#عوني الداوودي#
ينطلق بعض الكتاب العراقيين في تحديد هوية كركوك الجغرافية والأثنية، حسب ما تمليه عليهم مفاهيمهم العنصرية، وترد في الكثير من هذه الكتابات بأن وجود الكورد في هذه المدينة لا يتعدى سوى عدة عقود من وفي الغالب هم مهاجرون من إيران أو نزوحهم من الجبال والقرى المجاورة إلى كركوك ، مقولات مضحكة وكلام لا يخلو من النية العدوانية المسبقة ضد الشعب الكوردي، وناتج عن جهل مطبق لتاريخ شعبنا، وتأتي عدم مصداقية هؤلاء الكتاب أيضاً من عدم إلتزامهم الحيادية في طرح هذا الموضوع الحساس، وما الدفاع المزيف من قبل هؤلاء الكتاب عن بعض المكونات العرقية الأخرى من غير الكورد في كركوك أو في باقي المدن الكوردستانية، إلا آخر وسيلة تفتقت بها عبقرية هذا وذاك، ممن لا شاغل لديهم غير رمي العصي في العجلة الكوردية وسحب البساط من تحت أقدامهم، ولإضفاء الموضوعية على كتاباتهم من جهة أخرى، فبينما كانت الأنظمة العراقية المتعاقبة تمارس سياسة التطهير العرقي، أي سياسة التعريب في كركوك وباقي المناطق الكوردستانية الأخرى كان هؤلاء يغرقون في صمتهم أشبه بصمت القبور، ولم نلحظ أن تفوه أحدهم بإدانة الجرائم التي كانت ترتكب بحق أبناء هذه المدينة المنكوبة من قلع واجتثاث والأستحواذ على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وتجريدهم حتى من الهويات الشخصية والمستمسكات القانونية، ورميهم إلى خارج محافظة كركوك وجلب آخرين من وسط وجنوب العراق ليحلوا محلهم دون أي وجهة حق، لكن عندما يطالب الكورد بإزالة آثار سياسة التعريب التي مورست بحقهم ورفع الغبن الذي لحقهم، والإصرار حق على العودة واسترجاع ما أخذ منهم عنوة نسمع تلك الأصوات النشاز تتعالى هنا وهناك واتهام الكورد بممارسة سياسة التطهير العرقي ضد العرب في كركوك، فإزدواجية الخطاب الهزيل والمقرف والكيل بمكيالين لدى هؤلاء الكتاب بات مكشوفاً ولا يخدم التعايش السلمي كما يطمح العراقيون بعد إزاحة كابوس صدام من العراق، وأن هذا النوع من الكتابات التشويهية لحقائق التاريخ بأسلوب عقيم، كتابات تزكم الأنوف بروائحها العنصرية البغيضة والهجوم غير المبرر على أية خطوة يخطوها الكورد لإعادة ممتلكاتهم المسروقة وحقوقهم المغتصبة تجعل الواحد منا حقاً أن يشمئز من هذه العقول التي لا تتدخر وسعاً إلا وأن ترمي بحطبها وزيتها القذر في النار في محاولة منها لحجب الأبصار عن الحقائق التاريخية الناصعة ومحاولة تغليفها بذلك الدخان الأسود المنبعث، وتدفع في ذات الوقت بأبناء شعبنا الكوردي للنفور والإبتعاد عن الطروحات والأفكار التي تحاول لملمة الجراح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما حرق العار صدام الأخضر واليابس نتيجة السياسات الشوفينية الخاطئة التي مارسها في العقود الماضية والتي تعتبر صفحة سوداء في تاريخ العراق المعاصر، فالحق حق مهما طال عليه الزمن وعراقنا الذي نطمح العيش في ربوعه يجب أن يعطي كل ذي حق حقه والكورد كانوا من أكثر المتضررين في ما مضى، ومطالبتهم بحقوقهم المغبونة وعودة أراضيهم الزراعية وأملاكهم في كركوك حق شرعي وقانوني ويجب أن تعاد إليهم وتعويضهم عن الخسائر المادية والنفسية التي لحقت بهم خلال سنين الذل التي عاشوها في مخيمات على أطراف مدن السليمانية وأربيل والتي كانت تفتقر إلى ابسط مقومات العيش، وأن أولى الخطوات التي يجب أتخاذها في هذا الصدد وحسب توصيات مؤتمر لندن للمعارضة العرقية سابقاً هي عودة المرحلين والمهجرين إلى ديارهم، وإزالة آثار التعريب التي من ضمنها إعادة هؤلاء الذين جلبهم النظام بدوافع عنصرية وشوفينية إلى كركوك إلى ديارهم وتعويضهم ايضاً عن ما قد سينجم لهم من خسائر مادية، فبدون حل هذه المأساة الإنسانية، ستبقى إحدى الدعائم القوية التي ترسخ الأمن والاستقرار والتعايش السلمي في المنطقة مبتورة، وستعيش المنطقة كلها كما يقول المصريون على كف عفريت فخلال العقود الماضية وبالرغم من جبروت الأنظمة التي مرت على حكم العراق خاصة في عهد حكم صدام المخلوع لم يتنازل الكورد أبداً وفي أي يوم مضى عن حقوقهم التارخية في كركوك، ودفعوا عشرات الآلاف من الضحايا من أجل هذه القضية المقدسة، والتي أسهمت بدورها في عدم الوصول إلى اي إتفاق بين الحركة التحررية الكوردية وبين الحكم في بغداد، فلا أعتقد بأن اليوم أو غداً، ورغم التلويح بالسوط التركي بين الحين والآخر وشحن المشاعر المضادة من أبناء الشعب العراقي ضد تطلعات الكورد، أن يتنازل أي كوردي مهما كانت صفته وعلى المستويين الرسمي والشعبي عن كركوك بوصفها جزء لا يتجزء عن إقليم كوردستان، لكنها تعتبر مدينة تآخ لتعايش القوميات بكرده وتركمانه وعربه وكلدوآشورييه، ويجب التمييز جلياً بين كون كركوك جغرافياً تتبع الأقليم الكوردستاني وبين التنوع الاثني الذي تتميز بها المدينة وفي النتيجة هي تقع ايضاً ضمن العراق الفدرالي الموحد، ونطمح في ذات الوقت جعل هذه المدينة الكوردستانية مدينة السلام والمحبة والتآخي كنموذج للتعايش في العراق.
بعض الحقائق التاريخية عن كركوك
كركوك التي كانت تسمى أربخا وحسب المصادر التاريخية بنيت على يد الكوتيين الذين يعتبرون أجداد الكورد القدماء فكانت دوماً ضمن المحيط الكوردي، رغم كثرة الوافدين عليها من هنا هناك، وسيطرة الغزاة عليها في فترات تاريخية مختلفة وبناء حكومات مدن على أرضها، لكن سرعان ما كانت تتلاشى وتتبخر لعدم إستطاعتها الرسوخ والتجذر في محيط لم يكن من السهل على أحد السيطرة عليه بحكم بأس وشدة السكان الأصليين في المنطقة من الكورد وتمسكهم بأرض الآباء والأجداد، وقولنا بكوردستانية كركوك لا ينبع من موقف قومي كردوي متعصب أوحسب الادعاءات الكوردية الرسمية والشعبية، بل حسب الوثائق الدولية والحقائق التاريخية والخرائط المعتمدة. يعتبر الكورد من أقدم سكان المنطقة : ويبدو أن الأصول التأريخية للشعب الكوردي تعود إلى الكوتيين ، وأن كان الرأي المتداول أنها تعود للميديين . يتفق المؤرخون على وجود شعب باسم الكوتيين كان يعيش قبل الميلاد بألفي عام في منطقة تشكل الآن إحدى مناطق الأكراد الرئيسية، وهي المنطقة المحصورة بين نهر دجلة والزاب الأسفل ونهر ديالى ويقول الدكتور كمال فؤاد حول هذه النقطة : بأن تأريخ نشوء القومية الكوردية ، تكونت من امتزاج الميديين بالسكان الأصليين . الذين هم الشعب الكوتي ، الذي كان البابليون يسمونهم كاردو أو قاردو . من خلال ما تقدم يتضح لنا بأن الكورد عاشوا في هذه المنطقة منذ آلاف السنين ، وإلى حد الآن لا يزالون يعيشون في نفس المنطقة وفي كركوك بالذات . وهذا لا يعني بأن المدينة في الوقت الحاضر كوردية صرف ، بل تعتبر كركوك مدينة تآخٍ لتعايش القوميات بكورده وتركمانه وعربه ومسيحييه بكافة طوائفهم . كانت كركوك في العهد العثماني مركز ولاية شهرزور التي كانت تضم مناطق واسعة من كوردستان بما ضمنها راوندوز وأربيل وكويسنجق وشقلاوة وبشدر ورانية ، قبل أن تصبح أربيل محافظة بحد ذاتها ، واقتطاع راوندوز وشقلاوة وكويسنجق وبشدر ورانية إلى هذه المحافظة الجديدة . وكانت الجهات الدولية والعراقية تتعامل مع كركوك كجزء من كوردستان العراق ، مما حدا بالملك فيصل الأول أن يستفسر من المندوب السامي عن حدود مملكته ، فأرسل الأخير استفسار الملك فيصل إلى لندن ، وجاء الجواب ليؤكد حقيقة كوردستانية كركوك . وكان الجواب يتعلق بكل كوردستان الجنوبية التي تبدأ حدوده الجنوبية من سلسلة جبال حمرين إلى جنوب خط بروكسل ، وهي الحدود الدولية الحالية بين العراق وتركيا . وحينما سنت الحكومة العراقية في العهد الملكي قانون اللغات المحلية في العراق سنت قانوناً خاصاً لاستعمال اللغة الكوردية ، وأسست مديرية معارف خاصة لإقليم كوردستان ، وكان مركز هذه المديرية كركوك .
وأكدت الإحصائية التي أجراها وفد عصبة الأمم المتحدة إلى كوردستان العراق على أثر الصراع الدائر آنذاك حول ولاية الموصل بين بريطانيا والعراق من جهة وتركيا من جهة أخرى والكورد لوحدهم ضد الجبهتين ، حيث كانت اللجنة تسأل الأهالي مع أية حكومة تريدون العيش . التركية أم العراقية ؟ وقد أجابهم متسائلاً الشخصية الكوردية بابان زاده عزت بك مستنفراً من صيغة السؤال الاستفزازي : لماذا لا تسألون هل نرغب بحكومة كوردية أم لا ؟ .
وكانت نتيجة الإحصائية في محافظة كركوك على الوجه التالي :
عدد الكورد 87500 ويساوي 63 %
عدد التركمان 26100 ويساوي 19 %
عدد العرب 25250 ويساوي 18 %
وكان الإحصاء العراقي يختلف قليلاً عن إحصائية وفد العصبة وهي على الوجه التالي :
عدد الكورد 81400 ويساوي 59 %
عدد التركمان 28741 ويساوي 21 %
عدد العرب 26654 ويساوي 19 %
كما جاء في الموسوعة العربية العالمية عن كركوك وتعد كركوك عاصمة المجموعات الكوردية في شمال العراق . واعتبرت الموسوعة العربية الموجزة في صفحتها 449 كركوك من المدن الرئيسية في كوردستان العراق . وكذلك في الموسوعة السويدية السنوية جاءت كركوك ضمن جغرافية كوردستان ومن المدن المنتجة للنفط . هذه بعض الأمثلة البسيطة من خلال الموسوعات ، وهناك العشرات من الشواهد الأخرى تؤكد على كوردستانية كركوك .
ومن الوجه التاريخية نرى العشائر الكوردية تحيط بالمدينة من كل الجوانب ، ك عشيرة الجباري ، طالباني ، زه نكنة ، شيخ بزيني ، جاف ، هموند ، شوان ، الداووده أو الداوودي ، الكاكائي ، كومه يي وغيرها كثيرة ، ولكل هذه العشائر إمتداداتها إلى داخل المدينة .
وكانت غالبية المناطق تحمل الأسماء الكوردية بما فيها الوديان والتلال وباقي معالم المدينة ، وهناك أيضاً بعض العشائر التركمانية والعربية في ضواحي المدينة لكنها قليلة قياساً بالعشائر الكوردية .
وللتأكيد على كوردستانية كركوك كان رئيس عشيرة الداووده الكوردية دارا بك هو من أوائل النواب المنتخبين عن كركوك ليمثل المدينة في المجلس التأسيسي عام 1924 .
ومن الجدير بالذكر أيضاً بأن أول محافظ متصرف لهذه المدينة هو الشخصية الكوردية أمير اللواء فتاح بن سليمان باشا المعروف ب ( فتاح باشا ) عين على أثر تأليف الحكومة العراقية ، متصرفاً للواء كركوك في 15 آب 1921 فشغل المنصب نحواً من أربعة أعوام إلى سنة 1924 .
وكان غالبية النواب عن كركوك في العهد الملكي من الكورد وعلى سبيل المثال ، ففي شباط عام 1937 أنتخب أحمد الكركوكلي نائباً عن كركوك في مجلس النواب وجدّد انتخابه في كانون الأول ( ديسمبر) 1937 .
وفي أعوام 1935 1939 أنتخب فائق طالباني نائباً عن كركوك . كما أنتخب الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ حميد بن عزيز طالباني في أعوام 1943 1948 . وكذلك بالنسبة للشخصية الكوردية أمين رشيد آغا من رؤساء قبيلة هموند عام 1939 . وانتخب محمد سعيد قزاز عام 1953 نائباً عن كركوك ويشير المحامي والمؤرخ المعروف عباس العزاوي بأن أمين رشيد آغا الذي جاء ذكره أعلاه أنتخب نائباً عن كركوك في أعوام 1940 1947 .
ولو رجعنا إلى الوراء ، أي إلى عام 1872 1873 ومن خلال المصادر التاريخية ، نلاحظ بأن الكورد كانوا يشكلون النسبة المطلقة تقريباً من سكان كركوك فقد قدر المهندس الروسي يوسف جيرنيك الذي زار كركوك ضمن جولته في كوردستان لدراسة إمكانيات الملاحة النهرية في حوضي دجلة والفرات وروافدهما ونشر فيما بعد عام 1879 نتائج رحلته ودراسته في المجلد الرابع من نشرة قسم القفقاس للجمعية الجغرافية الملكية الروسية ، قدر عدد سكان كركوك في ذلك الوقت ب ( 12 15 ) ألف نسمة وأكد أنه وباستثناء ( 40 ) عائلة أرمنية فباقي السكان هم من الكورد . ويبدو بأن أفراد الحامية العسكرية العثمانية في كركوك لم يحسبوا ضمن سكان المدينة
كما قدر الرحالة التركي المعروف شمس الدين سامي عند زيارته لكركوك في نهايات القرن التاسع عشر، بأن ثلاثة أرباع سكان المدينة هم من الكورد والباقي من الترك والعرب .
وقد بعث المؤرخ محمد أمين زكي بك ، الذي كان وزيراً للمواصلات أبان الحكم الملكي في العراق ، بمذكرتين للملك فيصل الأول يعرض فيها المظالم الكوردية مذكراً إياه الوعود التي قطعتها الحكومة العراقية والحكومة البريطانية لعصبة الأمم بالنسبة لحقوق الكورد ، مقابل إلحاق كوردستان الجنوبية بالعراق المشكل حديثاً ، وطبعت المذكرتان لاحقاً على شكل كتاب بعنوان ( دوو ته قه لاي بي سود ) ( محاولتان غير مجديتان ) وجاء في الكتاب في حدود عام 1930 شّكل الكورد في محافظة كركوك 51 % والتركمان 21,5 % والعرب 20 % ، كلدان ، أشوريين ، سريان ، يهود ، أرمن ، وغيرهم 7,5 % .
نلاحظ من خلال هذا العرض السريع والموجز جداً ، بأن الكورد كانوا يشكلون على الدوام الغالبية من سكان المدينة ، وسنلاحظ فيما بعد التراجع الذي حصل في عدد نفوس الكورد في المدينة من خلال سياسة التعريب التي شملت الكورد أولاً ، ومن ثم التركمان . وزيادة العنصر العربي على حساب سكان كركوك سواء أكانوا من الكورد أو التركمان .
أدركت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الحكم الملكي في العراق بأنهم لا يستطيعون التلاعب بالموارد التي ستجنيها من إنتاج النفط في كركوك حسب مشيئتهم ، واستعمالها لخدمة مصالحهم ، من دون ضرب الحلقة الأقوى من سكان المدينة وهم الكورد، ولهذا نرى عدم تناقص العنصر التركماني في بداية سياسة التعريب حيث شمل الترحيل والتهجير في بداية الأمر الكورد فقط ، وعندما قطعوا أشواطاً بعيدة في تنفيذ سياستهم الرامية لتحويل هذه المدينة الكوردستانية إلى عربية صرف أداروا دفة عجلة التعريب نحو التركمان أيضاً . وقد بدأ التعريب الفعلي لمدينة كركوك مع بداية اكتشاف النفط فيها ، من قبل القوميين العرب وبمساعدة الإنكليز وتوافقاً مع السياسة التركية التي تعتبر الكورد من أشد أعدائها ( وأخطر عنصر فعال على أمنها القومي ) .
بدأ التعريب الفعلي لمدينة كركوك مع اكتشاف النفط فيها عام 1927 . لم تعمد شركة نفط العراق لاستخدام العمال الكورد إلا بنسب ضئيلة جداً قياساً بعدد نفوسهم ، بل بادرت بجلب المواطنين العرب من وسط وجنوب العراق لاستخدامهم في العمل وكذلك تم تعيين الآشوريين والتركمان والهنود ، وحتى الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارات فنية حرم الكورد من سكان كركوك منها، ضمن سياسة هادئة يراد لها عدم تمكين السكان الأصليين من الكورد في المدينة في عملية الانتعاش الاقتصادي ، وتطوير قدراتهم الذاتية لحسابات مستقبلية جنوا ثمارها لاحقاً حيث تم بسهولة قلع واجتثاث الكورد من جذورهم التاريخية دون أن يؤثر ذلك على حركة ونشاط العمل والإنتاج داخل المؤسسات الحيوية في كركوك بما ضمنها شركة نفط العراق .
في عام 1927 حين باشرت الشركة بحفر البئر الأول في حقل بابا كركر النفطي إنفجر البئر بغزارة مما أدى إلى وفاة مهندس إنكليزي وبعض العمال العراقيين بالغازات السامة المنبعثة من البئر . وكان خوف كبير على أهالي كركوك من أن يؤدي تحول الرياح إلى وصول الغازات المنبعثة من جوف البئر إلى داخل المدينة ، مما أدى إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع ذلك ، فأخبروا على الفور الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات المؤدية إلى مساعدة الأهالي وتوجيههم لسلك الطريق التي يجب أن يسلكوها بعكس اتجاه الريح ونقل الباقون من الأطفال والنساء والعجزة والشيوخ بسيارات وآليات الشركة إلى مكان أمين تجنباً للكارثة . وحين ذاك وحسب الوثيقة المتعلقة بتلك الحادثة وهي باللغة الإنكليزية تشير إلى عدد نفوس كركوك في تلك السنة ، لقد بلغ سكان كركوك آنذاك 35 ألف نسمة ( السكان داخل المدينة فقط ، وليس محافظة كركوك ) ثلاثون ألفاً منهم من الكورد أما البقية والتي تبلغ خمسة آلاف من التركمان والعرب والمسيحيين واليهود .
في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين بادرت وزارة ياسين الهاشمي لتوطين عشيرة العبيد وجلبهم من ديالى وإسكانهم في سهل الحويجة بحجة نزاعهم مع عشيرة العزة في ديالى ، ومن ثم جلب عشيرة الجبور الرحالة وتوزيع الأراضي عليهم بعد إنشاء مشروع ري الحويجة ، وتعيين خبراء زراعيين لإرشادهم وتعليمهم مهنة الزراعة ، بهدف توطينهم نهائياً في تلك الربوع ، لزيادة العنصر العربي في محافظة كركوك وقد أعطت هذه السياسة ثمارها بعد سنين ، بعدما نتأمل إحصائية عام 1957 التي نرى بوضوح زيادة العنصر العربي على حساب العنصر الكوردي . وحسب الإحصاء شكل الكورد 48 % بنقصان 3 % قياساً بعام كتابة المذكرتين لمحمد أمين زكي بك التي ذكرتهما في مكان آخر من هذا المبحث ، وزيادة نسبة العرب إلى 28,5 % وكانت نسبة التركمان 21,5 % . ولكن بقي الكورد هم الأغلبية في محافظة كركوك ، ومن خلال الإحصائية يتأكد لنا بأن سياسة التعريب استهدفت الكورد أولاً كما ذكرنا .
وكان المجموع العام لسكان محافظة كركوك حسب إحصائية عام 1965 بلغت 473626 نسمة شكل الكورد 170905 ، والعرب 184535 ، والتركمان 86958 + 5471 يتكلمون التركية ، الكلدانية والسريانية 1995 ، الأرمنية 1043 ، الآثورية 7278 .
لا حظ هنا أيضاً تزايد عدد العرب على حساب الكورد قياسا بإحصائية عام 1957 ، وذلك بفضل سياسة التعريب المبرمجة بعد انقلاب شباط عام 1963 .
لم نلاحظ سياسة مبرمجة لتعريب كركوك خلال فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم .
أما المرحلة الثانية لتعريب كركوك فقدت بدأت مع استلام البعثيين الحكم بعد انقلاب شباط 1963 ، كما ذكر أعلاه ، لكن سياسة التعريب هذه المرة أخذت شكلاً أكثر خطورة من سابقتها ، وذلك بترحيل وتهجير سكان القرى الكوردية في ضواحي المدينة وبلغت القرى المدمرة والمرحلة حوالي 33 قرية كوردية وفي المقابل تم توزيع وتمليك تلك الأراضي على العشائر العربية ، وتسليحهم وإنشاء الربايا العسكرية على المرتفعات القريبة من تلك المناطق بهدف حمايتهم .
لكن سياسة التعريب لمحافظة كركوك أخذت أبشع صورة لها ، وأكثرها خبثاً ، هي بعد انقلاب 17 -07-ز 1968 . حين بدأت السلطات بتغيير واقع المدينة من عدة أوجه ، وعلى مراحل حسب خطة مدروسة ، وتم تنفيذها بإتقان بارع ، ولم يسدل الستار بعد على فصول العملية .
بدأ الإنقلابيون الجدد بتطبيق سياستهم المبرمجة لتعريب كركوك ، التي لم تشهد المنطقة لها مثيلاً على مر التاريخ ، تم أولاً نقل موظفي الأحوال المدنية وجيء بغيرهم ، وقد زودوا بتعليمات معينة حول العبث بسجلات النفوس وتزويرها . وتغيير الأسماء التاريخية للأحياء والمناطق إلى أسماء عربية بما ضمنها الأسماء التركمانية ، وترحيل السكان من الكورد من داخل المدينة وجلب المواطنين العرب من وسط وجنوب العراق وإسكانهم محلهم ، وسلخ الأقضية ذات الأغلبية الكوردية من المحافظة وإلحاقها بمحافظات أخرى بعيدة عنها ، وتهديم الأحياء الكوردية بحجة فتح شوارع جديدة ، وبناء أحياء سكنية جديدة للوافدين ( كما كان يطلق النظام عليهم ) في قلب الأحياء الكوردية ، فمثلاً تم تدمير ما لا يقل عن 2000 منزل ( فيهم العشرات من أقربائي ) يقطنها أكراد في حي الشورجة الكوردية الصرف ، وتعويضهم بمبالغ رمزية لا تكاد تكفي حتى لشراء قطعة أرض سكنية أخرى ، وأن استطاع أحدهم شراء قطعة أرض ، فالأوامر الصادرة من أعلى السلطات كانت تمنع حصولهم على حق التمليك ( الطابو ) وعدم إعطاء تراخيص البناء من البلدية لهم ، حسب القوانين المتبعة مع باقي أجزاء العراق .
وفي المقابل كان يمنح عشرة آلاف دينار عراقي بغية البناء ، للعربي الذي ينقل سجل نفوسه من مسقط رأسه إلى كركوك مع قطعة أرض سكنية وتوظيفه في دوائر الدولة ، وأغلبهم من أفراد شرطة الأمن والاستخبارات ، والجميع من الحزب الحاكم ، وحصوله بشكل روتيني على القرض العقاري بفوائد رمزية من أجل البناء والسكن في كركوك ، ناهيك عن الامتيازات التي يحصل عليها باعتباره مواطن درجة أولى. وسمي هؤلاء من قبل سكان كركوك ب جماعة العشرة آلاف
وفعلاً تم بناء دور وأحياء سكنية جديدة في قلب الأحياء الكوردية مثل : رحيم آواه ، الذي غير إسمه إلى حي الأندلس إسكان إلى حي المثنى شورجة إلى حي قتيبة وفي الأحياء الكوردية الأخرى مثل ، إمام قاسم ، ساحة الطيران ، عرفة، سه ر كاريز ، وأخرى كثيرة غيرها ، وتمليكها للوافدين ، بلغت الدور السكنية التي شيدت لهؤلاء الذين جاءوا من وسط وجنوب العراق حوالي 51000 ألف دار وقطعة أرض سكنية إلى غاية بداية الثمانينيات وزعت على المناطق الكوردية وبأسماء عربية مثل ، حي المثنى ، البعث ، الواسطي ، الاشتراكية ، غرناطة ، الحجاج ، الحرية ، العروبة ، دور الأمن ، حي قتيبة ، حي الشرطة ، ودور العمل الشعبي ، وأخرى كثيرة غيرها . هذا غير دور الضباط وضباط الصف التي كانت تمنح على الأغلب لأفراد الجيش من العرب .
وخلال عشرين سنة فقط ما بين إحصائية 1957 وإحصائية 1977 حصل تغيير كبير لواقع السكان ، وبموجب إحصاء عام 1977 يتبين لنا التغييرالذي حصل، فقفز عدد العرب من 28,5 % إلى
44,4 % وتناقص عدد الكورد إلى 37,33 % ، فلأول مرة في تاريخ كركوك يحصل هذا التغيير ويصبح العرب الأغلبية في المدينة ليأتي بعدهم الكورد ، وكذلك بالنسبة للتركمان حيث تناقص عددهم إلى 16,31 % . لكن وبالرغم من هذا كانت ملامح المدينة لا تزال كوردية .
كل هذا كان يجري متزامناً مع ترحيل وتهجير القرى المحيطة بالمدينة تحت ذريعة ملاحقة (العصاة ) البيشمركة . أما الخطوة الأكثر خبثاً كانت تتمثل بعملية تقطيع أوصال المدينة ، وسلخ الأقضية الكوردية إدارياً بكركوك تاريخياً ، وإلحاقها بمحافظات بعيدة عنها ، مثلما حدث لقضاء طوز خورماتوا التي تبعد عن كركوك 70 كم ، لتلحق بمحافظة تكريت التي تبعد عنها 130 كم ، كما سلخ أيضاً من جسد محافظة كركوك قضاء جمجمال الكوردية الصرف لتلحق بمحافظة السليمانية، وقضاء كفري لتلحق هي الأخرى بمحافظة السليمانية ، وقضاء كلار إلى محافظة ديالى ، كل ذلك من أجل تخفيض نسبة الكورد في محافظة كركوك ، أما الأقضية الثلاث المتبقية قضاء الحويجة ، وآلتون كوبري و يطلق الكورد على هذا القضاء أسم برديئ ، ومركز قضاء كركوك كانت قد عربت منذ زمن بعيد .
وقد نتجت عن هذه السياسة الشوفينينة من الترحيل القسري وتهجير العائلات الكوردية التي بلغت 37726 عائلة ذهبت معظمها ضحايا عمليات الأنفال السيئة الصيت ، وأن حصيلة التدمير للقرى الكوردية بلغت فقط ضمن حدود محافظة كركوك 779 قرية ، 493 مدرسة ، 598 مسجد ، 40 مستوصف . ( ) هذا فقط إلى أواسط الثمانينيات .
وقد استمر التعريب بعد حرب الخليج الثانية أي بعد عام 1991 بصورة أكثر شوفينية ، فما بين الأعوام 1991 2000 بلغت العائلات الكوردية المهجرة إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الكوردية 15735 عائلة بلغ عددهم 93419 إنسان .
وفي حديث للسيد LORD AVEBUY عضو البرلمان البريطاني ، لمحطة التلفزيون الكوردية Medya جاء فيه نحن نعلم بأن القضية توسعت بشكل كبير ومراحل التعريب أخذت تخطو بخطوات واسعة وسريعة جداً ، ولحين عام 1999 قدم السيد ( ماكس فان ديشترويل ) المقرر الخاص للأمم المتحدة تقريره إلى لجنة حقوق الإنسان في أوربا ، أوضحت خطة التعريب بشكل جلي وهو توطين 300000 ثلاثمائة ألف إنسان عربي ليس في كركوك فقط بل في ضواحي المدينة أيضاً .
وجاء أيضاً في تقرير المقرر الخاص للسيد ( أندرياس مافروماتيس ) عن حالة حقوق الإنسان في العراق والذي أحاله إلى النظام العراقي للإجابة عليه . ما يلي : أصدر عطية شنداخ المسؤول الجديد عن فرع حزب البعث في كركوك في 3 | أيار|2000 أمراً إلى وحدات الحزب بالقيام ، بالتعاون مع وحدات الأمن والشرطة بعملية تفتيش واسعة النطاق وإعداد قائمة بأسماء الأسر الكوردية والتركمانية التي تعيش في المنطقة وطلب إليهم تغيير أصلها الاثني إلى العربية وهددتهم بالترحيل في حالة عدم الانصياع لذلك .
كما زار نائب مجلس قيادة الثورة العراقي نائب القائد العام للقوات المسلحة عزت الدوري كركوك في 10|9|2000 وأكد على إجراء مسح نهائي لمحافظة كركوك للسكان غير العرب في لقائه محافظ كركوك الفريق صباح نوري علوان وتخيير القلة المتبقية من الكورد بين تغيير قوميتهم إلى العربية أو الرحيل عن كركوك . حيث وزعت عليهم سابقاً قوائم تصحيح القومية .
لم يقتصر التعريب على الأحياء من سكان كركوك غير العرب ، بل حتى المقابر لم تسلم من هذه السياسة الشوفينية ، فمنذ منتصف الثمانينيات وبين فترى وأخرى يتم إزالة مجموعة من المقابر، وذلك لمحو الأثر الكوردي فيها نهائياً من المدينة . كل هذا من أجل الاستحواذ على موارد النفط وحرمان الكورد منها ، وإن هذه السياسات كانت صادرة من أعلى سلطة في العراق ، فعلى سبيل المثال أصدر مجلس قيادة الثورة وهي ( أعلى سلطة تشريعية في العراق ) قراراً في تاريخ
28- 8 -1989 المرقم 529 مذيلة بتوقيع رئيس الجمهورية العراقية ، بأنه يحق للعراقيين من غير سكنة محافظات الحكم الذاتي تملك قطعة أرض سكنية في مناطق الحكم الذاتي بالإضافة إلى ما يمتلكه في مسقط رأسه ، بينما يحق للعراقيين من سكنة مناطق الحكم الذاتي تملك قطعة أرض سكنية في محافظات العراق ما عدا محافظات ( نينوى ، التأميم ، ديالى ) فمن خلال هذا القرار تتضح لنا المآرب العدوانية ضد الشعب الكوردي وسياسة التعريب المبرمجة للنظام لمدينة كركوك
وضع النظام العراقي كل إمكانياته المادية والمعرفية لتطبيق سياسة التعريب ليس لمدينة كركوك وحسب ، بل حتى القرى والقصبات التابعة لها ، ونفذت هذه السياسة بحذافيرها ، فبالنسبة إلى مركز مدينة كركوك حاول ولا يزال تعريبها كاملة وقطع أشواطاً كبيرة في هذا المجال ، أما بالنسبة إلى الأطراف ومن جميع الجهات عمد النظام إلى خلق حزامين أمنيين ، أولاً حزام عربي وذلك بتوطين العشائر العربية الموالية له على أطراف المدينة ، والحزام الثاني هو إخلاء مناطق شاسعة من السكان وجعلها مناطق عسكرية محرمة . ويمكن القول من خلال مجمل سياسة التعريب بأن النظام طبق الأساليب الاستعمارية التقليدية للوصول إلى غاياته ، وتعامل مع المدينة وأبناءها كمستعمر ومحتل . ومن الواضح أن ما لحق بالكورد واقتلاعهم من جذورهم التاريخية ، يصب في خانة الجرائم المنظمة ضد البشرية .
ومن جهة أخرى ، ولتكملة تعريب كركوك وفق ما يراه النظام تماشياً مع مخططاته وإجراءاته بهذا الصدد ، هو توطين اللاجئين الفلسطينيين في كركوك وهذا يخدم النظام من عدة أوجه . أولاً إن الفلسطينيين هم من السنة ، والأنظمة العراقية المتعاقبة على حكم العراق كانوا على الدوام من السنة ، وهذا يخدمهم في معادلة التوازن الطائفي في العراق تماشياً مع سياساتهم ، ومن جهة أخرى إن سياسة توطين اللاجئين الفلسطينيين في كوردستان وهم غرباء عنها ، وتوزيع الأراضي عليهم وتوظيفهم ، ومدهم بالمال والسلاح سيصبحون بشكل طبيعي جزء من النظام ، وسيدافعون عن المصالح التي حصلوا عليها ، وبالنتيجة هي مصالح النظام ، وسيصبحون القوة الضاربة ضد أية محاولة للإطاحة به ، وبالرغم من هذا وذاك هو دق الإسفين بين الشعبين الكوردي والفلسطيني ، والنقطة الأهم في موضوع توطين الفلسطينيين هو مغازلة الولايات المتحدة وإسرائيل لرفع العبء عن كاهل الأخيرة في المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين وإسرائيل ، وهو حق العودة . ومثل هذا المشروع المشبوه لا يضر بالكورد والتركمان وحدهم وحسب ، بل حتى بالقضية الفلسطينية نفسها ، لأنه يتنافى مع قرارات الأمم المتحدة وخاصة القرار 193 للعام 1947 ، الذي ينص على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ، وفي نفس الوقت أن قرار العودة هو مطلب عربي وفلسطيني .
وأخيراً وفي مفاوضات عام 1991 بين قيادة الجبهة الكوردستانية من جهة والحكومة العراقية من جهة أخرى ، حول وضع مدينة كركوك ، قذف طارق عزيز جملته ( حكمته ) بوجه قيادة الجبهة ( أنسوا كركوك ، كما نسيّ العرب الأندلس ) فيا لقساوة هذا التشبيه وشتان ما بين الحالتين .
وخير ما أختتم به هذا الفصل المحزن من تاريخ المدينة بعضاً من التقرير الذي قدمه المحامي العربي هلال ناجي إلى الرئيس جمال عبد الناصر ، حيث كتب قائلاً :
السبب في إنكارنا لكوردية كركوك يعود إلى وجود النفط فيها والنفط بلا شك موضع أطماعنا . بيد أن خلق العداء مع الشعب الكوردي بسبب النفط لا يعود علينا إلا بالضرر ، ومن الأفضل أن نكسب هذه القومية لا أن نعاديها بسبب وجود النفط في كركوك ، فالحمد لله تمتاز الأرض العربية بالغنى ، وتمتلك الكم الهائل من النفط .[1]