#فؤاد حمه خورشيد#
تمارس الدول بموجب السيادة التي يمنحها اياها القانون الدولي سياسات شتى في علاقاتها الدولية السرية ( الاستخبارية) منها والعلنية ( الدبلوماسية) من أجل ابراز دورها ، أو مؤثراتها ، أو قوتها في الاحداث المحلية ،أو الاقليمية ، أو العالمية . والقوة في العلاقات الدولية لا تعني القوة العسكرية لوحدها ، بل هي قوة تاثير الدولة في سلوك دولة اخرى أو مجموعة دول من أجل تغيير نمط سلوكها بما ينسجم أو يتفق ومصالحها وستراتيجيتها . ويتم هذا التأثير عبر وسائل شتى سرية أو علنية تتضمن سياسة الاغراء بالمنح والمساعدات المتنوعة والحماية ، او سياسة التهديد والوعيد ، كالمناورات العسكرية ، أو الاحلاف المضادة ، وأخيرا التلويح بالحرب .
وقد يصدر التاثير عبر وسائل أنعم من ذلك ، عبر رسائل سرية مكتوبة ، أو مكشوفة، أوباسلوب إيحائي من خلال خطاب سياسي علني ، او مقابلة صحفية او تلفزيزنية يطلقها رئيس دولة متضمنا شفرة او تلميحا لاحداث التغيير المطلوب ، أو قد تصدر من آخر صاحب قرار فيها مثل وزير الخارجية أو وزير دفاعها ، وخاصة في اوقات الازمات والاضطرابات السياسية في اقليم جيوبولتيكي محدد أو واسع ، وذلك من أجل احداث التغيير المراد الذي يحقق المصالح المرجوة . عند ذاك يفترض بالمتلقي ان يفهم ويعي الغرض المقصود والمطلوب من تلك الرسالة وأن لا يسئ فهمها وتطبيقاتها كي لا يقع في خطأ تنفيذها الجيوبولتيكي الذي قدتكون له مردودات عكسية كارثيةو بتكلفه باهضة .
هنا ساورد أربعة نماذح لرسائل اطلقت بشكل مباشر او غير مباشر لاحداث تغيير ما في منطقتنا ، وكيفية تلقي الاخرين لها والاستجابة لمفهومها وتوجيهاتها الخاطئين ، ونتائحها العكسية المدمرة والمأساوية بسبب ذلك الفهم .
اولا : في عام 1974 ، عندما ازداد التوتر بين القيادة الكوردية وحكومة صدام حسين حول صيعة الحكم الذاتي المزمع اعلانه في 11-03- 1974 ، وفي اخر محاولة من القيادة الكوردية لتخفيف ذلك التوتر، ارسل البارزاني الخالد نجله المرحوم ادريس الى بغداد لمقابلة صدام حسين من اجل تاجيل اعلان نموذج الحكم الذاتي المشوه الذي اعده البعثيين من جانبهم ووفق هواهم الحزبي ومن دون مشاورة القيادة الكورديةأو التعاون معها بشأنه . كانت خلاصة رد صدام ( رسالته ) مرسلة للقائد مصطفى البارزاني عبر نجله السيد ادريس البارزاني كالاتي:
(اذا فرض القتال علينا سوف ننتصر اتعرف لماذا ؟ ... إن مصيركم يتوقف على مصير خلافاتنا مع ايران . إن مصدر خلافنا مع ايران هو مطالبة ايران بنصف شط العرب، فإذا استطعنا الحفاظ على وحدة الاراضي العراقية لن نقوم بتنازلات في هذا المجال. ولكن اذا كان علينا الاختيار بين نصف شط العرب ووحدة العراق سوف نتخلى عن شط العرب للحفاظ على العراق في حدوده التي نريدها . نحن نرجو الا تصبو الزيت في النار وتجعلونا نتجه الى الخيار الثاني . فاذا وجدنا انفسنا في خيارين ، بين كرامة العراق وشط العرب سوف نفاوض الايرانيين.)
هذه الرسالة لم يفهمها الكورد في حينها ولم يتخذوا الاحتياطات ازاء تهورات صدام وعنجهياته وتخريجاتة الملتوية ، فهو لا يعتبر التنازل عن شط العرب انتقاص لكرامة العراقيين بل ان منح الكورد حكما ذاتيا وفق اتفاقية 11 اذار 1970معه انتقاص لتلك الكرامة.
هذه الرسالة المهملة عملت عملها بحرفية مع تطور الاحداث الاقليمية لبلورة فكرة صدام في التنازل لايران مقابل وقف المساعدات الايرانية لهم .
فايران التي كانت تمثل الدعامة الاولى للمصالح الامريكية في منطقة الخليج والشرق الاوسط كانت محط اهتمام الولايات المتحدة في زمن الرئيسين نكسن وفورد والذان كان هنري كيسنجر يهدس لهما ساستهما الخارجية والذي كان يعلم باستعداد صدام للتنازل عن شط العرب لقاء وقف المساعدات الايرانية للكورد .يضاف الى ذلك تزايد مخاوف شاه ايران من مغبة تطور القتال في كوردستان الى حرب بين ايران والعراق من خلال تدفق الاسلحة السوفيتية لصدام بموجب معاهدة الصداقة لعام 1972 مع السوفييت ، وقيام أطقم الطيارين السوفييت بقيادة الطائرات وقصف مواقع البيشمه ركة ، كل هذه التطورات ساعدت كيسنجر على اقناع الشاه بقبول العرض العراقي ، وهكذا نجحت دبلوماسية كيسنجر في اقناع الطرفين الايراني والعراقي بحل هذه العقدة الجيوبولتيكية القديمة لصالح ايران بتبادل صفقتين هما ( وقف المساعدات للكورد مقابل تسليم نصف شط العرب ) . وهكذا وقع الشاه وصدام اتفاقية الجزائر في 6-03- 1975 وبقي الشعب الكوردي وحركته القومية التحررية الخاسر الوحيد في الساحة ،من هذا الصراع الجيوبولتيكي بعد ان حافظ صدام على كرامة العراقيين بتنازله عن نصف شط العرب لايران !، وأخمد كيسنجر احدى بؤر الصراع العراقي / الايراني في الشرق الاوسط ليتفرغ الى الجولة الثانية من عملية فك الارتباط بين القوات السورية واسرائيل.
ثانيا :في حزيران1988 كان جلال الطالباني في واشنطن وهناك استطاع ان يقابل أحد مسؤولي وزارة الخارجية الامريكية لسماع شكواه من استخدام صدام للاسلحة الكيمياوية لمدينة حلبجة ، وكان هدف الاجتماع بصيغة رسالة لابلاغ صدام عن استياء الولايات المتحدة من ذلك . مع ان بغداد ادانت ذلك الاجتماع بطبيعة الحال ، لكن الاسوأ ان هذا المسؤول الامريكي كان قد نسى ان الرئيس التركي كنعان ايفرين كان انذاك في واشنطن والذي اعرب عن امتعاضه عن ذلك اللقاء مع الطالباني ، وهذا ادى الى قيام وزير خارجية امريكا جورج شولتز بالتصريح عن عدم موافقته على ما قام به ذلك المسؤول مع الطالباني. هكذا تبقى كوردستان أسيرة حكم الجيوبولتيك الخاضع للدول السيادية المحتلة لها والتي تتحكم برقاب سكانها وترابهم .
عندما وصلت هذه الرسائل الى صدام حسين وجد في هذه الخطوات الدبلوماسية (رسالة )واضحة منحته نتائح عكسية لفهمه الخاطئ لها ، لانه اعتبرها ضوء اخضر لاستخدتم الاسلحة الكيمياوية ضد الكورد والتصرف بها كما يحب ، فقامت بغداد باستخدامها مجددا وبكثافة ووحشية ضد الكورد في شهر اب بقصف البيشمه ركة والمدنيين على حد سواء في قرى عديدة. بعد هذه الحادثة لم يجرؤ أي مسؤول أمريكي على لقاء أي مسؤول كوردي حتى عندما تغيرت الظروف بشكل جذري. ومع كل الجرائم التي ارتكبها صدام ضد الكورد لم تتخد لا امريكا ولا الاتحاد الاوربي ضدها اي خطوة من شانها معاقبة او لوم صدام . والسبب يكمن في ان نظام صدام رغم سياساته القمعية والدموية ضد ابناء شعبه لم يكن ليشكل اي تهديد لمصالحهم في الشرق الاوسط ولحين غزوه الكويت .
ثالثا :بعد اشتداد التوتر بين العراق والكويت عام 1990 وتحشيد العراق لقوات الحرس الجمهوري بكل صنوفها فضلا عن فرق عسكرية اخرى وجيشه الشعبي على الحدود العراقية / الكويتية وانشعال العالم بنوايا صدام ومغامراته و فيما اذا كانت هذه القوات هي للتهديد او التخويف أم للغزو والاحتلال . وكي يستطلع صدام رأي الولا يات المتحدة استدعى صدام السفيرة الامريكية ابريل كاثرين غلاسبي الى القصر الجمهوري في 25 تموز 1990 لشرح رؤياه حول الموضوع للقيادة الامريكية، وخلاصة ما تلقفه صدام من مقابلة وحديث السفيرة ، انها قالت له بأن قضية الكويت ليست مرتبطة بأمريكا ، وليس للولايات المتحدة رأي حول الصراعات العربية العربية مثل نزاعه مع الكويت ، وسبق هذا ان واشنطن اعلمت بغداد بان واشنطن ليست لديها أي التزامات دفاعية أو أمنية خاصة بالكويت . وكانت قراءة صدام الجيوبولتيكية الخاطئة لهدة الرسائل الامريكية تشير الى انه اقتنع بان الولا يات المتحدة سوف لن تتدخل في حالة احتلالة للكويت ، في وقت يعرف الجميع بان الكويت جيوبولتيكيا بالنسبة لامريكا هي جزء هام من منظومة امن الخليج ونفطه . لذا فان احتلاله للكويت احدث صدمة هزت العالم واثارته ضد سياسة العراق العدوانية .
بهذا التصور وهذه القراءة الخاطئة لرسالة الولايات المتحدة دخل صدام اراضي الكويت واحتلها . فكانت الكارثة الاولى التي حلت به وبجيشه ونظام حكمه ، والرسالة العسكرية الامريكية الاولى لانهاء حكمه .
رابعا :انتفاضة الشعب العراقي ضد حكم صدام عام 1991
لوقف نزيف الدم الذي اراقه نظام صدام وبسبب ترسانته من الاسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا وعدم انصياع نظامة للقرارات الاممية الدولية خطب الرئيس الامريكي جورح بوش في 12 -02- 199 قال فيه ( هناك طريق اخر لوقف نزيف الدم ، على الجيش العراقي والشعب العراقي أن ياحملوا مسؤوليهم بأيديهم وان يجبروا الدكتاتور صدام حسين على التخلي جانبا) .
وعندما تناولت وسائل الاعلام هذا الخطاب بالتحليل وتحديد مقاصده ومراميه ، اعتقد ت الاحزاب العراقية المعارضة في الداخل بان ذلك الخطاب رسالة امريكية لدعم الانتفاضة واسقاط النظام ، وهكذا بدأت الانتفاضة في مدن الجنوب ثم اعقبتها انتفاضة مدن اقليم كوردستان.
يقول كويل لورنس في كتابه ( الامة المخفية) اشارة الى خطاب بوش انف الذكر : (كان هذا الكلام بداية لسياسة الطلقة الواحدة إذ كانت واشنطن تتوقع ان يقوم احد جنرالات صدام باطلاق رصاصة على رأس صدام وتغيير الوضع ، إلا ان وسائل الاعلام الغربية التي نقلت ذلك الخطاب وعلقت عليه فهمه الشيعة والكورد على انه إشعار ببدء الانتفاضة ضد نظامة). وفي حقيقة الامر إن الادارة الامريكية لم تكن راغبة في انتصار الانتفاضة الشعبية ضد صدام ، بل كانت ترى ان الانسب والانجح جيوبولتيكيا في العراق هو حدوث انقلاب عسكري وليس شعبي ضد صدام . لذا عندما خرق صدام قرار منعه من استخدام الطائرات في معاركه الداخلية واستخدم بعض المروحيات لضرب الانتفاضة ووصول( رسالة )امريكا بان المروحيات ليست مشمولة بقرار المنع ، قام صدام باستخدم كل مروحيات جيشه لضرب الانتفاضتين بالقنابل والصواريخ في كل مدن الجنوب وكوردستان ، فقتل الالاف واخمد انتفاضة الجنوب ، الا ان تطورات الوضع الماساوي في كوردستان وصدور القرار الاممي 688 في 5-04- 1991بخصوص منطقة حظر الطيران شمال خط عرض 36 درجة شمالا ، منع طائرات صدام من ملاحقة الانتفاضة فسلمت كوردستان من البطش، واستسلمت جميع القوات الحكوميةفي كوردستان لقوات البيشمه ركة وتطور الوضع فيها بعد ذلك الى الفدرالية الحالية .
واخيرا فإن الرسائل في العلاقات الدولية اصبحت وسيلة من وسائل التاثير الجيوبولتيكي من بعيد لتغيير موازين القوى ، أو لخلط الاوراق لتغيير الاوضاع السياسية او العسكرية في منطقة جغرافية ما ، او لرسم خريطة جديدة لاصطفاف القوى المراد توحيد وسياساتها في اقليم معين وجعله اقليما جيوبولتيكيا مواليا بما يخدم مصالح القوة اللاعبة الاساسية الساعية لذلك التغيير والمصدرة لتلك الرسائل . وإن اصدار الرسائل في هذا المجال لا يتوقف على دولة بعينها ، بل يمكن ان تصدر من أية دولة تقتضي مصالحها تنفيذ هذا الاسلوب من التاثير في علاقاتها الدولية .[1]