النّقشبنْديَّةُ: النّسخةُ الكورديَّةُ للإسلامِ الاجتماعي….
د. آزاد أحمد علي
مجلة الحوار – العدد /70/ – صيف 2017
الكتابةُ عن الطّريقةِ الصوفيَّة النّقشبنديَّة الأكثرُ انتشاراً والأطول عمراً في العالمِ الإسلاميّ تتطلّبُ الكثيرَ من الجهدِ والوقت، بحيثُ لن توفي حقّها العديد من المجلّداتِ، وهي كذلك، فقد كتبتْ حولَها وعنْها عشراتٌ، بل مئاتُ الكتبِ والأبحاث، ما أودُّ مقاربته والسعيَ إليه، بمناسبةِ إعدادِ ملفٍّ عن الإسلامِ السياسيّ ضمنَ المجتمعِ الكرديِّ السوريِّ في العددِ (70) من مجلَّة الحوار، هو التَّعريفُ بهذهِ الطريقة أولاً، تسليطُ الضوءِ على دور الكوردِ التأسيسي للنقشبنديَّة ثانياً، وأخيراً تأثيرُها المركَّب على المجتمعِ السوريِّ المعاصرِ، عرباً وكورداً وآخرينَ.
كانَ خيرُ مساعدٍ لنا في هذه المقاربةِ مجموعة من الأبحاثِ القيِّمة للبروفيسورِ بطرس أبو منّة (مواليد فلسطين 1932). وردتْ هذه الأبحاثُ في كتابِ: دراساتٌ حولَ مولانا خالد والخالديَّة. والمقصودُ هيَ النقْشَبنْديَّةُ المنسوبةُ للشّيخِ خالدٍ النّقْشبنْديِّ.
الطريقةُ النَّقشَبنْديَّةُ الصُّوفيَّة
هي الطّريقةُ الصُّوفية الأكثرُ انتشاراً في العالمِ الإسلاميّ، فالنّقشَبنْديَّة التي كانتْ ومازالتْ من أكبر الطوائفِ الصُّوفيَّة، تُنتسبُ إلى محمَّدٍ بهاء الدين نقْشَبنْد (شاه نقشَبنْد)، الّذي عاشَ في آسيا الوسطى. لكنْ ليستْ هنالك تفاصيٌل حولَ حياته. افترضتْ أغلبُ الدِّراساتِ أنَّ اسم النّقْشبنْديَّة اشتقَ من اسم مؤسّسها، فعرفتْ به، لكنّ تظلُّ هذه الرّوايةُ ضعيفةً، إذ نجدْ العكس، حيثُ نعتقدُ أنَّ النّقشبنديَّةَ هيَ الّتي أعطتْ الاسم والّلقب لمؤسّسِها، أو أحدِ أقدمِ مشايخِها، فهي لم تولدْ مع بهاءِ الدين عندَ وجودِه في آسيا الوسطى، بدليلين أوّليين، في المقدّمة منهما، جذرُ الاسم ومصدُره الكورديّ الأصيل، كما أنَّ الصُّوفيَّة حركةٌ فكريَّةٌ روحانيَّةٌ قديمةٌ في العالم الإسلاميّ، وُلدتْ على الأرجحِ في العراقِ وكوردستان قبْلَ آسيا الوسطى.
أمّا النَّقشبنْديَّة لغةٌ فهيَ مشتقّةٌ ومنسوبةٌ إلى كلمةِ: نقش بنْد = النقَّاش، وهي على وزن (سولْ بنْد = الاسكافيُّ)، كذلكَ على وزن (نالْ بنْد = صانع النّعّال)، وجميعُها باللّغة الكورديَّة. فكلمةُ نقْشبنْد ليستْ من قاموسِ لغاتِ آسيا الوسطى وهي ليستْ تركيةَ بالتأكيدِ، وإنْ صدفَ وكان لها جذرٌ عربيٌّ (نقش) فإنّ استخدامَه وتصريفه بإضافةِ لاحقةِ بند = صانع، أصّلتْ كورديَّتها. والنَّقشبنْديَّة دلالةٌ ترسَّخت كطريقةٍ متأتّيةِ من حبِّ الله، لدرجةِ نقشِ اسمهِ الخالقِ على القلبِ، حسب العديدِ من الرواياتِ.
النُّقطة الجوهريَّة الثانية تكمنُ في أنَّ التصوُّفَ نشأَ في بلادِ الأكرادِ وفي جوارِها، على الرّغمِ من أنَّنا نعتقدُ أنَّ أوائلَ المتصوِّفة والزُّهّاد كانوا عرباً، لكنَّ التّصوُّف ترسَّخَ وتبلورَ وتمّتَ إعادة إحيائِه وإنتاجِه في كوردستان وإيران، قبلَ الهند.
أمَّا الرِّوايةُ الّتي تُنسبُ الطّريقة للتُّرك، فهي روايةٌ ضعيفةٌ ترصدُ مرحلةً متأخِّرة في تاريخ التّصوّف. فمن يفترضُ أنَّ أحمد يسوي المتوفَّى عام (1167م)، هو أوّلُ متصوُّفٍ، مبالغ فيه، فقد يكونُ أوّلَ من نشرها بينَ الأتراك.
ما سنعرضهُ في هذه المناسبةِ التعريفيَّة بالنَّقشبنْديَّة هو تمهيدٌ للتركيز على المرحلةِ الثّالثة والأخيرة من هذه الطّريقةِ، والتي توصفُ أحياناً بالنّقشبنْديَّةِ المُجدّديَّة، بناءً على حقيقة إحيائِها وتجديدِها على يدِ الشَّيخ عبد الله الدهلوي وخليفته خالد النّقشبنْديّ، بدءاً بمطلع القرنِ التّاسع عشرَ.
فما هي حقيقةُ النّقشبنْديَّة المُجدّديَّة التي أسّسها ونشرَها مولانا خالد في عمومِ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، والتي تعدُّ المرحلةَ الثَّالثة والمهمَّة في تاريخِ التَّصوُّفِ الإسلاميِّ. النَّقشبنْديَّة على الرّغمِ من إسلاميتِها وروحانيَّتِها ومشاركةِ العديد من أبناءِ شعوبِ الشّرقِ في تأسيسها وتطويرِها، إلّا أنّها تبقى في المحصّلةِ طبعةً كورديَّة منقّحةً للإسلام السلفيِّ، محاولةً تجديديَّةً، إصلاحيَّة اجتماعيَّةً ودينيَّةً في الوقتِ نفسِهِ.
مَنْ هوَ خالد النَّقشبنْديُّ؟
وُلِدَ (ضياءُ الدّينِ خالد حسين) المعروفُ باسم مولانا خالد النّقشبنْديّ في بلدةِ قرداغ قربَ السّليمانيَّة، حوالي عام (1190ﮪ/1779م)، لعائلةٍ يعودُ نسبُها إلى عشيرةِ الجاف، وهيَ عشيرةٌ كبيرةٌ في منطقةِ شهرزور بكوردستان العراق. بدأَ حياتَه كأيِّ طفلٍ في المنطقةِ، لم يكنْ هنالك ما هوَ غيرُ اعتياديٍّ خلالَ سنوات عمرهِ الأولى ودراسته. “من الواضحِ أنَّه ينتمي إلى جيلٍ جديدٍ من الشَّبابِ الكوردِ الذين كانوا يبحثون عن التغيير الاجتماعيِّ عن طريق التعلُّم. لكنَّه اكتسبَ كلَّ تعلُّمه تقريباً على أيدي معلمينَ محليين في كوردستان، أولا في مدينتهِ الأصليَّة، وبعدَ ذلك في السّليمانيَّةِ وأماكنَ أخرى. وقد غامرَ مرّةً واحدةً فقط للذّهاب إلى بغدادَ لدراسةِ مختصرِ كتاب المُنتهى للشافعيِّ في القانون. اختارَ أيضاً دراسة شيءٍ من الرّياضيات والهندسةِ والمنطقِ وعلمِ الفلك، التي كان يدرسُها وقت ذاك علماء كورد.”(1)
بدايةُ خالد مع التَّصوُّف
كانَ مولانا خالد يحلمُ في أن يؤسِّس لحركةٍ، أو نشاطٍ دينيٍّ غير اعتياديٍّ، لذلك وبعدَ أن أدّى فريضةَ الحجِّ عادَ إلى مدينة السليمانيَّة عن طريق دمشق واستأنفَ عملَهُ كمعلّمٍ في مدرسة كورديَّة تقليديَّة. وبعدَ مرورِ ثلاث سنواتِ اجتازَ المدينة رجلٌ هنديٌّ مسلمٌ يُدعى ميرزا رحيم بك، وهوَ في طريقهِ من إسطنبول إلى الهندِ. وكان ميرزا رحيم واحداً من مريدي الشّيخِ الصُّوفي الهنديّ شاه غلام علي “أو الشَّيخ عبد الله دهلوي” الذي كان رئيسَ الزاويةِ النَّقشبنْديَّة المُجدّديَّة في دلهي.(2)
من هذهِ العلاقة تطوّرت أهدافُ خالد للذّهاب للهندِ وإتّباع طريقة الشّيخ دهلوي. وقد تحقّق ذلك وتعلّم الطريقةَ على يدِ الدّهلوي بوقتٍ قصير، ثمَّ عادَ إلى كوردستان. حيثُ أعادَ تأسيسَ الطريقةِ النَّقشبنْديَّة بدءاً بعام (1808م). لقد عاد إلى السّليمانيَّة مشحوناً بطاقةٍ عمليَّة تنظيميَّة لنشر النَّقشبنْديَّة، فضلاً عن طاقةٍ روحيَّةٍ وأحلام كبيرةٍ للقيام بحركةٍ إصلاحيَّة، سواءٌ بشقهِ الاجتماعيّ أو الدّينيّ، لذلك توجَّه في مَنْحَى مثاليٍّ، ساعيا السير على خُطى الرَّسول، في مسعاه لإحياءِ الإسلام الصَّحيح: “إنَّ من معتقداتِ خالد هو أنَّ الأمَّة سارتْ على طريقِ الضَّلال، وينبغي إرجاعُها إلى الطريقِ القويم. ونتيجةً لذلك الاعتقاد فإنَّ خالدَ كان خلالَ رسائله يحثُّ على تصحيحِ الاعتقاد طبقاً لمبادئ أهلِ السّنة. كما كان يطالبُ خُلفاءَه بترويجِ الشّريعة…كان يقولُ: أنَّ الطريقة النّقشبنْديَّة تتضمّنُ الإمساكَ قويّاً بالشريعةِ وإحياءِ السّنّة وتجنُّب البدعِ السيئة … إنَّ السُّبلَ إلى الله موصده ما خلا أولئك الذين يقتفون خطواتِ النَّبي.”(3)
وعلى الرّغم من وجودِ هذا الهدف الدينيّ الصّرفِ، السلفيِّ الصّريح، لكنَّ حركة خالدٍ عَبّرتْ عن توجهٍ اجتماعيٍّ لجيلٍ من الشّبابِ الكورد مطلعَ القرن التّاسعَ عشرَ، وربَّما جاءتْ كثمرةٍ لطموحاتهم وتزايُد معارفهم العلميَّة. نجحَ خالدٌ في المحصّلة بتأسيس حركةٍ اجتماعيَّة دينيَّة شعبيَّة واسعةٍ ونخبويَّة كورديَّة في المقام الأوّل، تعتمدُ على شريحة المتعلّمينَ والعلماء. ثمّ نجحَ في تخطّي المحليّةِ إلى نطاقِ الإقليميّ، لدرجةٍ أن وصلَ في أوجِ نجاحِهِ إلى أغلبِ مناطقِ العالم الإسلاميِّ، عن طريق الأتباع والخُلفاء، حتّى حقّق هيمنةً روحيّةً واجتماعيَّةً عن طريق خلفائِه الذين بلغوا السبعينَ خليفة. يحلّلُ أبو منَّة ظاهرةَ التّوسُّع هذه بأنَّ: “الشَّيخ خالد كان يمثّلُ الفئةَ الجديدةَ من الشبابِ الأكراد، كان العديدُ منهم قد درسوا في مدارسِ المناطق الكرديَّة ونأوا بأنفسِهم عن التّشكيلات العشائريَّة. وحالما أصبحَ الشّيخ خالد معروفاً كمرشد صوفيّ فإنَّ العديد من هؤلاء الشباب جاؤوا إليه في السليمانيَّة وبغدادَ ليدخلوا في طريقتهِ الجديدة. علينا هنا أن نفرّقَ بينَ مُريدٍ أو سالكٍ وخليفةٍ: فالأوّلُ هو مُريدٌ، بشكلٍ عامٍ وهنالك أعداد كثيرة جداً من المريدينَ دخلوا إلى الطّريقةِ على يدِ الشَّيخ خالد نفسِهِ أو على أيادي خلفائه. وهؤلاءُ الأتباع تمَّ تمرينهم على ممارسة الطقوس كحلقاتِ الذّكرِ وكانَ يطلبُ إليهم الالتزام بآدابِ (قواعد) الطّريقة. أمَّا الآخرونَ فهم أولئكَ الذين كان خالدٌ يستمرُّ في تمرينهم. جاعلاً منهم خلفاءَ له، ويَضعُ فيهم ثقتهُ لنشرِ الطّريقةِ. وخلالَ مدّةِ ستّةَ عشرَ عاماً، أيّ بينَ عودتهِ من الهند وحتَّى وفاتهِ المبكّرِ عام 1827م فإنَّ خالد نجحَ في تنصيبِ ليسَ أقلّ من سبعينَ خليفةً، وهو عددٌ كبيرٌ بكلِّ المقاييسِ. وقامَ خالدٌ بإرسالِ خلفائِهِ إلى البلداتِ والمدُنِ في العراقِ وكردستان والأناضول الشرقيَّة والقوقاز ومكّة والمدينة ودمشق وإسطنبول وأماكنَ أخرى… وبهذا الأسلوبِ انتشرتِ الطّريقةُ بشكلٍ عريضٍ خلالَ وقتٍ قصيرٍ.”(4)
لقد أسس خالد لحركة نهضوية تجديديه، خاصة عندما تمكن من استقطاب الشباب الكوردي نحو التعلم والقيام بدور تنظيمي دعوي روحاني – اجتماعي. وثمة من يربط حركته بتحسن ملموس في مستوى المجتمعِ الكردستانيّ، عندما أصبحتِ النَّقشبنْديَّة قوَّةً روحيَّةً، قانونيَّةً ومعنويَّةً لضبطِ درجةِ انحرافِ المجتمعِ الكردستانيِّ ونزوعهِ نحوَ العنفِ والفوضَى.
“أمَّا عن المصادرِ الّتي تدَّعي أنَّ خالداً جاءَ بنهج جديدٍ للنّقشبنْديَّه حيثُ نشرَ روح الزّهد والتّقوى بفضلِ طريقته، فقلّت أحداثُ السّرقةِ والنّهبِ والقتلِ وسادَ الهدوءَ والأمانَ في المنطقة الكرديَّة في العراق. فهذا له أساسُه الصَّحيح واختفتِ الجرائمُ بتأثيرِ خالد وطريقتهِ النَّقشبنْديَّة الخالديَّة بسببِ من الطّاعةِ المطلقةِ التي أظهرتْها جماهيرُ النّقشبنْديَّة له ولخلفائِهِ… فكانتِ المنطقةِ الكرديَّة يهدّدُها قطّاع الطرقِ وكثيراً ما تعرّضتْ لأعمالِ السّلبِ والنّهبِ وبعد أن انخرطَ الأكرادُ في سلك النّقشبنْديَّة لوحظَ هدوءٌ عجيبٌ في أحداثِ السّلبِ والسّرقة وخفت حدّة الجرائمِ في مناطقِ تواجُدِهم …ويبدو لسرِّ الطريقةِ وما يعرف لديهم بالرابطةِ لهُ أثرهُ العميق في تهدئةِ الأعصاب وقتلِ نوازعِ الشّرِّ والعدوانِ في النّفسِ البشريَّة. كما شهدْنا نفس هذه التطوّرات بفضل النّقشبنْديَّة في تركيا. ما منْ شيخٍ من شيوخهم يهتمُّ بتطبيق الرابطةِ إلّا وارتفعَ شأنُهُ وذاعَ صيتهُ ودامت المشيخةُ في أسرتهِ تتوارثُها جيلاً بعدَ جيلٍ كالأرواسيين وأتباعهم من شيوخ الأكرادِ والترك. والغايةُ من الأدعيةِ إنَّما هي ترويضُ المريدِ على تبعيةِ الشَّيخِ والاستسلام له بكلِّ ما يملك من مالٍ وجاهٍ وروحٍ بكاملِ الرّضا والإخلاص.”(5)
يمكنُ القولُ بأنَّ مولانا خالد النّقشبنْديّ قد وضعَ المدماكَ الأوّلَ لتأسيسِ نخبةٍ مدنيَّةٍ كورديَّة، انطلقتْ من السّليمانيَّة نحوَ كافةِ مناطقِ كوردستان. ومن ثمَّ إلى باقي أرجاءِ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة وخاصَّة بلاد الشام، وعاصمتها دمشق الشّام.
من السليمانيَّة إلى دمشقَ
يبدو أنَّ السليمانيَّة ضاقتْ به، كما أنَّ القناصل والموفدينَ البريطانيينَ أثاروا حولهُ الشّكوكَ، فضلاً عن أنَّ السّلطة الدنيويَّة لآلَ بابانَ في السّليمانيَّة لم ترتاح لنفوذهِ الديني المتصاعد، كما أنَّ خالداً نفسَهُ كان يفضّلُ العيشَ في مدينةٍ كبيرةٍ، خاصَّةً إنْ كانت ذات طابع مقدَّس، لذلك فضّلَ دمشقَ على بغدادَ الذي جرَّبها من قبل. ويفسّر أبو منّة توجُّهَهُ إلى دمشق في أنَّ المناطقَ الكورديَّة لم تعدْ تستوعبُ حركتَهُ الواسعة، ولم توفّر بيئة حضريَّة كافية لتمدُّدها وانتعاشها: “إنَّ الأمرَ المهمَّ بالنّسبةِ للنّقشبنْديَّة هو أنَّها طريقةٌ مدينيّة Urban، ولكونِها كذلك فإنَّها انتشرتْ بشكلٍ أساسيٍّ بينَ الطّبقات العُليا والشرائحِ الأكثر تعليماً في المجتمع. وقد كتبَ الشَّيخُ خالدٌ إلى أحد مريديهِ قائلاً: لا تدخل في الطّريقة إلّا العلماء المتميّزين. وبتعبيرٍ آخر، فقد كانَ هنالك بشكلٍ عام تبايُن ما بينَ طبيعةِ الطّريقةِ النّقشبنديَّة وسمةِ المناطق الكورديَّة، التي كانتْ ريفيَّةً أساسا مع وجود مدنٍ وأسواق market towns صغيرة. ويبدو أنَّ السّليمانيَّة هيَّأت للشَّيخ خالد فرصةً محدودةً في أحسن الأحوال، ففي هذهِ المرحلةِ كانتِ الغالبيةُ العظمى من أتباعِ الطريقةِ من الكورد، ويبدو أنَّه كانَ متلهِّفاً إلى نشرِها في مناطق أخرى.”(6) لذلك رحلَ وهاجرَ إلى دمشقَ، كقبلةٍ سابقةٍ ومعتادةٍ للمتصوّفينَ والمجاهدين الأكراد، كونها توصفُ أرضاً مقدَّسة، بناءً على الرّوايات التي كانت تروّجُ وتنتشرُ في المجتمعاتِ الإسلاميَّة الكوردستانيَّة طوالَ قرونٍ.
النَّقشبنْديَّة أعادتِ الرّوح إلى دمشقَ
يبدو أنَّ دمشقَ كانتْ تنتظرُ أيضاً من يساهمُ في إحياءِ دورها الروحي، بعد أنْ تراجعَ خلالَ المرحلة الأولى من الحكمِ العثماني، لذلك ثمَّةَ روايات عديدة يتمسَّك بها البروفيسور أبو منَّة بأنَّ الخالديَّة ساهمتْ في إحياء النَّهضة الدينيَّة في دمشقَ مطلعِ القرنِ التاسعَ عشرَ: “يضيفُ ابنُ عابدين قوله(7): أنَّ الشّيخَ خالد قامَ بإحياء العديد من المساجدِ في دمشقَ عن طريق إقامةِ الصّلاةِ فيها وإقامة حلقاتِ الذّكر داخلها، بعد أن كانتِ المساجدُ آيلةً إلى السّقوط وتعاني الإهمالَ. وبكلماتٍ أخرى فإنَّ مجيءَ الشَّيخ خالد إلى دمشقَ كانت له درجةٌ من التأثير في تنشيطِها.”(8)
لقد أثّرت النّقشبنْديَّة بعمقٍ على دور دمشقَ الدّينيّ وبالتّالي السياسيّ، وكذلك ساهمتِ النَّقشبنْديَّة في تفعيلِ الحضورِ الاجتماعيِّ البشريِّ الكرديِّ في دمشق وتجديدِها بعدَ المرحلة الأيوبيَّة. فبعدَ انتقالِ العاصمةِ إلى إستانبول، لم تستقبلْ دمشق الكثير من المهاجرينَ، وربَّما تراجعُ عددِ سكانِها بسبب الأوبئة، لكنَّ النّقشبنْديَّة جدَّدت وشجَّعت الهجرةَ إليها، وخاصَّة من مناطقِ كوردستان المختلفةِ التابعةِ للحكمِ العثماني. فالحضورُ الكرديُّ عن طريق النّقشبنْديَّة ومن خلالها والهجرة إلى دمشقَ تزايدَ بعدَ مجيءِ الشّيخ خالد إليها، بل تواصلت حتّى نهايةِ العهد العثمانيّ: “بالرّغمِ من الحضورِ الهائلِ للخالديَّة في دمشقَ فأنَّ موتَ خالد المبكر حرّم الطريقةَ من رأسها الأكثر إلهاماً وجاذبيَّة، وجعلها تحتلُّ موقعاً هامشياً داخلَ المشهد الدينيِّ في المدينة. وقد ظلَّت الطريقةُ على هذهِ الحالِ حتّى وصولِ الشَّيخ عيسى الكرديِّ من جنوبِ شرقِ الأناضول في نهايةِ الثّمانيناتِ من القرنِ التّاسعَ عشرَ ونجحَ في إنعاشِ حظوظِ الخالديَّة في دمشقَ خلالَ العقودِ التّالية”.(9)
تبعَ الشّيخُ عيسى ملالي ورجالَ دين كورد آخرون، إذ تواصلَ الحضورُ الدينيُّ والاجتماعيُّ الكرديُّ في بلادِ الشَّام عموماً ودمشقَ خصوصاً، كما ترسَّخَ دورُ العائلاتِ والسّلالاتِ الدينيَّة الصوفيَّة في مدينةِ دمشقَ، سواءٌ كأتباع للشَّيخ عيسى الكردي أو غيره، ممّن كانَ لهم دورٌ دينيٌّ واجتماعيٌّ مؤثّرٌ في مدينةِ دمشقَ، كانت هذه الظاهرةُ واضحةً حتّى المراحلِ والسّنواتِ الأخيرة، حيثُ كان أبرزُ نموذجينِ لاستمراريَّة هذا التأثيرِ والنفوذِ الدينيِّ، عائلتي كفتارو والبوطي. لقد ترسَّخ فعَّاليَّة عائلة كفتارو عندما تقلَّد أحمد كفتارو منصبَ مفتيِّ الجمهوريَّة، كما أنَّ عائلة ملا رمضان البوطي، والد الدكتور محمد سعيد البوطي، قامتْ أيضاً بدورٍ مهمٍّ في مسيرةِ نشرِ التصوُّفِ.
إشكاليَّة دورِ الطريقة النَّقشبنْديَّة السياسيّ
مناقشةُ الدور السياسيِّ للطُّرق الصوفيَّة عموماً والنّقشبنْديَّة خصوصاً، سيستغرقُ وقتاً طويلاً، فضلاً عن أنَّه سجالٌ فكريٌّ عميقٌ وشاق. لأنَّها مسألةٌ إشكاليّةٌ بامتياز، فالصّوفيةُ في الجوهرِ هي عمليةُ تخليصِ الدّين من وزرِ السياسةِ وتنقية لها من سطوةِ ومثالبِ الحكمِ. لكنَّها لم تتمكّنْ أن تظلَّ بعيدةً عن السّياسة والحكم بطريقةٍ غير مباشرة، خاصَّة بعد أن تحوَّلت إلى حركةٍ جماهيريَّةٍ منظّمةٍ، قادرةٍ على تعبئةِ جموعِ المؤمنينَ وتوجيههم. فقد استغلَّتها الخلافةُ العثمانيَّة، على الرّغمِ من سعي مولانا خالد في جعلِها بعيدةً عن نفوذِ العثمانيينَ، وحرصه على استقلاليَّة التكايا ماليَّاً عن السّلطاتِ العثمانيَّة. لكنْ ونظراً لاعتدالِها ومرونتِها اتّجاه شكلِ الحكمِ العثمانيِّ وتجنُّبِ الخوض في مدى مشروعيتهِ، وقياسهِ بدقَّة على مقياس الشريعةِ، فقد تمَّ ترجيحُ الرأيِّ القائلِ بأنَّ دورَ النَّقشبنْديَّة السياسيَّ تجلَّى في مساندتِها للدّولة العثمانيَّة ضدَّ الثوراتِ وحركاتِ المعارضةِ الّتي كانت تندلعُ ضمنَ أرضِ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة بينَ الفينةِ والأخرى. سواءٌ أعلى الصَّعيدِ الخارجيِّ في مواجهةِ الغربِ المسيحيِّ، أمْ الداخليّ والإسلاميّ في مواجهةِ إيرانَ وأيديولوجيتِها الشَّيعيَّة الصَّفويَّة.
“ثمَّةَ تلميحاتٌ في مصادر شتَّى تشير إلى أنَّ النَّقشبنْديَّةَ رفعتْ من شأنِ العقيدةِ الإسلاميَّة. وهذا ما ألفيناهُ بالفعلِ في نشاطِ النَّقشبنْديَّة في الدّفاع عن المذهبِ السّنّيِّ والحدِّ من المدِّ الشّيعيِّ الإيرانيِّ إبّانَ حكم الدولةِ العثمانيَّة التي طالما صانتِ المذهبَ السّنّيَّ وبذلتْ ما وسْعِها من جهدٍ لتحجيم النّشاط الشيعيِّ الإيرانيِّ. وكان للنّقشبنْديَّة دورٌ في إخمادِ الحركةِ الوهابيَّة التي تمثّل الفكرَ السلفيَّ. وقد استغلّتِ الدَّولةُ العثمانيَّة التنافرَ الدينيَّ بينَ الفريقينِ أيّما استغلال وحرّضت خالدَ النّقشبنْديِّ في المرحلةِ (البغداديَّة من حياتهِ) ضدَّ الوهابيينَ. وممَّا يدلُّ على شيوع الطريقةِ في الأراضي العثمانيَّة على أواخر عهدِها وجود خمسةٍ وستينَ تكية نقشبنْديَّة في إستانبول وحدَها ويسجّلُ المؤلّفون من التُّرك أنّ الطريقةَ النّقشبنْديَّة خدمتِ الثّقافة التُّركية وسجّلت في تراثِها الأدبيِّ المعارفَ والموروثاتِ الشعبيَّة التركيَّة.”(10)
هذا وقد لعبتِ النَّقشبنْديَّة دوراً روحيَّاً وتهذيبيَّاً وتربويَّاَ عامّاً في المجتمعات الإسلاميَّة، وعلى ما يبدو كونها ذات منشَأ كورديٍّ، فقد ساهمت في بلورةِ وتمايزِ الهُويَّة الكورديَّة القوميَّة أيضاً، وساهمت حتّى في بلورةِ الفكرِ القوميِّ التحرُّري الكوردستانيِّ، خاصَّةً إذا علمنا، وكتأكيد على صحّةِ هذهِ الفكرة أنَّ أوّل روادِ الحركة ِالتحرُّريَّة الكوردستانيَّة في شمذينان (هكاري) كانوا من أتباعِ وربَّما خلفاء مولانا خالد النّقشبنْديِّ: “من أوائلِ خلفاء خالد هناك سيد طه النهري من حكاري، وهو ذو عقليَّةٍ سياسيَّةٍ، أكثر ربَّما من جميعِ خلفاءِ خالد الآخرينَ. وكانَ في الأصل يتبع الطريقة القادرية، ولهذا كان يعرف باسم القادري. ولكن عندما أصبح عمه، الذي كان في الأصلَ شيخاً قادريّاً، من أتباعِ خالد في عام 1229/1814، فإنَّ طهَ سار على خطوات عمِّه وتمَّ تمرينهُ على يدِ خالد وأصبحَ خليفتَهُ. وقد مارسَ سيّد طه، الذي كانَ أحدَ شيوخِ الخالديَّة البارزين في منطقةِ هكاري، تأثيراً كبيراً على أميرها نور الله بك، وكذلكَ على حليفِ هذا الأخيرِ، أميرِ بوتان، بدرخان.”(11)
خاتمةٌ ونتائجُ
من المُلاحظِ أنَّ النَّقشبنْديَّة الخالديَّة طريقةٌ روحيَّةٌ، وممارسة عمليَّة لتنظيم وتجديدِ الدّين الإسلاميِّ ضمنَ ظروفِ القرن التاسعَ عشرَ المشخّصة، بناءً على أولياتِ المرحلةِ. ابتكرها شيخٌ ورجلٌ ذو صفاتٍ قياديَّةٍ تنظيميَّة، فلم يكنْ مولانا خالد مفكراً ولا عرفانيَّاً، بل استفادَ من الفكرِ والتراثِ الصوفيِّ النورانيِّ والاشراقيِّ للعديد من المتصوّفة – المفكرينَ والفلاسفة، كذلك الشعراء العُشَّاق، بدءاً بجنيد البغدادي وأبو العباسِ الدّينوري، فجلالُ الدّين الروميّ والسهرورديّ وصولاً إلى ابن العربي وابن الفارض، ليتمَّ تحويل هذا التراث الروحانيّ إلى ممارسةٍ عمليَّةٍ منظّمةٍ ذات طابع تربوي تعليميٍّ، فاجتماعيٍّ سياسيٍّ في المحصّلةِ. وعلى ما يبدو كان مولانا خالد أحد هؤلاء القادة الصُّوفيينَ المجدِّدين والمنظّمينَ لحلقاتِ الذّكر المؤسّسين للتكايا وبالتّالي القادرينَ على ضبطِ وتوجيهِ، بل تجديدِ المجتمع المحلّيِّ الكوردستانيِّ، وإعادةِ الرُّوحِ إليه من جديد. أمَّا على الصَّعيدِ المناخ الإقليمي العام فلقد شكَّلت الخالديَّةُ أهمَّ حركةٍ دينيَّةٍ داخلَ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة خلالَ القرن التاسعَ عشرَ، إذ خلّفت وراءَها تأثيراً لم ينقطع، على الدَّولة والمجتمع. هذا ويحيلُ أبو منّة بهذا الصَّدد: “ظهورها وانتشارِها السّريع باعتبارهِ ردّ فعلٍ ضدّ الشعور العام بضعفِ الدَّولةِ وتفسُّخ المجتمعِ الإسلاميِّ. وممَّا زادَ في تعميق هذا الشّعور هو تلك الأحداث التي شهدتها إسطنبول في عامِ (1807 – 1808م) ومنها تنامي دور الحكّام المحليينَ من أمراء، باشاواتَ، أعيانَ، والإقطاعيينَ، الّذينَ كان ينظر إليهم باعتبارِهم سبباً لضعفِ السّلطنةِ، وتزامَنَ ذلك مع اندلاعِ الثّورة اليونانيَّة الّتي كانت مؤشِّرا على صعود الجاليات غيرِ المسلمةِ ماديَّاً وثقافيّاً.”
تُعدُّ النَّقشبنْديَّةُ من التّراث المشترك لمعظم الشعوب الإسلاميَّة، وكان لها دورٌ تهذيبيٌّ وتعليميٌّ في القرنينِ الماضيينِ، ولقد ساهمَ في تأصيلِ دورِ علماءِ الدّين الكوردِ في العالم الإسلاميِّ عموماً، بلاد الشام ومدينة دمشق بشكلٍ خاصٍّ، منذُ أوائل القرنِ التّاسعَ عشرَ.
لقد استغلَّ النّظامُ البعثيُّ طوال العقودِ الماضية التّيار الصُّوفيَّ الإسلاميَّ عموماً، والشّيوخ الأكرادَ خصوصاً في معركته السياسيَّة والأيديولوجيَّة ضدَّ خصومهِ في التّياراتِ السلفيَّة الإسلاميَّة. تجسَّد بشكلٍ ملموسٍ وعمليٍّ في استغلالهِ لدورِ ونفوذِ عائلتي كفتارو والبوطي. ممّا ولد ردّ فعلٍ معاكسٍ، تمثّل في موقف حركةِ الإخوانِ وكذلك القبيسيَّات في دمشق.
الاتّجاه الصُّوفيُّ الإسلاميُّ هو اتّجاه لا عنفيٌّ، سلميٌّ، يعتمدُ على الزّهد وتهذيبِ النّفسِ وحبِّ الإنسان، فهوَ أبعدُ اتّجاهٍ إسلاميٍّ عن احتمالِ توليدِ وممارسةِ العنف، على الرّغم من ذلك، فقد صدفَ أنَّ البروفيسور بطرس أبو منَّة قد اعتمدَ على جميس بلو في الرَّبط بينَ النَّقشبنْديَّة وممارسةِ العنف ضدّ المسيحيينَ في القرنِ التاسعَ عشرَ. يبدو أنَّ هذا الافتراضَ مبالغٌ فيه كثيراً، فتفسيرهم أنَّ الصُّوفيَّة حركةٌ فكريَّةٌ نورانيَّةٌ سلميَّةٌ روحانيَّةٌ مسالمةٌ كانت ستكذبُ الرِّوايات المتأخِّرة للعديد من المستشرقينَ في التّلميح بدورِ ومشاركةِ بعضِ الأوساط الكورديَّة في مجازرِ المسيحيينَ. لذلك جعلوا من هذا الاحتمالِ إمكانيَّةً مفتوحةً، لكنَّه يظلُّ غيرَ متوافقٍ مع منطقِ الصوفيَّة وبنيتها، وإنْ حدثتْ حالاتٌ من ممارسة العنف ضدّ المسيحيينَ فهي استثناءٌ تثبت قاعدة سلميَّة وروحانيَّة النَّقشبنْديَّة.
إنَّ النَّقشبنْديَّةَ كانتْ حركةَ تأصيل وتنوير في المجتمع الكورديِّ طوَّرته وساهمتْ في بلورة هويَّته الكردستانيَّة ورفضهِ لحكم الفرس أولا فالعثمانيينَ ثانياً. كتحصيلٍ حاصلٍ، على الرّغم من ابتعادِها عن الصّراعات السياسيَّة، لكنَّها كانت حركةً نظّمت وبلورتِ الخصوصيَّة الكرديَّة، خاصَّةً في مناطقها البعيدة عن المُدن الكبرى.
تظلُّ النَّقشبنْديَّة أحدَ الاتّجاهات الأكثر سلميَّةً وروحانيَّةً خلالَ تاريخ الإسلامِ والمسلمينَ، وكذلك الأبعد عن طلبِ السّلطان والحكم في العالمِ الإسلاميِّ، أو التنظير للصِّراع على الحكمِ أو الجهادِ ضدّ معتنقي الأديانِ الأخرى، فضلاً عن تبرير القتل. لذلك ظلَّت هدفاً رئيسياً للمتطرّفينَ والتكفيريينَ الإسلاميينَ، والدعويينَ الإسلاميينَ العروبيينَ.
(1)بطرس أبو منة، دراسات حول مولانا خالد والخالدية، ترجمة: د. عبد الفتاح بوتاني، د. خليل مراد، وآخرون. كوردستان العراق – 2009 ص121
(2)بطرس أبو منة، المرجع السابق. ص 123
(3)بطرس أبو منة، مرجع السابق. ص136
(4) المرجع السابق، ص 163- 164
(5)الدكتورة بديعة محمد عبد العال، النقشبندية نشأتها وتطورها لدي الترك، الطبعة الأولى: القاهرة، الدار الثقافية للنشر – 2009، ص22
(6)بطرس أبو منة، ص 62
(7)إمامُ الحنفية في الشام (1748_ 1836 م) – صاحب الحاشية المشهور.
(8) بطرس أبو منه، ص150
(9)مفتي الحافظ ونزار أباظة، تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، ص175. لمزيد من التفاصيل، راجع عمر رضا كحالة، كتاب: معجم المؤلفين.
(10)الدكتورة بديعة محمد عبد العال، النقشبندية نشأتها وتطورها لدى الترك، القاهرة، الدار الثقافية للنشر- 2009، ص22
(11) بطرس أبو منة، ص166- 167
[1]