مجازر ‹ما بعد الحداثة› في تركيا: إزالة ديرسم وحسنكيف من الوجود …
حسين جمو*
#Hisên Cimo#
تتعرض كردستان الشمالية في العام الحالي (2017) إلى أكبر عملية تغيير صناعي تستهدف الطبيعة والمجتمع منذ عقود طويلة. في هذا الجزء من العالم يتم استخدام الخطط الأمنية بغطاء تطويري حداثوي. كل المشاريع لفائدة سكان المنطقة. تتكرر كلمات التنمية وتحسين المعيشة في وسائل إعلام الدولة التي كان ‹التطوير› أيديولوجيا أمنية وليس عقلية معرفية لديها. أيّ تطوير لا يخدم خطة أمنية سرية لا وجود له في أي منطقة كردية.
هناك مشروعان كبيران بغرض التدمير يجري العمل عليهما حالياً. إزالة كل من ديرسم وحسنكيف من الوجود.
منذ سنوات يتم إحراق مساحات واسعة من غابات ديرسم (المعروفة باسم تونجلي لدى الدولة التركية) بهدف إنشاء 8 محطات لتوليد الطاقة الكهرومائية و12 سداً. المشروع يشمل 50 كيلومتراً من امتداد الوادي شمال المدينة. تضم منطقة الوادي 5 آلاف نوع نباتي لا يوجد منها في أي مكان آخر في العالم، وهناك أنواع هائلة من الحيوانات النادرة مهددة بالانقراض. اللافت أن معظم الأبحاث العلمية في المنطقة توقفت بموجب قانون الطوارئ الذي فرضته الدولة نتيجة الحرب التي شنتها ضد حزب العمال الكردستاني. بالتالي، قانون الطوارئ مدخل لمشاريع اقتصادية ربحية أولاً، وعلى المدى البعيد تحقق هذه المشروعات الكبيرة أهدافاً في إعادة الهندسة السكانية. أما غير المعلن عنه على الإطلاق فهو إغلاق المنطقة أمام حزب العمال الكردستاني الذي يستخدم ممرات الوادي في تنقلات عناصره. وسيتم عزل مئات القرى المتبقية شمالي المشروع عن الطريق العام المؤدي إلى ألازيغ وديرسم.
هذا المشروع يتم تنفيذه بحماية عسكرية نظراً للمعارضة الشديد من السكان في وادي مونزر الذي يجري فيه نهر يعد الشريان الحيوي لسكان المنطقة وتضم آثاراً لحضارات ودول متعاقبة. في فترة السلام بين الدولة التركية والأكراد، ربح نشطاء مناصرون للبيئة وحزب الشعوب الديمقراطي دعوى قضائية لتجميد المشروع في تشرين الأول 2014. بعد انهيار السلام تم تنشيط المشروع بشكل سريع من قبل الدولة التركية ومجموع الشركات العاملة. إحدى هذه الشركات أميركية وحصلت على رخصة للبحث عن اليورانيوم في المنطقة ذاتها. قد يكون اليورانيوم واحدة من التفسيرات الخفية التي تضاف إلى خفايا حزمة ‹التطوير› التركي.
وخلال السنوات ال15 الماضية، تم إجلاء سكان 320 قرية ونقلهم إلى أماكن أخرى، بمعنى تم تشتيتهم بذريعة مشاريع اقتصادية، بينما تتلاشى تربية المواشي، وهي المصدر الرئيس للاقتصاد المحلي، بسبب حظر الرعي وغمر المراعي تحت المياه واستملاك مساحات واسعة للمشروع. مشروع الطاقة الكهربائية لوادي مونزر سينتج أقل من 1% من الطاقة التي تستهلكها تركيا حالياً بتكلفة تصل إلى 1.2 مليار دولار. مقابل هذه الفائدة الضئيلة ستختفي ديرسم من الوجود إذا لم يتم تعطيل الترابط بين خطط الاقتلاع السكاني لأغراض أمنية وبين ‹التطوير والتحديث›! هذا المنهج يتيح للحكومة التركية استبدال المجازر التقليدية والقتل الجماعي بمشاريع تطويرية تحظى بثناء العالم!
مشروع إليسو
كانت حسنكيف الإمارة الوحيدة إلى جانب ماردين التي أبقى هولاكو على أميرها الأيوبي حاكماً. نتج عن الحروب المغولية المملوكية تدمير طرق التجارة الرئيسية، ولحق ضرر بمكانة حسنكيف. ومع معاهدة السلام بين الامبراطوريتين عام 1315، انتعشت حسنكيف من وقوعها على محور الطريق التجاري الجديد بين إيران وحلب، وباتت هذه الإمارة الأيوبية الممثل الأبرز للحكم الكردي في أرجاء المنطقة حتى سقوطها عام 1462 أمام هجوم الآق قوينلو الذي قاده زينل بك، فبات الأخير حاكماً للمدينة.
القطعة الأثرية الوحيدة التي حظي نقلها من حسنكيف لإنقاذها من الغرق، بتغطية إعلامية، كانت قبة مزار (زينل بك)، وهو ابن حاكم الكونفيدرالية القبلية التركمانية (الآق قوينلو) أوزون حسن. وزينل قتل في معركة أوتلوكباشي التي دارت مع العثمانيين في أرزنجان سنة 1473 ثم نقل جثمانه إلى حسنكيف. استغرق التحضير لعملية نقل المنارة عامين وأنجز في أيار 2017، وخصص له لوح ضخم ب150 عجلة. وتعود ‹غلاوة› هذا المزار أنه يعود لشخصية من الشعوب التركية، وهذا تقليد تركي في مجال الآثار بإبراز كل ما يشير إلى الترك في التاريخ وتحويله إلى مزار لو أمكن، وهي سياسة لاقت تشجيعاً بعد انقلاب كنعان آفرين عام 1980.
ويعتقد سكان منطقة حسنكيف أن البلدة مع محيطها تضم رفاة 366 من صحابة النبي محمد حيث دارت هناك معارك طاحنة خلال التوسع الإسلامي.
مطلع شهر آب الحالي (2017) بدأت الحكومة التركية بتنفيذ عمليات هدم بلدة حسنكيف الواقعة على طريق استراتيجي يربط بين ما يعرف تاريخياً بمدن جزيرة بوطان (جيزرة) والأجزاء الشمالية الشرقية من منطقة كردستان (موش – باطمان – بتليس – وان – سرت).
في الانتخابات التي جرت في 7 حزيران 2015، صوتت هذه البلدة للمرة الأولى في تاريخها لحزب ذو هوية كردية. نال حزب الشعوب الديمقراطي غالبية الأصوات في انقلاب انتخابي شعبي على حزب العدالة والتنمية في حسنكيف، والسبب أن سكان المنطقة أدركوا تماماً أن مندوبي حزب العدالة والتنمية يؤدون وظيفة ‹مسكنات ألم› فقط لا غير. كان هدف السكان إيقاف مشروع إغراق منطقة واسعة من وادي دجلة، وعلى رأسها البلدة الأكثر تاريخية في تلك البقعة.
وقد بدأ مشروع سد اليسو، الذي كان مخططاً له في إطار استثمارات مشروع جنوب شرق الأناضول، في الستينات، واستكمل في الثمانينات، وطرح للتنفيذ عام 1997. ارتبط المشروع باسم الشركة البريطانية Balfour Beatty التي خصصت للمشروع 200 مليون يورو بغطاء من الحكومة البريطانية صاحبة اليد الأكثر طولاً في مساندة ‹التعبيرات الاقتصادية› للإسلام السياسي منذ أكثر من قرن.
تحت ضغوط حملة نشطة لدعاة حماية البيئة – يضاف إلى ذلك صراع الشركات – اضطرت بلفور إلى إيقاف العمل في مشروع سد إليسو عام 2001. مع انزياح البريطانيين، دخلت أوروبا ممثلة في ثلاث شركات وبنوك، ألمانية وسويسرية ونمساوية، في مشروع السد. ونتيجة الضغوط الكبيرة من المنظمات غير الحكومية وممانعة البنك الدولي للمشروع، جمّدت الشركات الأوروبية الثلاث صفقة التمويل التي بلغت أكثر من 600 مليون دولار عام 2009.
الرد التركي جاء متسقاً مع النقاط المشتركة للحياة والمجتمع بين تحالف الشركات العابرة للقارات والإسلام السياسي: تدمير كل ما يعيق التطور. والواقع أن التطور لا يمثل شيئاً سوى الربح.
لا يعرف بالضبط من أين جاءت تركيا بالغطاء السياسي للمشروع التدميري (التطويري) في حسنكيف، إلا أنه في عام 2010 حشرت شركة بريطانية أخرى نفسها في المشروع، مواربةً، وهي شركة أندريتز هيدرو التي ألغت تعليقاً مؤقتاً على توريد أجزاء من المشروع وأعلنت أنها ستورد 6 توربينات بقدرة 200 ميجا واط لمحطة الطاقة الخاصة بالسد.
تكسب الفرضية التي تربط بين مشروع سد إليسو وانهيار عملية السلام بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية مزيداً من الزخم هنا أيضاً كما في مشروع تدمير ديرسم.
المبالغ المرصودة للمشروع قد لا تكون مقنعة لربط أحداث كبيرة به (نحو 2 مليار دولار التكلفة الإجمالية). هذا صحيح إذا لم يتم طرح السؤال: ما هي الخطة بعد إنهاء بناء السد؟ ماذا تريد بريطانيا في هذه المنطقة؟ وما وجه التنافس الألماني البريطاني على تركيا؟ هل فعلاً بريطانيا هي التي تدفع تركيا باتجاه روسيا لإلحاق خسارة بميركل؟ ما تفسير ارتفاع رأس المال البريطاني الذي دخل الأسواق التركية بنسبة 64.3% خلال عام 2016، وبقيمة 961 مليون دولار، مقارنة مع الأموال البريطانية التي دخلت تركيا عام 2015؟ وكيف باتت حصة ألمانيا الثالثة ب 433 مليون دولار؟ هل اليوارنيوم هو الجزء المفقود من اللوحة؟
لم تتضح الإجابات بعد. كل ما هنالك هو ما تردده الحكومة التركية بالمنافع المزعومة على سكان المنطقة. لكن ما يثير الشكوك أن صعود حزب الشعوب الديمقراطي هدد عملية تنفيذ المشروع. ولعل الغليان الكردي خلال معركة كوباني بسبب الاحتفاء التركي الرسمي بقرب هزيمة الكرد فيها قد حجب الجانب الاقتصادي المرجح من التصعيد الذي كان تفجير سروج في يوليو 2015 شرارة البدء في استئناف الحرب.
بعد زج معظم قيادات الصف الأول والثاني في حزب الشعوب الديمقراطي في السجون، وتصعيد الحرب بشكل غير مسبوق ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بدأت تركيا – بالشراكة مع بنوك وشركات مجهولة الهوية – ببدء إزالة بلدة حسنكيف وإخلاء قرى وادي دجلة في تلك المنطقة.
في كلا المشروعين هناك عقلية أمنية تعرف جيداً مسالك التمرد على سياسات الدولة التركية. لا يحتاج الأمر إلى جهد لنعرف أن المشروعين يغلقان مسالك وممرات وعرة يعجز الجيش التركي عن إغلاقها أما عبور المقاتلين الكرد من قواعدهم الخلفية في جبال قنديل بكردستان العراق إلى ساحة العمليات في دياربكر وديرسم. وضمن الإطار نفسه تمت إزالة المدينة القديمة في دياربكر من الوجود لأغراض أمنية.
أما المشروع الآخر الذي لم تجد له الحكومة التركية اسماً بعد فهو إحراق غابات جبل جودي لمنع استخدامها من قبل حزب العمال الكردستاني كمسالك جبلية للعبور. سيتم إيجاد صيغة حداثوية للمشروع بكل تأكيد، وستثار نقاشات جدلية فارغة حول أولوية التطور أم التراث، والهدف لا هذا ولا ذاك.[1]