس ومبرمج من قبل النخبة الحاكمة ككل من أعلى سلطة في الدولة نزولاً إلى المسؤولين وكبار الضباط الذين ترتبط مصالحهم الطبقية والطائفية بمصالح الدكتاتور وعائلته .
يذكر الكاتبين ( أندرو كوكبورن وباترك كوكبورن ) في كتابهم صدام الخارج من تحت الرماد فقد أكد لنا مصدر سري عراقي مطلع من أعلى المستويات في القوات المسلحة العراقية حينها، بأنه كان في الواقع، مخططاً دقيقاً من قبل ضباط كبار للقيام بانقلاب عسكري منذ أمد، أثناء الحرب وبعدها، لكن أعيق المتآمرون من تنفيذ المخطط باندلاع الانتفاضة الشيعية ( هكذا يسمونها ) اعتقدوا بأنه من المناسب، في هذا الوقت بالذات، الالتفاف حول صدام
وهذا يؤكد بأن النهج الطائفي في العراق لم تكن وليدة سياسة صدام، بل هناك خط مستقيم تسير عليه النخبة من الطائفة السنية، للاستئثار بالحكم، وبالنتيجة هي حماية المصالح الغربية التي هي مفتاح الأمان لبقائها في السلطة، فهؤلاء الضباط فضلوا البقاء والالتفاف حول صدام على أن يفلت زمام الحكم من أيديهم لتقع بيد الشعب لتنتخب من يخدم مصالحها ومصلحة الوطن، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ العلوي في كتابه الآنف الذكر ففي بلد لم يعرف الاستقرار كانت الطائفية الظاهرة الوحيدة المستقرة . وفي بلد يفتقر إلى التقاليد السياسية والدستورية كانت الطائفية تقليده الثابت ودستوره الدائم . وقد أخذت من القداسة لم يأخذه الدستور .
شاهد العالم أجمع من على شاشات التلفزيون الأسلوب الوحشي الذي تميز به النظام الدكتاتوري في العراق عن باقي أقرانه، في قمع انتفاضة الشعب العراقي ضد نظامه الدموي الذي قل نظيره على مدى تاريخ البشرية، والذي قتل خلالها أكثر من 300,000 ألف إنسان، ومن خلال الأسلوب الهمجي لقمع الانتفاضة سقط عن وجه صدام آخر الأوراق التي كان يخفي بها وجهه البشع وكشف زيف شعاراته الرنانة التي يتبجح بها حول العروبة والوطن والعراقيين ( الأماجد ) . وإلا كيف نفسر رمي البنزين من المروحيات على الهاربين العزل من النساء والأطفال في حصار مدينة كربلاء من قبل الحرس الجمهوري ، ومن ثم إطلاق العيارات النارية الحارقة عليهم لتبيدهم حرقاً، وإن تلك الجموع البشرية التي أبيدت لم تشترك في الانتفاضة، فمثل هذا العمل الإجرامي لا ينبع إلا من حقد طائفي كبير كان النظام يختزنه لساعة كهذه حيث أختلط الحابل بالنابل . والأدهى من ذلك هو قيامهم بتسجيل أعمالهم الوحشية المقيتة على أشرطة فيديو وعرضها لغرض تشجيع وتقوية مؤيديهم وإخافة مناهضيهم . (12)
يصور الفيلم الذي عرض في آذار من العام 1991 علي حسن المجيد ( علي كيمياوي ) أبن عم صدام ، يبدي القليل من الرحمة في معاملته للمسلمين الشيعة كالتي أبداها من قبل للأكراد، يصدر أوامره لأحد قوّاد الطائرات المروحية العراقية وهو في طريقه لمهاجمة الثوار المستولين على جسر : لا تعود حتى تخبرني بأنك قد أحرقتهم عن آخرهم، وإذا لم تحرقهم فالأفضل ألا ترجع مطلقاً . (13)
كما لم نلاحظ أن تفوه نظام استبدادي مهما تكن درجة حقده على أبناء شعبه مثلما نفح إعلام صدام سمومه ضد الجماهير الشيعية في العراق بعد إخماده للانتفاضة، بهذه الدرجة من السوقية في خمس مقالات على صفحات الجريدة الرسمية الناطقة بلسان حزبه، مأخوذاً بنشوة النصر ناسياً بأن هناك انتصارات أشد عاراً من الهزائم، وعلى الرغم من تهيبنا من ذكر مقتطفات من تلك الكتابات الرخيصة التي لم تحافظ على الحد الأدنى من القيم والأخلاق التي من المفروض أن يتحلى به أي نظام مهما تكن درجة أجرامه وحقده، لكني لا أجد مناصاً من إيراد بعض الجمل لندرك معاً أي نوع من الأنظمة هذه التي ابتلى بها العراق والعراقيين وأي بلاء ينتظرنا طالما بقي هذا الطاغوت متربعاً على عرش الحكم . قال والكلام موجه إلى حرائر العراقيات في جنوب العراق ويعني بالذات عرب الأهوار : تكشف المرأة عن عورتها وهي تقود المشحوف أو عندما تترجل منه إلى الماء الضحل وفي مكان آخر : وتتحول حالة الحقارة والضعة في الحياة الاجتماعية والممارسات إلى سلوك متدن خطير عندما يتاح أمامهم ما تستطيع النفس أن تفعله بدون وازع ضمير أو حصانة تربوية
فليس غريباً أن نسمع مثل هكذا كلام، ألم ينطق سلفه أحمد حسن البكر بكلام مشابه في حادثة الضابط الذي أشرنا إليه أعلاه، ويسترسل في إظهار حقده وعجرفته حداً لا يستطيع أي إنساناً سوي أن يهتدي إلى الخيوط العنكبوتية التي تعشعش في تجاويف هذه العقلية الهمجية، وقال أيضاً : أن هذا النمط قد ابتلى بعقدة الجوع والمال ولا يسألون أحداً من أفراد عوائلهم نساء ورجالاً وأطفالاً عن أي طريق يجمعون منه أموالهم، والعياذ بالله، وإنما كل الذي يهمهم هو أن يأتي أحد إلى البيت في نهاية النهار وهو خالي اليدين من دراهم لا ترضي كبيرهم . فأي عقدة تتلبس هذا النظام بأجمعه لحمل كل هذا الحقد والاستهتار بمشاعر وأحاسيس الملايين من أبناء العراق . فهل تكفي الطائفية وحدها ؟ إلى القول : وليس من الغرابة أن نجد غائط الحيوانات يعلق في جبهات أطفالهم النيام أو نجد الجاموسة تبرك على أحدهم وهو نائم فتقتله (14) . والحالة هذه نحن أمام نظام لا ينتهج التمييز الطائفي في حكم العراق وحسب، بل تتعداه إلى حالة من الحقد والانتقام والتشفي وممارسة الإبادة الجماعية بحق البشر وانتهاج سياسة الأرض المحروقة بحق شيعة العراق، وخاصة إذا ما تأملنا الوضع المأساوي الذي وصلت إليه مناطق الأهوار بعد تجفيفها بحجة مشروع النهر الثالث الذي طبلت له وسائل إعلامه بأنه مشروع إروائي سيحل مشكلة المياه وسيعود بالفائدة العظمى على أبناء المنطقة، بينما الحقائق على أرض الواقع تكشف لنا أبعاد الخطة الخبيثة التي خطط لها النظام، للقضاء على الحياة في هذه المنطقة التي يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة وانطلقت منها أولى الحضارات في العالم، حضارة سومر، وتعتبر الأهوار من المناطق المحمية في العالم بموجب القرارات الدولية بشأن حماية البيئة، وكانت الأهوار غنية بالحياة وتحتوي على قدر كبير من الثروة السمكية التي كانت مصدر الرزق الرئيسي لسكان الأهوار، وفيها من الحيوانات والطيور النادرة في العالم، وكانت الأهوار تغطي أكثر من مائة ألف كيلومتر مربع، أما الآن لم تبق منها، ما يقدر ب 1500 كم مربع حسب المصادر المطلعة بشؤون المنطقة، فلم يكترث النظام لا بالنداءات من المنظمات الدولية ولا لحياة مئات الألوف من أبناء الأهوار الذين حرمهم من ابسط حقوق العيش، فالهاجس الأمني والحقد الطائفي هما اللذان كانا المهيمنان على التدابير الذي شرع النظام بتطبيقها، فكانت النتيجة هجرة السكان من المنطقة هائمين على وجوهم أمام خيارين كلاهما مرّ ، أما إلى إيران كلاجئين والعيش على المعونات التي تقدمها الدولة المضيفة التي لا تخلو من الذل، أو العيش في المجمعات القسرية التي شيدها النظام ذات النظام الصارم التي أشبه بالمعتقلات الكبيرة والشبيه بتلك التي أنشأها سابقاً لسكان القرى والأرياف الكردية بغية إفراغ الريف الكردي من ساكنيه بعد مجازر الأنفال السيئة الصيت .
وصف تقرير أعدته رسالة العراق هذه السياسة . تتعرض أرياف الجنوب إلى كارثة بسبب من السياسة الاروائية للدكتاتورية ذات الأهداف الأمنية البغيضة والرامية إلى إفراغ الريف من ساكنيه وصل حد التحكم حتى بمياه الشرب (15) . ومن خلال التقرير المعد بعناية فائقة نلمح أيضاً السياسة الطائفية تبرز بشكلها القبيح، حيث عمد النظام لإنشاء السدود الضخمة التي تستوعب عشرات المليارات من الأمتار المكعبة كسد بادوش ( سد صدام حسين ) قرب ناحية فايدة التابعة لمحافظة الموصل وسد الثرثار المعروف والمربوط بقناة مع سد سامراء والسد العظيم شمال بعقوبة . والعارف بجغرافية العراق يدرك أهمية مواضع هذه السدود ومواقعها والعشرات غيرها والغاية التي أنشئت من أجلها في تلك المناطق المختارة بعناية فائقة. وحسب الدراسات والتقارير عن مستقبل البشرية، تشير بأن منطقة الشرق الأوسط على جدول المناطق التي ستعاني من التصحر وقلة الماء في المستقبل المنظور، وخاصة بعد إتمام مشروع الغاب التركي في عام 2005 الذي سيتحكم بنسب المياه المتدفقة من دجلة والفرات إلى سورية والعراق، لكن الإجراءات التي باشر النظام باتخاذها لمواجهة المشكلة المائية المقبلة، لم يتخذ فيها جانب الحرص على مستقبل أبناء العراق بشكل عادل، وجاءت إجراءاته مكملة للنهج الطائفي الذي يقطع فيه الأشواط تلو الأخرى بسرعة جنونية تجعل المراقب للشأن العراقي يقف حائراً مشدوه الفكر لما يخبئه هذا النظام لمستقبل العراق وشيعتها، فسياسته الأروائية ليست نزيه بالمرة وغير عادلة في توزيع المياه بالتساوي على مناطق العراق من خلال تلك السدود التي ستضر بالدرجة الأولى أبناء الطائفة الشيعية في الجنوب .
ولا تزال السياسة الطائفية اللعينة مستمرة على قدم وساق في عراق صدام حسين، وأمام أنظار العالم المتحضر والعالم العربي الذي يتباكى على شاشات التلفزيون وعلى صفحات الجرائد على الشعب العراقي نتيجة الحصار الظالم الذي تفرضه أمريكا على شعب العراق، أما حصار النظام الدكتاتوري لأبناء شعبه وتجويعهم وتشريدهم وقتلهم عطشاً، فأنه يتماشى والسياسة المرسومة للمنطقة وكي لا تختل الموازين التي خلقتها أوهام الخيال العنصري والطائفي، لخوفٍ لا مبرر له ، والحديث ذو شجون .
ملاحظة :
أن ما نلاحظه ونلمسه اليوم وبعد أكثر من سبعة شهور من سقوط الصنم، وأستماتة دول الجوار لنسف اي محاولة لتثبيت حكم ديمقراطي في العراق، وتكالب قوى الشر من جميع أنحاء العالم المتمثلة بالجماعات السلفية والتكفير وتحالفاتها مع العصابة البائدة وبعض سكان المناطق العراقية المتشربة بالمفاهيم الطائفية، هو خير دليل على ما ذهبنا إليه، فلذلك لا يجب تناول هذا الموضوع الخطير بشكل عاطفي .
1 يعود هذا الرأي إلى الثلث الأول من القرن العشرين .
2 باستثناء الكرد الفيليين وسكان قضاء خانقين الكرد وما جاورها هم من الشيعة وقسم كبير من التركمان في محلة تسعين في كركوك وفي ضواحي المدينة وخاصة في طوزخورماتوا هم أيضاً من الشيعة ، وإذا استثنينا نفوس الكرد المسلمين السنة الذين يصل عددهم إلى أكثر من 70 % من سنة العراق العرب فالنتيجة واضحة ولا يحتاج إلى جهد كبير لمعرقة الخارطة المذهبية في العراق .
3 للاستزادة راجع لتأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق للباحث العراقي حسن العلوي .
4 أوكار الهزيمة تجربتي في حزب البعث العراقي هاني الفكيكي ص52 .
5 هناك مقولات متداولة على لسانه في الشارع العراقي ومنها على سبيل المثال، حين سئل عن جدوى الحرب الدائرة آنذاك في كوردستان ولم لا يحاول إيقاف هذا النزيف بين أبناء الشعب الواحد، أجاب وبكل ما يملكه الرجل من صلافة، وما يهمنا من تلك الحرب ؟ فوقودها هم عبد الزهرة وحمه ويعني بعبد الزهرة الشيعي وحمه هو الكردي . ولم ينسى العراقيين بعد مقولته الأخرى الشهيرة لا بد أن يحكم العراق المربع السني أي المحافظات السنية الأربع بغداد والرمادي والموصل وتكريت .
6 البناء المعنوي للقوات المسلحة العراقية العقيد الركن أحمد الزيدي ، ص83 .
7 أوكار الهزيمة تجربتي في حزب البعث العراقي هاني الفكيكي ص273 . جاء في المنجد في اللغة لتعريف الروافض : الرافضة فرقة من أصحاب الشيعة والنسبة رافضي، الفرقة من الروافض وهم الذين تركوا قائدهم في الحرب أو سواها ومنه قولهم لا خير في الروافض انتهى . لكن شيعة العراق أو الشيعة الجعفرية نسبة إلى الإمام جعفر الصادق أو الشيعة الأمامية وهو القول بإمامة الأئمة الأثني عشر ليست لها أية علاقة بفرقة الروافض، ويقول في ذلك الإمام المصلح محمد الحسين آل كاشف الغطاء يختص أسم الشيعة اليوم على إطلاقه بالأمامية التي تمثل أكبر طائفة في المسلمين بعد طائفة السنة انتهى . ويرمي غلاة السنة بكلمة الروافض بمعنى الزناديق، ويشير الباحث العراقي الراحل هادي العلوي وعلاء اللامي في بحثهم المعنون الجذور التاريخية للطائفية في العراق إلى قول مأثور للمهدي العباسي ما فتشت رافضياً إلا وجدته زنديقاً الثقافة الجديدة العدد 275 آذار نيسان 1997 .
8 البناء المعنوي للقوات المسلحة العراقية العقيد الركن أحمد الزيدي ص157 .
9 المصدر السابق ص159 . تجدر الإشارة إلى أن نسيج الشعب الكردي يتكون من المسلمين السنة والشيعة والأيزديين والكاكائية والشبك والعلويين وعل ألهي، والمسلمين السنة هم الغالبية، فإذا استثنينا نفوس الكرد السنة والتركمان السنة من العراقيين العرب السنة، فلا تزيد نسبة العرب العراقيين السنة أكثر من 22 إلى 23 % .
10 راجع البناء المعنوي للقوات المسلحة العراقية . العقيد الركن أحمد الزيدي .
11 إن هذا التصنيف الأسود والأبيض الذي يعتمد على الولاء عند النظام العراقي المصاب بعمى الألوان والذي لا يعطي ولو هامشاً بسيطاً للألوان الأخرى ( أي بمعنى ، لو وياي لو ضدي ، بالهجة العراقية الدارجة ) يذكرني بما كان متداولاً وإلى حد الآن بين عناصر الأمن والاستخبارات العراقية عند ذكرهم الإنسان الكردي ، فبالنسبة للكردي المتعاون مع السلطة ضد أبناء شعبه كانوا يطلقون عليه الكلب الأبيض ، وفي المقابل كان يطلق على هؤلاء لدى الجماهير الكردية ب ( الجحوش ) أما بالنسبة للوطنيين الكرد وخاصة البيشمركة ( الفدائيين ) كان يطلق عليهم الكلب الأسود .
12 صدام الخارج من تحت الرماد أندرو كوكبورن وباتريك كوكبورن ترجمة علي عباس ص 58 .
13 المصدر السابق .
14 اقتبسنا هذه الأمثلة من كتاب صدام وشيعة العراق من تأليف الدكتور سعيد السامرائي .
15 للمزيد راجع تقرير عن ريف الناصرية والمنطقة الجنوبية رسالة العراق ص6 وما بعدها العدد 83 في تشرين الثاني نوفمبر 2001.[1]