#عوني الداوودي#
نعرض في هذه الحلقة بعض الحقائق التاريخية من خلال آراء وأفكار بعض الشخصيات الأكاديمية المختصة بتاريخ وشؤون المنطقة حول التغيير الديمغرافي لمدينة كركوك على مدى القرون الماضية سواء من جانب العثمانيون أو لاحقاً على يد الشوفينية العرب.
سيروان رحيم: معد البرنامج الوثائقي الذي ترجمنا منه هذه المقتطفات منها :
ليس هناك أي فرق من حيث الأهداف لعملية تعريب أو تتريك كركوك. بدأت عملية التعريب على يد الشوفينية العربية، وأصبحت من المسائل المصيرية بالنسبة لهم، وكان رد الفعل العربي أمام المطالب الكوردية بحقهم التاريخي في كركوك، عبارة عن قلع واجتثاث الكورد من أرض آبائهم وأجدادهم عبر عمليات، أقل ما يقال عنها أنها غير إنسانية، من قتل وترحيل وتهجير وتشريد.إن المحاولات السابقة لتتريك كركوك من قبل العثمانيين هي أيضاً من المراحل المهمة في تاريخ هذه المدينة تستحق أكثر من وقفة لدراستها واستنباط العبر منها. عندما استطاع العثمانيون في منتصف القرن التاسع عشر القضاء على الإمارات الكوردية الواحدة تلو الأخرى، أخذوا يديرون شؤون كوردستان مباشرة من قبل رجالاتهم. لقد اهتم العثمانيون بكركوك كواحدة من المراكز المهمة، ولموقعها الجغرافي الواقع على الطريق التجاري الممتد بين إيران وتركيا الحالية، للوصول إلى بغداد، لذا عمدوا إلى تحويلها إلى مركز إداري وعسكري لهم. من هنا بدأت أولى مراحل تتريك منطقة كركوك. في تلك الفترة كان جهود العثمانيين منصبة على إيجاد أمة عثمانية وأن تكون هويتها الإسلام، وإذا ما حاولنا استقراء تلك الحقبة من الزمن نرى بأن المشاعر القومية في الشرق الأوسط بصورة عامة، وعند الكورد بصورة خاصة لم تكن قوية كما هي عليها الحال في الوقت الحاضر، وإن المشاعر الدينية كانت هي المحرك الأساسي لتلك الشعوب، فلذلك كان من الطبيعي أن يشعر المرء بكونه عثمانياً، وهذا ما سهل عملية تتريك المنطقة من قبل العثمانيين. ولا تخفي تركيا الحالية أطماعها في كركوك، نلمس ذلك من خلال تصريحات مسؤوليهم، كلما سنحت الفرصة بذلك.
في خريف عام 1996 صرحت رئيسة وزراء تركيا تانسو تشيلر بأن نفوس التركمان في كوردستان العراق يبلغ حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وتصاعد هذا العدد إلى أربعة ملايين نسمة في عهد بلند أجاويد، لا يخفى على أحد ما وراء مثل هذه التصريحات.
الدكتور نوري طالباني: *
قبل الولوج في الحديث عن وضع منطقة كركوك، أود إلقاء الضوء على هذه المنطقة بوصفها جزءاً من ولاية الموصل. إن سبب إلحاق الولاية العثمانية من قبل البريطانيين بالعراق العربي الذي أستحدث بعد الحرب العالمية الأولى، هو وجود النفط في منطقة كركوك التي كانت تشكل جزءاً هاماً من هذه الولاية.
نصت اتفاقية سايكس بيكو المبرمة سراً بين بريطانيا وفرنسا عام 1916، على إعطاء ولايتيْ بغداد والبصرة إلى بريطانيا وعلى أن تكون ولاية الموصل من حصة فرنسا. إن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على أن هاتين القوتين العظمتين آنئذ لم تنظرا للعراق بوضعه السياسي الحالي كوحدة جغرافية موحدة، وإلا لكانت الولايات الثلاث التي شكلت منها فيما بعد الدولة العراقية، قد أصبحت من حصة إحدى هاتين الدولتين. وقد أشرت لهذه الحقيقة في مؤتمر نظم في واشنطن في تشرين الثاني عام 1999 حول الجانب القانوني للقضية الكوردية. إن العراق بكيانه الحالي لم يظهر للوجود إلا بعد الحرب العالمية الأولى وبمساعدة الإنكليز الذين جعلوها تحت انتدابهم المباشر. إن العراق التأريخي المعروف في المصادر الإسلامية بالعراق العربي لتمييزه عن العراق العجمي، كانت حدوده الشمالية لا تتجاوز تكريت. وقد تم إلحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية الحديثة لوجود النفط بغزارة في هذه الولاية في كركوك، وبهدف ايصال هذا النفط عبر الأراضي العراقية إلى الموانئ الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وفي احتفال رسمي في عام 1935 م، تم افتتاح خط أنابيب النفط التي توصل نفط كركوك إلى كل من حيفا وطرابلس على شواطئ البحر المتوسط. هذه المقدمة ضرورية لبيان أسباب إلحاق ولاية الموصل بهذه الدولة الحديثة.
أما سياسة التعريب في هذه المنطقة، فقد بوشر بتنفيذها في العهد الملكي، وساهمت شركة نفط العراق التي كانت في كركوك في تغيير الواقع القومي للمدينة، فقد استخدمت هذه الشركة البريطانية أعداداً كبيرة من المستخدمين والعمال الذين تم جلب معظمهم من خارج لواء محافظة كركوك، بينهم الآشوريون والأرمن والعرب، فاستوطنوا المدينة مع أسرهم وعائلاتهم، وتشكلت أحياء خاصة بهم داخل الأحياء القريبة من منشآت شركة النفط. تم استقدام الآشوريين من بعقوبة التي كانوا قد استقروا فيها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بمساعدة الجيش البريطاني، بعد نزوحهم من إيران خلال تلك الحرب.
وساهم إنشاء مشروع ري الحويجة في توطين عدد من العشائر العربية الرحالة، كعشائر العبيد والجبور وغيرهما في سهل الحويجة، بعد إكمال مشروع الري عن طريق جلب المياه للسهل المذكور من نهر الزاب الصغير، وأول من خطط لهذا المشروع هو ياسين الهاشمي الذي كان رئيساً للوزراء عام 1935، وأعلنت الحكومة أنها بصدد بناء هذا المشروع لتوطين العشائر الرحالة. لذلك اقترح بعض الإداريين الكورد في لواء كركوك، خاصة المرحوم حامد بك جاف الذي كان يشغل منصب قائمقام جم جمال، أن يتم إسكان جزء من عشيرة جاف الرحالة الكوردية والتي كانت موجودة في قضاء كفري ومنطقة كلار في فصل الشتاء، في قسم من سهل الحويجة. لم تستجب الحكومة العراقية لاقتراحه، بل بادرت بنقله إلى قضاء آخر بعيد عن كركوك، فاضطر إلى تقديم استقالته من الوظيفة والرجوع إلى مسقط رأسه في حلبجة.
حسين غلام:*
أود الإشارة إلى إحدى الوثائق المهمة من وثائق شركة نفط العراقI P C التي تخص حفر
البئر الأول في حقل بابا كركر النفطي عام 1927، لقد انفجر البئر بغزارة مما أدى إلى وفاة مهندس إنكليزي وبعض العمال العراقيين بالغازات السامة المنبعثة من البئر، لم يستطع المشرفون حينذاك السيطرة على الانفجار فامتلأت الوديان القريبة من الحقل بالنفط.
وكان هناك خوف كبير على أهالي كركوك من أن يؤدي تحول الرياح إلى وصول الغازات المنبعثة من جوف البئر إلى داخل المدينة، مما أدى إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع ذلك فأخبروا على الفور الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات المؤدية إلى مساعدة الأهالي وتوجيههم لسلك الطريق التي يجب أن يسلكوها بعكس اتجاه الريح، ونقل الباقين من الأطفال والنساء والعجزة والشيوخ بسيارات وآليات الشركة إلى مكان أمين تجنباً للكارثة.
إن تلك الوثيقة وهي باللغة الإنكليزية تشير إلى عدد نفوس كركوك في تلك السنة، لقد بلغ مجموع سكان كركوك آنذاك 35 ألف نسمة، ثلاثون ألفاً منهم من الكورد، أما البقية والتي تبلغ خمسة آلاف فهم من التركمان والعرب والمسيحيين واليهود.
الدكتور جبار قادر: *
في البداية أود الإشارة إلى أنه مورست عملية تتريك بحق كركوك، منذ العهد العثماني، قبل سياسة عملية التعريب لهذه المدينة بزمان. بدأ ذلك بعد زوال إمارة بابان الكوردية وأفول نجم أمرائهم، منذ ذلك الوقت بدأت السلطات العثمانية بتثبت سلطانها في منطقة كركوك وتحويلها إلى مركز لتجمع العسكر والجيش، وانشاء المدارس التركية وتثبيت موقع قدم راسخ لهم في المنطقة. لا أود الحديث هكذا دون شواهد وإثباتات تاريخية ومن أجل هذا تراني ألجأ دائماً إلى المصادر الأجنبية، كي لا نتهم بأن مصادرنا الكوردية منحازة إلى أبناء جلدتنا.
فخذ مثلاً المستشرق الجورجي (ألبرت مينتيشاشفيلي) وهذا الشخص ليس كوردياً وليس له أية صلة بالكورد، عدا أنه شخص أكاديمي وباحث، يبحث ويكتب الدراسات، وفي كتابه الموسوم الكورد ، لمحات في العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية يذكر، وبالتحديد في الصفحة 193 بأن غالبية العائلات المعروفة كتركمان في كركوك مثل عائلة (آوجي، قيردار، نفطجي زادة، يعقوب زادة، وغيرها) هي في الأصل منحدرة من عائلات كوردية، وبحكم العملية السياسية والاقتصادية العثمانية استتركت مع الزمن.
هذا من جانب، ومن جانب آخر الذي هو موضوع حديثنا، سياسة التعريب، بدأت منذ بداية الثلاثينات من القرن العشرين، وسأتكلم عن ذلك لاحقاً. وبرجوعنا إلى الإحصائيات نرى بوضوح ما حل بهذه المدينة من تغيير لواقعها القومي، فلو أخذنا إحصائية عام 1957، والمثبتة أيضاً في كتاب الدكتور شاكر خصباك علماً بأنه عربي ، الأكراد والمسألة الكوردية، كانت نسبة الكورد في محافظة كركوك 55.2% و 44,8% لباقي القوميات من تركمان وعرب وآشوريين وكلدان وغيرهم. ونلاحظ من جراء سياسة التعريب تناقص عدد الكورد والتركمان في إحصائية عام 1977 بشكل واضح، وعلى الرغم من هذا كانت لا تزال ملامح مدينة كركوك كوردية.
لعب الإنكليز دوراً رئيسياً في إبعاد الكورد من المراكز الاقتصادية والسياسية وحتى من سوق العمل والمراكز الإدارية، ومع ذلك فقد استطاعت الشخصيات الكوردية من أهالي كركوك أن تمثل المدينة في البرلمان العراقي أبان الحكم الملكي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أحمد آغا، هذه الشخصية، الذي يوجد حي كامل باسمه في كركوك، كان أحد ممثلي المدينة، وكان ممثلو مدينة كركوك على الدوام هم من الكورد، أما من الطالبانيين أو الكاكائيين أو غيرهم من العشائر الكوردية وهذا كله مثبت في وثائق الدولة العراقية.
إحدى الحجج التي إستند الإنكليز عليها في سياستهم لإلحاق ولاية الموصل بالعراق العربي المشكل حديثاً، هي أن هذه الدولة الحديثة لا تستطيع الصمود والاستمرار بدون الثروات المتواجدة في الولاية وعلى رأسها النفط.
بعد أن عرف الإنكليز بموقف الكورد أدركوا، بأنه لو وضعت كركوك تحت السيادة الكوردية سَهُلَ عليهم الانفصال، لذلك حاربوا وبكل ما أوتوا من قوة تطلعات الشعب الكوردي.
فأدمونز الذي كان أحد المتنفذين في كوردستان والعراق أبان الحكم البريطاني وله مؤلف حول الكورد نصح الحكومة العراقية في الستينات من القرن العشرين أثناء المفاوضات مع الكورد وهو في بريطانيا بأن لا يسمحوا أبداً بأن تلحق كركوك بجغرافية كوردستان، أي أن تكون من مناطق الحكم الذاتي.
كما كان الإنكليز على علم بتعاطف التركمان لتركيا، لكنهم لم يعطوا الأمر أهمية تذكر وذلك لادراكهم بأن التركمان أقلية لا تشكل أي خطرٍ على مصالحهم الحيوية لموقعهم الجغرافي بين القوميتين الرئيسيتين العرب والكورد.
في العشرينات، كان التركمان يعتبرون أنفسهم جزءاً من العثمانيين، وشكلوا جمعية حماية كركوك، بالضبط على غرار الجمعيات التركية الموجودة آنذاك. وكانت إحدى المهام الرئيسية لهذه الجمعية هي الاتصال مع الأتراك وحثهم على عدم التعاون والإقرار لمطالب الشيخ محمود الحفيد. وكان آزدمير وهو ضابط تركي واسمه الحقيقي علي شفيق قد حضر إلى راوندوز لإرجاع سلطة الأتراك إليها، قد بعث بالرسائل لاطمئنان التركمان بأن تركيا لا تتعاون مع الشيخ محمود، علماً وحسب المصادر المتوفرة لدينا، اتفق الكماليون في العام 1922 مع الشيخ محمود بمعاهدة دفاع مشترك، وأن لا تتدخل تركيا في شؤون كوردستان.
علماً بأن أحد المطالب الرئيسية للشيخ محمود وللسكان في كركوك أن تكون كركوك ضمن جغرافية كوردستان، وهذا ما كان يخيف تلك الجمعية.
الأستاذ نوشيروان مصطفى:
الظاهر بأن التركمان قدماء في المنطقة، وهم أقدم من العرب في تلك الربوع، والمعروف بأنه بعد انحسار حكم القبيلتين التركمانيتين قره قوينلو وآق قوينلو رحلوا من المنطقة وبقي القليل منهم هناك.
المعروف أيضاً بأنه كان هناك خط تجاري يربط الإمبراطوريتين العثمانية، والصفوية يسمى بالطريق السلطاني، وكان هذا الطريق يمتد من ديار بكر إلى تلعفر، الموصل، أربيل، كركوك، ديالى، خانقين، ومن ثم كرمنشاه وإلى بلاد الهند.
كان لهذا الخط أهمية استراتيجية، لذلك عمدت السلطات إلى جلب أعداد غير قليلة من الأتراك واسكانهم بمحاذاة الطريق على شكل مخافر (بوليسية) لحماية هذا الخط ولراحة القوافل.
الدكتور جبار قادر:
في جميع المناطق التي كان العثمانيون يهزمون فيها، كانوا ينسحبون إلى آسيا الصغرى، التي تسمى اليوم بتركيا ما عدا كركوك. لذلك استقر الكثير من الموظفين والعسكر في هذه المنطقة، ففي العشرينات من القرن العشرين مثلاً: كانت هناك أربع عشرة مدرسة تركية، مقابل أربع مدارس فقط للكورد على الرغم من أن غالبية سكان كركوك كانوا من الكورد.
وحتى بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة والحاق ولاية الموصل بها، بقيت تلك المدارس على حالها.
والمعروف لدينا بأنه كان هناك خط تجاري يمتد من ديار بكر إلى كرمنشاه، ماراً، بالموصل، أربيل، كركوك، كفري، خانقين، ومن ثم كرمنشاه، مما حدا بالسلطات آنذاك بجلب أعداد غير قليلة من الترك واسكانهم على جانبي الطريق بهدف حماية القوافل.
لكن في حقيقة الأمر، إذا أتينا إلى تاريخ توطين التركمان في هذه الأراضي، ظهرت لنا ذلك على مرحلتين مختلفتين، أولها هي مجيء قسم منهم مع الشاه عباس الصفوي حين احتلاله كركوك في العام 1623م. لكن الوجبة الأكثر نزوحاً كانت مع احتلال نادر شاه المنطقة في العام 1743م.
وفيما بعد كان الإنكليز بحاجة إلى قوة توازن بين الكورد والعرب، ولهذا عندما تأسست الدولة العراقية أخذوا بتسجيل الكورد الفيليين كتبعية إيرانية، بينما سجلوا التركمان الذين جاؤوا من إيران كتبعية تركية، وبموجب هذا التسجيل تم لهؤلاء الحصول على الجنسية العراقية، وكان الهدف من وراء هذه السياسة المراوغة من قبل الإنكليز وتثبيتهم نهائياً في المنطقة. وكما ذكرت سلفاً كانوا يحاولون إيجاد الموازنة بين الكورد والتركمان، وكان الإنكليز بحاجة أيضاً إلى الموظفين التركمان الباقين من العهد العثماني، وحتى بعد رحيل الأتراك لم يتغير شيء في كركوك، وبقيت اللغة الرسمية في الدوائر هي اللغة التركية، إلى أن استطاعت الحكومة العراقية تدريجياً أن تثبت اللغة العربية محل اللغة التركية، وخاصة بعد المحاولات الكوردية المستمرة لنيل حقوقهم التاريخية في المدينة، والمعروف بأن قائد الفرقة الثانية ناظم الطبقجلي في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم كان يؤكد وبإلحاح على أن تكون اللغة الرسمية هي العربية، وأن يكون الحاكم في كركوك عربياً، ولعب دوراً غير قليل بدق الإسفين بين القوميتين الكوردية والتركمانية.
* أستاذ جامعي في القانون
* مهندس في شركة النفط في كركوك
* أستاذ جامعي ومؤرخ.[1]