لعل العودة إلى مقالٍ ل سليم بركات بعنوان “نكبات العقل” يُفيد القارئ في رؤيته لحال الكُرد بمرحلة تاريخية راهنة
نكبات العقل
صوَر صدام إذ تمتزج بأعلام -حماس- ويروح البيان العربي يتحدث عن خيانة الكرد
سليم بركات
الحياة اللندنية 2003-06-28/27
الحضور الحيوي للأكراد بعد انهيار نظام صدام حسين، بات يؤرق غالبية الكلام السياسي العربي السائد. هذا المقال “الأدبي – السياسي” يتلمس حساسية المسألة الكردية عربياً، ويقرأها في ضوء حقوق الأفراد والجماعات بلا استثناء.
السجالُ رخيصٌ. تولى الرعاعُ إدارةَ العجز في الانحلال الأخير للبيان العربي. ركاكة في أداء اللغة كركاكة الجيوش ذاتها في سياق البناء الحديث للأمم الركيكة، وحواضرها، وشعاب أمورها القائمة على فكرة المزرعة: تُؤَجَّر وتُورَّث.
مقايضات في الأخلاق لا مثيل لها إلاَّ في الشكل السلعي عند الريفيين، قبل تحديث عوالم المبادلات الصغيرة، بكرامة العملة، والشوق الصوفي في الورق والمعدن: العلماني يتحوَّط لخطابه بمبايعة الدينيِّ، والدينيُّ يتحوَّط لفكرة الثواب اللازمني بمبايعة الحاكم المؤسِّس ل”عدالة” النهب. ثم تأتي المجاهرة بالفُتْيا، في استباحة المَرْجِع، فراغاً كنداء الهاوية.
لا نعرف من أين نبدأ، في هذا الحصار المُحْكَم للإنحلال، بإحالة اللغة المعذَّبة إلى أنساقٍ موضوعاتٍ. الأكراد، الذين أحضرتُهم إلى المرافعة الخجولة، متهيبون من محنة النظر إلى أنفسهم في الخيال الشقي، المُعتل، لشركائهم في المكان المحيط. في إحدى الفضائيات العربية، المحمولة على نداء الدهماء، هبَّت صرخةٌ مدوية: “هؤلاء الأكراد الكفرة.. الكفرة”. لم يقطع القائمون على رفاهية الإنشاء العنصري صوتَ الوافد في الهاتف كما فعلوا مع كردي قال: “إذا كانت لنا دولة…”، فأخرسوه. فُتيا التكفير تحوَّلت من متاع العالِم الفقيه، المَرْجِع، المتحصِّن بمشايعة الكوافِّ لجواز الإصدار، إلى متاع الرعاع في خطوط الهاتف. صدام حسين، نفسه، اقتدى بالرعاع في إهانة المَرْجع فأصدر فُتياه بالجهاد، من دار أدارها على غير وجه يثبت إقْرانَها بدارٍ للإسلام، ولم يتكلَّف له علمُه في فِقه البطش نَسَباً أبعد يقرِّبه من فقه الفقيه المعقودة له بيعةُ التكليف في التخصيص، والحصر، وإقامة السَّند من إرث الدِّيْن.
كيف اجتذب حكَّام، ذوو أيد في إهانة الإسلام، أحزاباً حواملَ متاعِ الدِّين فكرِهِ، وخُلْقِهِ، وأدبه، إلى بيْعة لا تخفى، في دارٍ يتوجب، شرعاً، حصرُها في مراتب دور الحرب، إن لم يكن زعمُ الإسترشاد بالدين مثلوماً، أو مؤيَّداً بنفاقٍ ما؟
“البعث”، الحزب المتقاسم هواءَ الشعوب على جهتي دجلة والفرات، ذو ثبات في إقصاء ما لا يدخل في ملكية عائلته وقرارها. تساوى في ذلك اليساريُّ، والعلماني، والديني، برمتهم. خيارُ انتسابه إلى الحياة خيارُ امتلاكٍ للآخر داخل مزرعته، التي خرج حدُّ توارثها بين الجماعة المتآخية على شعارٍ إلى استفراد القويِّ الأوحد بعقد الدولة لنفسه ولأبنائه، لا غير. ضررُ جماعات الدين الأحزابِ، والحركاتِ رسى على حطامٍ خرجت به، من قتلٍ وإختباءٍ ونزوح إلى الغرب ذاته: غربِ الشيطان. فما الذي نراه، اليوم، من بيعة بعض جماعات الدين لمن لا تصلح له البيعة؟ صور صدام حسين امتزجت بأعلام حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في تظاهراتهما، وانبثقت مكاتب الرعاية، في حدود إعلامها، داخل سورية. ثم ارتفعت عقائر بعض أشدائها في نحوٍ لغوي متقوِّض القواعد عن خيانة الكرد لأبناء العِرق العربي، بوقوف الكرد إلى جانب الشيطان الغربي، في غزوه العراق.
لا بأس. لم نسمع من جماعات الدين هذه، وأقربائها، أسفاً خجولاً على مقتل الكرد بالكيمياء في حلبجة، مثلاً، والكرد مسلمون بعامة. قُتِل عراقيون – شيعة وغيرهم أيضاً. فإذا نحا الكردي إلى ملاذٍ، يقيه قتلاً تواطؤوا في الصمت عليه، خرج الرعاعُ، وجماعات العنصر النقيِّ، إلى تكفيره. عربٌ تآخوا، بقضِّ دولهم وقضيضها، تحت راية التحالف الغربي، في حرب الخليج الثانية، لإخراج نظام العراق من الكويت، ولم تنهض الألسنة إلى تكفير أحد. صدام احتل دولة عربية لها مواثيق وجودها ككيان في المنظومات، وسكت المنتصرون الآن، لصدام. عشر سنين قضاها حاكم بغداد، اللامسترشد بأحكام الشرع قط، في هدر دم العراق ضد إيران، المسلمة طبعاً، بأسلحة كيماوية، وفتاكة أخرى، من خزائن الغرب الشيطاني، فلم يلتفت أحد لتكفير الحاكم، الذي أقام الشقاق دِيْناً بماله في شوارع الفلسطينيين، بمسدساته المكتومة الصوت، وبمنحولين إلى نضال الشعب المغلوب على أمره، مثل أبي نضال، الذي أعدموه ليتّقوا وقوع خزانة أسراره الدموية في أيدي العارفين بوجودها.
الإعلام العربي، في بعضه المرئي والمكتوب، أراد من الكرد المنكوبين دوراً في “مقارعة” الغزاة، لا الترحيب بهم. حقٌ ذلك. يتوجب على أهل الملَّة، بأضعف الإيمان، النظر شزراً إلى الغريب الغازي، وهو – في حال العراق – أمر يتوجب أخذه على وجوه الاختلاف في النظر. فما الذي يستنهض في الكردي المنكوب غير المفاضلة بين (على العراقيين، لا غيرهم، توصيف حمائله) غزوِ غريبٍ و”غزو” من حاكم ابتكر، بعقل العالِم، نكباتٍ كرفاهية الفردوس؟ “الأنفال” لفظ من علوم الدين الغالب، يسترشد به خيالُ المحارب في اقتسام إرث المهزوم مالاً، وعيالاً. وهو لفظ الفداحة ذاته، الذي أنْفَذَهُ صدام في إقليم الكرد: جعلهم، على مجرى منازلات ما قبل العشرة القرون، نَهْبَاً، مُباحيْن. فكيف أجاز صمتُ جماعات الدين استعارةَ الحاكم اللامتقيد بشرعٍ لفظاً لا يتوجب إنفاذُهُ في الكردي المسلم؟ بل ها بعضهم هرع إليه، عبر الحدود المفتوحة للشريك البعثي، بمفخَّخين بأحزمة النَّسف كي يُنجدوا نظاماً ضربَ مآذن مساجد النجف بقذائف الدبابات.
تعالوا نفسِّر قليلاً، بخيال الوقائع ومصادرها الزمنية، هذه الحبكة الساخرة في تآلُف المتنافِرات: الحاكم السوري، المحصول له، في التوثيق، مَلَكَةُ ابتكار الشقاق في همَّة الفلسطيني، باجتذاب حركاته ومتاع بيته، يقف، راهناً (قبل الراهن بقليل – أي حدوث الزَّمَعَةِ عن يد كولن باول)، في ترتيب الحرية للفلسطيني بالغيرة على قراره (!!). لا نعرف إذا نسيت حماس، والجهاد، حصار المخيمات في بيروت، ودكِّها في طرابلس بصواريخ الأشقاء. أو توصيف حارس أرواح المذبوحين في صبرا وشاتيلا، السيد المغدور إيلي جبيقة، وزيراً ذا حظوة لم توهب للفلسطيني. لا نعرف إن كانت أخلاق حماس والجهاد تستطيع استحضار نكبات جماعات إسلامية أخرى بخيال الحقائق، من هاوية التاريخ المقفلة بنسيان محسوب، في سورية، وفي لبنان (حركة التوحيد، مثلاً). “حزب الله” سياق آخر لن يتقن نحويو جماعات الدين تلك إعرابَ مخارج حروفه، ومجزومه ومرفوعه، إلا إذا تهيَّأ للرعاع أن إيران ستقدم بطلب انتساب إلى “الطلائع” و”الشبيبة”.
أخرجتْ سورية كل حزب لبناني آخر من منظومة الشهادة بالحق الناقص على تحرير جنوب لبنان. وقد وجد العرَّافون في تخمين سياسات الواقع، من جماعات الدين تلك، أمرَ استفراد “حزب الله” بالأنفال إعتاقاً يتوجب إجراؤه على أرض الله المستعبدة، فنصَّبوا الأمرَ مثالاً لتحرير فلسطين بأناس مفخخين، أصدروا جملةً منهم إلى حَرَم العراق، وليس إلى الجولان.
الجولان لعب بالنار في حقائق الممكن وأباطيل الممكن. الإحتلال الوقائي لجنوب لبنان، بعد استنفاد مادَّته بطبيعة التآكل المحسوبة بالربح والخسارة، ليس – قط – على نسق احتلال فلسطين والجولان. ستأتي مثاقيلُ وأوزانٌ من كل عيار إلى مفاوضات التقاسم الأخير لإرثٍ دوَّخ التاريخ ودوَّخه التاريخ. حتى شبعا اللبنانية ذاتها ستنحسر إلى سياق المجزوءات المرتبطة بهدوء السياسة، لأن عمدة “حزب الله” صرَّح بنفسه عن تقيُّد الأمور بموجبات جديدة بعد زيارة باول لدمشق. نعم. رامسفيلد الركيك استعار من الخراب، الذي استحدث به البعثُ روحَ الرعايا المنهوبين، فصاحةَ لغة الوعيد التي لا يتقن أسيادُ الموت فهمَ غيرها: “فليعرفوا أن لديهم جاراً جديداً”.
والآن، في التسارع العاصف بأبواب دكاكين الجماعتين الإسلاميتين إقفالاً، فلنسترجع ما يضيء فهمنا بإشاراته، أو يعميها في هذا النفق المرصود بأنظمة لم ينتخبها شعب قط، ولنتمثل بركاكة الوقائع التي ألقت بزعيم “حزب العمال الكردي” في المجهول التركي.
في الآن الذي تمرُّ ممحاة العصبية العرقية فيه على أسماء القرى الكردية وبلداتها في سورية، فينكِّل الحرفُ العربيُّ المكتوب بالحرف الكردي المنطوق من لسان القرون الجليلة؛ في الآن هذا الذي لم يرجع فيه آلاف آلاف الأكراد إلى سجلات الجنسية التي أسقطتهم عصبيةُ الأخ العربي منها في 1962، حظي حزب كردي، من كردستان تركيا، فجاءة، بحظوة أين من كمِّها حيفُ أخيه في سورية. الابتزاز (لاختصار مسارب هذه المقالة) الذي قايضت به سياسةُ شقيق البعث العراقي أوجلانَ بالماء اتخذته تركيا مدخلاً إلى تسارع نهجها في ترويع القرى الكردية، وتمزيقها، والتنكيل بالهواء فيها. وحين استنفدت مقاصدَها، المستندة إلى توصيف الحزب الكردي بالإرهاب في شرع الغرب، الذي ساء بعض دوله أن يُساء تعاطفُهُ مع ذلك الحزب فيتمادى خارج مراقي نشاطه، بتغاضٍ سوريٍّ عن إسداء أية نصيحة لتفريق “الشغب” في شوارع ألمانيا عن “المناضَلَة” عن الحقِّ في شعاب طوروس؛ حين استنفدت تركيا ذلك، حشدت رجال الدرك على حدودها مع سورية فباع الخائفون “حزب العمال الكردستاني” بدراهم من هواء.
لم يصدق كردي واحد أن من يغير أسماءَ الطين النبيل في عمارة تاريخه سيعيد إلى الكردي رفاهية لقائه بالطين النبيل في عمارة تاريخه خارج سورية. أسماء أمكنة تتقوَّض بالممحاة العربية، فيما يبقى اسم تدمر، وجرابلس، وبانياس، على حاله. “توبز” الكردية، و”موزان”، و”تربسبيي”، و”هرم رش”…الخ، تتنحى لعدنانية، وقحطانية، وعمرانية، وحفصية، الخ. إنه، في السخرية الضارية، كمن يعيد إلى توت عنخ آمون نسباً عربياً بمفعول رجعي فيسميه توت زيد بن عنخ أمين.
فلنعد إلى ما نكاد نستنفده: صُرِف أوجلان تصريفاً في الإعراب العربي على رغم أعجميته، ففي أي تصريف سيستقر اسم حماس والجهاد الإسلامي؟ الأمثولة رقيقة: نما دعمها في سورية على قدر إغراقهما السلطةَ الفلسطينية في الإهتراء. برزت الجماعتان، ببعض السبق لحماس، في إنتفاضة الفلسطينيين أوائل العقد المنصرم. وكانت الانتفاضة تلك على قدر من الجاذبية في الإعلام الغربي، وفي أروقة الحقوق الكبرى والصغرى بين منابر الخطاب السياسي، فإذا بصاعقة احتلال طاغية بغداد للكويت تزلزل مآثرَ الفعل الفلسطيني، الذي لم يشهد تغليباً لسلاح النار على سلاح الحجر.
تراجع خطاب الأخلاق، والحق، في استئثار المشهد الجديد لغزوٍ لم تشهد الهمجيةُ مثيلاً له في اقتناص الشقيق الكبير للشقيق الصغير: نُهبت حجارة الشوارع، ورخام الأبنية، والأضابير، والمسامير، ثم عُلِّقت إلى الجدران سُبُحات رسوم صدام حسين في كل منعطف، كحالها في استراق النظر الصامت على هواء العراق من كل مئة خطوة في الشارع، وكل بشر في البيوت.
الخذلان الأميركي للفلسطيني، في مسيرة تشرده، أباح للكثيرين تصيَّدَ الألمِ الفلسطيني على نحو يعيده طليقاً في التيه. وكذا فعلت الجماعتان الاسلاميتان، الفلسطينيتان، المموَّلتان من نفط بعض خزائن الخليج، فأباحتا الإحتكام إلى الإنتصار لصدام حين حوصر، وقُهِرَ بفداحةٍ تجلب الشهيق إلى مرأى جيش محطم، مطعون بأهواء الحاكم الطاغية وخفَّتها.
كان محيِّراً أن تنتصر جماعات مغلوبة على أمرها في أرضها المُحتلة لحاكم يحتل شعباً آخر، لكنها كوفئت بهبات صدام، وباستقطاب بعض النزوع من الفلسطينيِّ البسيط، المتألم، إلى الانتقام. وهي رسالة سارع الزعيم الفلسطيني إلى التقاطها فانتصر، بدوره، لصدام حسين، فتلقَّفها إعلاميوه الغارقون في سذاجة البيان الركيك للشعار المُهلهل، يستعيرون ألفاظ “النشامى” و”الماجدات”..الخ، من لسان أبي المعارك. وكان من انزياح المشهد الفلسطيني عن أفق الحرب في فردوس النفط أن قبلت إدارة م. ت. ف بنصيحة الشريك المصري في الاستدراج إلى المعاهدات: هكذا ولدت اتفاقات أوسلو الناقصة البنود هدية من مخاض “أم المعارك”، لكن حماس، والجهاد الاسلامي، ظلتا على نازع اللعب بألم الفلسطيني في سياستيهما، مختصمتين في ذلك إلى الحَكَم البعثي الآخر غرب دجلة – حَكَمَ الشقاقات المتشيِّع لها، الذي كافأَ “جهاد” “الجهاد الإسلامي” بالترخيص لعبور المفخَّخين من شبانها إلى العراق.
لم يُعجب الأكراد، الملاميْنَ على انعتاق خيالهم من صناعة المقابر، بإمبراطور المقابر الجماعية، الآخذة في انكشاف آلافها. سمى بعض الإعلام العربي مفخَّخي الجهاد الإسلامي بالمجاهدين العرب إسوة بالأيدي البيض للمجاهدين الأفغان في ابتكار السواد، وكفَّرَ الكردَ. همسٌ اختلط بالتصريح، في الهرج الذي تصيَّد منه العقلُ العربي “عنصرَ الإثارة” في السرد (كإقفال الصحاف المهرج أبواب دبابات الأميركيين على جنودهم)، وهم يشيرون إلى “علاقاتٍ” مَّا للكرد بإسرائيل. لا بأس. وما انتفاع إسرائيل بكرد لا باع لهم في اختراق المستورات العربية مثل كوهين، أو عبدالحكيم عامر؟ تركيا المسلمة، الحائرة بين عمامة الخلافة وقبعة أتاتورك الأوروبية، لها آصرة أمنية مع إسرائيل. لمصر معاهدات مع إسرائيل خرجت بها إلى التفرُّج على اجتياح لبنان، وإعادة احتلال أرض السلطة الفلسطينية، عاجزة إلاّ عن النصح “الأخوي” بخروج الفلسطينيين من لبنان، ووجوب جلوس فرقاء أهل أوسلو حول منضدة البنود الخشبية. إعلامٌ عربي، فضائيُّ الرحاب، طالبانيُّ الهوى (نسبة إلى طالبان المأسوف على شباب مجدها) ماعاج عن “المؤامرة” الكردية على وحدة عربية مصونة من المحيط الهادر إلى الخليج الفارسي الثائر – وهو فارسي في الخرائط، وفي الأخبار، وفي المعاهدات بين ملل الجوار؛ ماعاج – كحالِ الشقيِّ على الطَّلل البالي – إلى مناسك الشرع الشيطاني في جمع تركيا، وسورية، وإيران، على مراقبة الكرد وفق اتفاق ثلاثي مكتوب، معلن، واجتماعات دورية. قومية تركية، وقومية عربية، وثالثة فارسية: بين سورية وإيران ورقة حزب الله، وجواذب الطائفة، ومعونات. لكن ماذا بين إيران الثورة الإسلامية وتركيا الثورة التغريبية؟ ماذا بين سورية الإبتزاز بأوجلان وتركيا الناظرة – بعد نسيان عربي لما اذَّعته حقوقاً من قبل في كيليكيا، والاسكندرونة المفقودة – إلى الموصل وكركوك؟. كان مرعباً وصفُ الإعلام العربي – بعضه الفضائيِّ المحلِّقِ بجناحي بن لادن، وبعضه المكتوب المعجب حتى الذهول ب”أداء الصحاف” المهرِّج إدعاءات الترك بالخوف من كيان كردي يُعلن كصواعق الأولمب، والتأسي على أحوال التركمان العراقيين؛ كان مرعباً وصفه على محمل “الخوف المشروع”، في ميلٍ إلى التركيِّ ضد الكرديِّ؛ في ميل إلى التخلي عن كيليكا، والاسكندرونة، ضد كردي لم يفخَّخ نفسه دفاعاً عن قصور صدام. نعم. تركيا، وايران، وسورية، يراقبون “عن كثب” رغبةَ الكردي في أن يبقى كردياً.
الشاب، الموصوم ب”المجاهد العربي”، صرح للفضائية العربية بموت آلاف من المفخَّخين أمام أحد القصور. لكنه اشتكى من أمر لم يلفت نظر “الفضائية”: فهو لم يجد، بعد دخوله العراق، ماكان موعوداً به من لقاء مسؤولين ينظمون، و”يموِّلون”. كان “المجاهد” ينتظر انقلاب كلمات القائد – حفظه الله ورعاه – إلى لحم وعظم في التهديد بإحالة بغداد جحيماً، فإذا برُسُل الجهاد الإسلامي حيارى في التيه: لا حرس جمهوريٌّ، لا دمى عدي، لا صحَّاف. هربوا أجمعين مُذْ هرب الزعيم – أبو المعارك بوزرائه، وإبنيه، وعائلته، تاركاً وراءه ما يؤجج حزنَ الفضائيات العربية في بلدان ترعى حقوق لسانها الناطق، وحزنَ صحافةٍ تستدير من أفق الحرية المكتوبة إلى الطاغية كمثال لما تريده في عالم بلا همسٍ حتى. لقد ترك صدام لحزنهم إسمه المنثور كغبار طلع النخيل المنكوب على الشوارع، والمدن، والمطارات؛ وترك رسومَه الحجرية، والمعدنية شفاعةً لخيال الإعلام المرئي، الذي رأى بعضه، في إحدى ندواته عن مستقبل مناهج التعليم، أن أي تغيير فيها هو استكمال لتدمير روح العراق، وخطوة على النقلة من بهجة الماضي إلى شقاء المستقبل “المعتم”.
“الله. الوطن. القائد.”: تلك كانت منظومة الخيال البعثي المرفوعة شعاراً نافراً على بعض الجدران يُرى عياناً. والأرجح أن القائد المناضل عن إباء العائلة في تكريت أزاح الوطن عن السياق المعروف في تخصيص الأوطان بالتعريف، وبقي وحده في سدة عالم الشهادة: صوره على أوراق النقد – رمزِ سيرورة الدولة في المبادلات، وعلى الطوابع، وعلى كل صفحة من صفحات كتب مناهج التعليم، التي رأينا الأطفال يحملونها إلى مدارسهم المنهوبة: صورة الرئيس، إذاً، كانت “المناهج” التي أقلق مصيرُها عقلَ بعض الإعلام العربي.
في معرض التذكير بإزاحة القائد للوطن يتوجب النظر إلى ابتهاج الإعلام العربي بعودته إلى الشارع حياً، مبتسماً، جذلاً، ترفعه الجموع كابتهال للقدر. الفضائيات المرئية من أرض الشقاء العربي كانت تتبارى في ابتكار تشويقها للعامة، والرعاع، والدهماء، والسوقة، والغوغاء. (بلا اعتذار من استعادة صفات هي من موجبات عقل التفضيل الطبقي النذل، بعدما عاد الشارع العربي إلى مطابقة نفسه مع الخواء الدليل). خُطب القائد الهارب، المصورة ل”رفع الهمم”، تخرج من محفوظات شهور سابقة، أو تُعرض طازجةً بوصولٍ آمن إلى أيدي مذيعيها. حتى الصحافة العربية العائمة على حريةٍ في الغرب، والأمينة – في الآن ذاته – لمبادئ التربية “الراسخة” في “جمالية القتل”، جارت الفضائيات برسائل مصوَّرة من الزعيم طارت من بلد بلا كهرباء، مع بُراق الشهوات والرغبات، واضحةَ الحروف؛ واضحة المعاني.
خرج الزعيم إلى الشارع حياً، فوجد المنقَّبون في أرض الأقدار الخفية مساربَ إلى استخلاص العِبَر: لقد انتهى الغرب وغزاته. لا بأس. كيف استطاع معجب بصدام حتى عظامه أن يرى القائد ضاحكاً، مبتهجاً بنجاته، في يوم سقوط بغداد؟ أكانت صورته حياً هي وحدها مبعث النشوة لدى رعاع دهماء غفلوا عن انهيار الدولة برمتها بلا مقاومة يعتدُّ بها؟ القائد – إذاً – هو الوطن – بجلاء. والجيوش التي أنفق القائد المخلوع، والقواد العرب غير المخلوعين مقدرات الدولة على بنائها، هي – بجلاء – ذراع الحاكم في تحطيم الداخل، لا غير.
إذاً، لم ينهض الكرد “الكفرة”، في خطاب الفضائيات والإعلام المجاهد – أسوة بالمجاهدين العرب – إلى المدافعة الواجبة “شرعاً” عن الرئيس، الشديد الإيمان بمطْهَر المقابر الجماعية، صدام، ونجليه عدي وقصي، سابيَيْ قلوب عذراوات بغداد على مبدأ الشرع الطاهر في صوت الشيخ كاظم الساهر، الذي نرى إجازةَ المشيخة له بفُتيا الاستتباع الضروري في منحها لأسامة بن لادن، الفاتك، المجتذب إلى فخِّه أساطينَ الغرب لتلقينهم دروسَ الصحافِ الأُلْهْوب.
بحق الآلهة على ذلك الإعلام العربي – الفضائي المقيم في هامش الحرية ببلدانه، والمكتوب المترف بنعمة الحرية في الغرب – لماذا ليس من حق الأكراد “خيانة” صدام حسين؟ ونحن نستعير لفظ “الخيانة” مجذبةً للتسامح وفق تعبير يناسب خطط العقل العربي في التخوين والتكفير. لماذا ليس على الأكراد إعلان نوازعهم (الهوجاء) في الحنين – كبشر، لا كقطيع – إلى عالم بلا مجازر لهم ولدجاجاتهم؟ إعلام عربي، في الحدود المضمونة لنجاته من قصاص الشرطي، لا يحسن إلاّ التبشير ب”الخوف من الحرية”، وإشاعة حسِّ الكارثة، والريبة، في كل مظهر من مظاهر عراق ما بعد الطاغية.
لم يأت الغرب إلى العراق محمولاً على إيمان مواثيق الحرية للشعوب. سنؤيد الفضائيات والأرضيات العربية في ذلك، وسنقسِمُ على صحته من أفواه المذيعات الباكيات على العهد الذهبي للملا عمر، بشفاه نفختها عمليات التجميل اقتداءً بالجمال المنكوب تحت براقع نساء طالبان في الزرائب، ومن أفواه مذيعين ذوي ربطات عنق غربية نسوا ارتداء عماماتهم. حرية الشعوب كانت، أبداً، في السطر الممحو من مواثيق اقتصاد التبعية للغرب. وهو سطر يُعاد تدوينه، عادةً، وفق الجَبْذ والنبذ في العلاقات، بحسب تعبير قانون التوازن الفلكي المعتلِّ، والمختلِّ عقلاً وطبيعة. طالبان النظام الذي لا يقع عليه لفظ نظام ترتيب لونيٌّ على ورقٍ رسم عليه الغرب صورة الشرق في “واجب حدوثه” بالقوة، كما يقول عقلُ الضرورات. وصدَّام حسين طيفٌ في موشور الخليج أبقى عليه الغرب، في برهة كانت الإطاحة به فيها، بالتحالف بين المذاهب والأعراق، أمراً كالنفخ على هشيم. لكن دعاوى انحلال العراق أمصاراً وأقاليمَ، جعل “التسامح في القصاص” المنافق حمَّال سياسة رأت بالصريح المبتذل أن عراقاً مهلهلاً بقيادة نمر من ورقٍ هو أوفى المعابر إلى حركة قواعده العسكرية والمدنية والسياسية والاقتصادية واللغوية. وكان حظ الغرب مذهلاً في تحريض صدام على بقاء الغرب، عبر تهديد متواصل بالانتقام من الجيران. فما الذي تغير اليوم؟
استُنْفِدَتِ اللعبةُ: حمل أسامة بن لادن إلى أميركا هبوباً من بساط الريح في “ألف ليلة وليلة” إلى معاصر الاقتصاد المُدارة بالطواحين. صُعِقَ من صُعق، وتزلزل من تزلزل، وتخبط من تخبط، وانزمَعَ من أخذتْه الزَّمعةُ. خيال بن لادن الجامح خيال شهر أيلول (سبتمبر) طحنَ المعقولات الوقائية في نص أميركا الواقعي، المبني على مذاهب الصراعات “الواضحة” وقوانين آلاتها. هكذا لم يعد في وسع الأميركي الاكتفاء بحصار النمور الورقية، بل بوجوب حصار العظام المواد التي لا قانون يضبط تداول أفيونها الكيماوي والعضوي في الأمم المنشلَّة والمنحلَّة تقريباً. لقد ذهب بعضُ أخلاق الصراع بأخلاق الصراع كله، في لعبة تنقلب على الجميع، من تشجيع “الأصولية”، برئيس “مؤمن” هنا، ورئيس “مناهض” لكفر الاشتراكيات بالإنسان هناك؛ ومن الخلط المروِّع لجماعات الدين بين الغاية والوسيلة: آلاف المسلمين سقطوا أشلاء في الطريق إلى قتل شخص “أوروبي” واحد. لقد نصبت إحدى فضائيات العرب عنواناً صارخاً تحت خبرها الوارد “عاجلاً”: “تعرُّضُ مصالح غربية لهجومٍ انتحاريّ”. وماذا كانت “المصالح” الغربية تلك؟: فندق مغربي في الدار البيضاء، ونادٍ يهودي (!!!!). والقتلى؟: عشرات المغاربة.
الكردي مصلحة غربية، في الإشارة إلى “تقصيره” في حماية قصور صدام؛ اليهودي (الذي دربناه في ديارنا على الهجرة متسللاً عبر الحدود، بمنع أية وثيقة سفر عنه، وعرض الخيار عليه، في الدراسة الإعدادية والثانوية، بين حضور حصة الدين الإسلامي، أو المسيحي)، اليهودي مصلحة غربية. الأشوري، والكلداني، والسرياني، والأرمني، مصالح غربية ربما. لم يُقَل ذلك بعد، لكن ربما. أهي جماعات الدين وحدها، بلسان الفضائيات والأرضيات، حصانة الأمم العربية اللامتحدة في وحدة طهرانيتها؟ صور بن لادن، وصدام حسين تتصدر مهرجاناتها. صدام جاء بأوسلو كبعير عريق إلى شارع الفلسطينيين، ثمرةً لا ندري لماذا لا تحتملها جماعاتُ الدين. ثم جاء ببعير “خريطة الطريق”، أيضاً، فأنكروه.
“الهداية” في صوت بن لادن بإشاعة الموت، والترويع الذي تجتذب مقدماتُهُ الفلسفية الدمويةُ نتائجَها من الغرب إلى الشرق، و”الهداية” في الجهاد الذي أبلى أبو عدي في ساحات بغداد، هما وفاق عقل الكهف بتدبير الغزوات، في الأزمنة السحيقة، لكنه طاهرٌ هذه المرة، غير همجي، بالتكفير الموجب لإعداد الجيوش إلى “الأنفال” ضد.. مسلمين، أكراد.
ربما يقع الكرد، في السياق المنطقي لمقولات المعلِّميْنِ الأرسوزي وعفلق، في المعترك عثرةً إلى الوحدة العربية، على هَدْي البعث، وعثرة في المعترك إلى الوحدة الإسلامية على مذهب المدافعة عن قُصي بابا، سليل علي بابا، الهارب بقافلة من مال العراق. والكرد، على الأرجح، ليسوا “ضحايا بريئة” كما يحاولون التظاهر بذلك منتفخين، من كيماويات مزعومة، أمام عدسات التصوير. اجتماع الحلف الغامض، الثلاثي، التركي، والسوري، والايراني، على تخصيص النظر إلى قَدَره “المرفَّه”، “المُعافى”، لا يجعل منه “ضحية بريئة”. لكن إذا عنَّ لمعتوه، في نوبة حُمى مملوءة بنداءات الحوريات العذراوات، أن يأتي إلى “حدائقه” العربية بالثور الأميركي، فحطَّم ما حطم، توجب على الإعلام العربي توصيفه ب”الضحية البريئة”. ليكن. إذا كانت مراكز تلقين الفكرة الهمجية ضد كل من لا ينتمي إلى أهل الفكرة، المتحصّنة بحقوق الأقاليم الديموقراطية، تستدرج بالقتل العشواء إلى القتل نصف العشواء، فالأكيد أن من يُقتل لاحقاً هو بريء بالضرورة؛ بريء بحصانة دمه الطاهر، وفكره الطاهر، ورغبته التي لا تُقاوم في امتلاك الفردوس الطاهر. ذلك ما يقوله منطق الإشارة الفضائية المرئية، والأرضية المكتوبة. ليكن. الموتى باستدراج الغرب إلى قتلهم بريئون، فلماذا لا يكون الكردي، الذي لم يستدرج أحداً إلى القتل “غير بريء”؟. ربما علينا ألا نختبىء خلف سؤال نصف برىء، لأن الكردي في الأرجح المحكوم بتوزيع الله، جل جلاله، خلقَهُ الآدميين على أعراقٍ شتى يجد من المتعذر على خِصِّيْصَة عِرْقه التمثُّل ببيان مُلْحِفٍ في شهوة التفوق “الخالد”: أمة عربية واحدة، ذاتُ رسالة خالدة. هو، إذاً، عثرةٌ ما، وعليه التأسي كتأسي جماعات الدين على جهاد صدام أن الوحدة العربية تتعثر به، من اليوم الذي نهض فيه عبدالناصر إلى اليمن بالحديد فأخفقت وحدة الحديد؛ واليوم الذي جمع مصر، وليبيا، وسورية في وحدة نسينا تسمياتها، فشُرِّد العمالُ المصريون من ليبيا بلا أجور حتى؛ واليوم الذي جمع سورية ومصر في وحدة عرف منها السوريون، للمرة الأولى، كيف عليهم أن يخرسوا داخل الجدران من رقابة المخبر الموزَّع نسلاً هائلاً بين البيوت، فانهدمت الوحدة؛ واليوم الذي عرف فيه اليمنان الوحدة بعنوة الحب الفاتك، والحبل “الوحدوي” على غارب بعير المؤامرات. بالطبع، ليس للكردي يدٌ قط، في انتساب كل جماعة من الأقاليم الناطقة بالعربية إلى ما ابتكرتْهُ من خصائص تحفظُها كياناتٍ متمايزةً بالأسماء التي تنتسب إليها، وبالصفات المُجْتَلَبةِ من ماضٍ ما عريقٍ. كل إقليم خصّيصةُ خيالٍ من مصونه الجغرافيِّ، ومصونه الَّلهجي، ومصونه المتحقق عمارةً، ورسوماً، وزيّاً. هي خصائص أورثت الشخصية في الحدود الجغرافية المشمولة بحفظ القانون لكيانها وحدةً بذاتها، ذات نشيد، وعَلَم، ومتحف عصبيةً للعرق لا تُخفى إلاّ على المؤمنين بأساطير الوحدة وخرافاتها.
ربما مال المائلون إلى ركائز لزعم “وجوب” الوحدة (بالتراضي المعدوم)، مقامُها الدينُ، واللغةُ، والجغرافيا، هذا العنصر النجيب في فُتيا القومية. لكن الجليَّ، المتداول حالاً بعد حال في التاريخ الدموي الحديث (حرب اليمنين، حرب ليبيا ومصر في عهد السادات. حرب العراق والكويت. حرب مصر والسودان في فاصل بينهما. الدسائس بين الجزائر والمغرب على مقام الصحراء الغربية.. الدسائس المنتهية بإعدامات بالجملة بعد تقارب غير مفهوم، مرة، بين البعثيين على ضفتي دجلة…)؛ نزعم أن الجليَّ المتداول هو أن الاحتكام إلى سند الدين مثْلُهُ مثْلُ مجراه بين باكستان والسودان، والاحتكام إلى اللغة هو كمجراه بين فرنسا وبلجيكا. أما الجغرافيا فحدِّثْ بما فيه حَرَجُ الريح، والجبال، والشمس: لماذا لا تكون أمم العرب شمالاً امتداداً لتركيا؟ ولا أمم العرب شرقاً امتداداً لايران؟ ولا أمم الجنوب امتداداً لمساكب دول أفريقيا؟ لم يكن لأحد كيان بذاته خارج حدود الإمبراطوريات؛ والاستقلالات “المشوَّهة” الحديثة تفريعٌ سياسيٌّ لمشكل الوجود ذاته كأمَّة واحدة “بالقوة” الفلسفية. أم أن الهواء مفصَّل على قواعد الإعراب بلغة الضاد؟
لا. الكردي لم يعرف من أوجه الأمة الواحدة، كشعوب الأمة الواحدة ذاتها، غير جيوش من حصالة القبليِّ في الولاء، أو العائليِّ. جيوش تروِّع الجمادَ بضراوتها داخل سياجات المزرعة، والزريبة، تسقط في أيام أمام محتلٍّ أميركي، فيما تعيش عقوداً بعد عقود منتصرةً في “أم المعارك”، و”معركة الحواسم”، (التي اتخذتها إحدى فضائيات القرون الوسطى شعاراً في هرب أبي المعارك)، و”الأنفال”؛ وفي تنضيد المقابر الجماعية شطوراً تحت شطورٍ كمُعلَّقة شِعر؛ وفي صون “قصور الشعب” براهين حفاوة الأب الطيب بأبناء شوارعه، فيما لا يتجرأ أحد على الاقتراب أربعة فراسخ من أسوار “السر الخالد” للحاكم الخالد، مُنْتَخَباً مدى الحياة، أو مورِّثاً التركةَ بنقل زريبة الجمهورية من حديقة الأب إلى ابنه، وأحفاد أحفاده.
ربما لم يسقط هذا الجيش العتيُّ، الغيور، الأبيّ في هجوم الغزاة على بغداد. “نظرية الصفقة”، المسطَّرة بركاكة أين منها أغاني بدوية الصحراء سميرة توفيق، تتقدَّم، بخَبَبٍ سحريٍّ، خلف جِمال الفضائية العربية وأختها، إلى المشهد. الطاغية، مولى الفكر الفاتن لجماليات البطش، سلَّم البلد إلى احتلال المتحالفين في صفقة لا يبدو فيها من الوضوح شيء سوى نجاة الطاغية، واختفاء عائلته بخزائن المصرف المركزي عنوان رسوِّ الدولة على قدرات المقايضة بين الأمم. فضائيات الاحتفاء بالهمجية في صورتي بن لادن، وصدام، ستصرُّ، حتى آخر رمق في انهيار البعث، أن الابتذال الساحق في فرار أبي المعارك هو “بسالة” أمِّ الحواسم في الإبقاء على عراق “غير مطحون”: إنها نباهة البصيرة الإعلامية في تشخيص “عافية الانهيار”.
الجيوش العربية، المتخصصة في تلقي الإهانة من الحاكم عبر تدبير الرتب، وتوزيع المناصب والمكاسب، وعهد الإمارات إلى العائلة، وتفضيل دم النسل الواحد على الكفايات، ما نوازعُ قيامها باستلهام المعنى من “الوطن التجريدي” في الشعار؟ القطعاتُ العسكرية، الأكثر تدريباً، والأكثر ولاء للطاغية، والأشد رفاهة، تُعفى من أن تُمتَحنَ في معارك خارج أمن القصور. إنها ملزمة بقانون “القائد الدولة”، وليس أبعد من ذلك إلاَّ التراب النافل: ثلاثة أرباع موازنات أقاليم “الرسائل الخالدة” تذهب إلى “الجيش”، فيما الجندي العادي يتسول الخبز، ويتسول الموتَ مكشوفاً في حروب ليست حروبَ وطنه قط. لكن “المحللين” المتقاعدين من هزائم لا تنتهي، يحضرون برتبهم العسكرية الآفلة إلى منصات الإعلام، لتشخيص المشهد، لا بتوصيف الخراب الذي تآكَلَه، بل باستلهام الإنشاء الابتدائي في “تأمل” المعاني من طلقات متفرقة ضد تحالف الغرب الخفيض، ليجعلوها سنداً في ولادة دحرٍ بلا نهاية. بعضهم لجأ إلى تأويلٍ كتأويل المتصوِّفة للمتصوِّفة، فرأى في الحجب الأميركي المطبق لمعركة مطار بغداد الدولي (لم تُسْمَح حتى لجرادة بعبور الحزام المدرَّع) إخفاءً لخسائر “لا توصف”، وصفها على نحوٍ تفصيلي (!!!) على مقام الإثارة في بلاغة الصحاف أبي الإعلام العربي بلا تشكيك في “كيلوس” الوراثة: “صُودر التبغُ من الجنود الأميركيين، وأوصدت عليهم أبواب دباباتهم إذلالاً”! “محللون” من رتبة الصوفيِّ، لهم “عيونٌ” أرضية و”فضائية”؛ عيونٌ إشراقاتٌ سُعِدتْ بها شعوبها تُخمةً من “انتصارات” فدائيي صدام، والانتحاريين، الذين تبثُّ فضائيات “الجهاد” العربي أخبارَ جثثهم من شوارع إسرائيل، بتراخيص “عادية” في تجوّلٍ وإقامةٍ لا يملكها الكرديُّ المشكوك في انتمائه إلى “الرسالة الخالدة”، والمطعون في دفاعه عن خلوِّ يديه من أية مواثيق ل”إقامة وتجوُّل” في إسرائيل.
جيوش فرَّغت “الداخلَ” العربي من القانون. جيوشٌ استخبارات، وجيوش شرطة لتحصين “الداخلَ” العربي بحراسة قوانين الطوارئ الأبدية. كل تذمُّر، أو شكوى، أو اعتراض، هو إخلال “بثوابت الداخل” المتماسكة كخلود الرسالة. لم يبق ما يدعى “داخلاً عربياً”. فتَّتت الأنظمةُ اعتراض المختلفين على أدائها بالقتل، وبالاغتصاب، وبالسجن، وبالإخفاء، وبالملاحقة بالأسلحة المكتومة الصوت حتى أبواب بحر الظلمات، وبالخطف إذا اقتضى الأمر، من داخل عواصم عربية “تحفظ” ذِمَمَ الملتجئيْن.
لم يبق في الداخل العربي إلاَّ النظام وحَرَسُه، فكيف انبثقت دعاوى وجوب “التغيير من الداخل”، بقوة ألف حصانٍ طرواديٍّ، في احتلال العراق؟ الأنظمة، التي وحَّدها ميثاقُ هذا الشعار المذهل في النفاق المتبادل، هي من دحرج مصكوكَ “التغيير من الداخل”، البريء، إلى خطاب الرعاع، والدهماء، والغوغاء، بعد اطمئنان ذهبيٍّ إلى أن الداخل مُلْكُ شرطتها، ومخبريها، والمرفهين من احتكار مصادر الدولة ومواردها، إثر عقود من “تنقية” هواء الأمة من أنفاس الحالمين بحياةٍ أقلَّ رثاثة. أتى الأميركي ليأخذ ربعَ النفط العراقي، أو نصفه في الأرجح. احتلال صريح في عرف الأعراف. أمر مؤسف. لكن، ربما انتفع العراقيون بالنصف الآخر، بعدما كان، في كامله، ملكاً لصدام، وقصي وعدي. أيوجب هذا القول أخذنا على محمل ترحيب بغزو؟ بلى، سنؤخذ بذلك نحن المهدّدين “عافية” الداخل العربي، ونعمةَ عدالته. غير أننا سنؤكد أن الاحتلال هو احتلال. وأن التغيير الآتي من الاحتلال ليس إلاَّ اقتباساً من السطور الأولى في معاهدات الإستقلال العربي المفكك جداً، والعشوائي، عن إمبراطورية بني عثمان، برعاية موزّعي الجغرافيا على القبائل، والعشائر. ولما دالت الدول أُجيزَ حكمُ السياسة ب”أيد حديد” للبعض، وبانقلابات مذابحَ لبعضٍ آخر، لا استثناء في السياق إلاّ لبنان، الذي يُنتخبُ رئيسُه، بعد الانتدابات البعيدة، وبعد “الانتدابات” القريبة.
لاداخل عربياً يمكن تغيير داخله القائم على ترتيب “خارجي” في أساس “نهضته” كمزرعة، والأنظمة، التي دحرجت مصكوكَ ذكائها إلى أيدي الرعاع، والدهماء، والغوغاء، والعوام، اجتذبت إلى المائدة مثقفي أقطارها، وأنصافهم، وأرباعهم. بايع هؤلاء وعيدَ الرعاع، وفكرَ الرعاع، في المناضلة عن “التغيير من الداخل”، بأيدي أهل الداخل المقطوعة.
كان المثقفون، قبل محنة الفكر الجديدة بين يديِّ الصحَّاف المُلْهِم، ذوي “رسالات” في استنهاض الشارع العربي، بحسب الزعم، للارتقاء به من عدم فهم “حقيقته الطبقية” و”حقيقته الاجتماعية” و”حقيقته الفكرية”، إلى “تأهيل” يتعرَّف به الشارعُ “مصالحَ إنسانيته”، وشروطَ حريته، وسياقَ بنيته كحامل لدولة العدالة، والمساواة. لكن الشارع الرعاع، والسوقة، والعوام، والدهماء، والغوغاء “نكص” عن السياق “الواجب” لسيرورة التاريخ “الحالم” بالأسباب التي تعزى إلى نهج التدمير المنتظم لمؤسسات الفكر داخل بلداننا الحديثة، وكذلك إلى الإخفاق “الرفيع” في مناهج الأحزاب، وأداء المثقفين العشائري، والقبلي، والمذهبي العاصف بالحياة المدنية المنكوبة عن يد الدولة العسكرية.
“نكص” الشارع عن وعدٍ برفاهية في الحياة، ليستسلم لوعد الدين برفاهية في الموت. ثم أعيد تنظيم الفكر على أُسسه الغامضة الأولى: الوطن التجريدي في مواجهة “الخارج” المتربص، وعصبية المُعْتَقَد بإزاء “الخارج” الصليبي. وها هي “الطليعة” الفكرية للنُّخَب العربية “العالمة” تنحو إلى النكوص ذاته، في دعوى تمثيلها الشارع، متهاويةً إلى تأييد الرعاع، والدهماء، والغوغاء، والعوام، والسوقة، في ميزان الحاكم القاهر؛ وفي العصبية “للداخل” المفرَّغ الأحشاء ضد “الخارج”. إذاً، عاد الرعاعُ “طليعةً” في الأخذ بيد النُّخُبِ النجيبة إلى حلمها بالرفاهية في الموت الذي لا يخذل فردوسُه أحداً، بعدما تأكد بالبرهان الذهبي أن فردوسَ الحياة تخذل كلَّ أحد.
كلهم “ينحدرون” إلى الشارع الآن بإيمانٍ راسخ في دعوى “التعبير” عن الشارع: المذيع المرئي، والصحافي اللذان نسيا ارتداء عمامتيهما؛ والمذيعةُ المرئية شقراءَ بنعمة الصباغ، والصحافية اللتان نسيتا ارتداء برقعيهما، فيما يهرول المثقف، الباحث عن جُبَّة، إلى الخياط، بعد خلط البكاء على الشعب بشهقة اللوعة على مصير الحاكم، متَّحدين، جميعاً، للمرة الأولى في التاريخ الحديث المطهو بلا توابل، مع “جامعة الدول العربية” في “التحذير” من يقظة البركان الخامد، وخطط تقسيم البلدان.
“جامعة الدول العربية” أم جامعة الأنظمة العربية؟ منذ ابتداع هذه البيعة لمؤسسة مصكوكة القوانين على “جمع الشمل الأخوي”، أسوة بزعامة القبليين، وأمورها في حالٍ في فساد التدبير إلى حال في فساد التدبير. ليس في موجب شرائعها قسرُ أحدٍ على انتكاب الشر، أو توبيخه ولومه على احتقار سنَنِ الأخلاق. دعوات إلى ضبط النفس إذا تهارَشَ بَلَدانِ، أو تنابذا بالألقاب بوساطة الصواريخ. أما انتهاك حقوق الكائن البشري، في سجون الجغرافيا، وذبح المعترضين “مسيرةَ الرفاهية” تحت السرادق الطويل للقبور الجماعية، واغتصاب الأطفال بجرائر الآباء كي يعترفوا بما ارتكبوه وبما لم يرتكبوه، وقتل العمال العرب في بلد عربي آخر على نهج استعباد العرق الغني للعرق الفقير، وانتخاب رؤساء أبديين في انتخابات لا يخوضها إلاَّ الرئيس نفسه، وخطف الاستخبارات العربية للمعارضين الهاربين إلى بلدان أخرى، وسحق مدن بالدبابات، وبأمطار الخصب الكيماوي، واجتياح دول لدول وانتداب الجيران على الجيران، وتدمير معالم طبيعية أكثر عراقة من الرسائل الحديثة الخالدة، مثل أهوار العراق الفريد، فهذه، التي لم يستذكر خيالُنا المتعبُ غيرَها، “أمورٌ داخلية” على مرتبة “التغيير من الداخل”، لا تتداولها جامعة الأنظمة العربية خوف “شق” الصفوف المتراصَّة بالملاط، و”إغضاب” العدل الموفور للحاكم المُرهف كقلب العاشق.
في الذي شهدناه من عالم الفضائيات الجاهلية، أن المذيع إذا أخطأ في ذِكْر شيء بغيره، لا يعتذر، بل يضيف كلمة “أو” إلى السياق، ويمضي على عاهن سُلطته في إرشاد الخليقة إلى عقلها. فإذا قال: “الجِمال” والمراد “الجَمَال” صحح الخلطَ ب”أو”. وإذا قال: “ألف قتيل”، والمراد “ألف جريح”، صحح الخلط ب”أو”. وإذا قال: “الصين”، والمراد “أستراليا”، صحح الخطأ بإضافة “أو”. مئة بغل، “أو” مئة إنسان. “أو” حرف عطف، في اللغة العربية، على معاني الإباحة، والإبهام، والشك، الخ، لكن لم يصل إلى عِلْم فقيه موحى أن “أو” حرف عطف على معنى المطابقة والمماهاة. تقول: جاء زيد أو عمرو. نعم. لكن ذلك لا يجعل من زيد المهرج عمرواً من “وول ستريت”. هذا في منطق اللغة ببينونة التعيين، وفي منطق القرائن والمتخالفات بالهوية. غير أننا نقيم في منطق “خيار الخطأ” كصواب بإضافة “أو” إلى الحياة: “نحن في جحيم”، “أو” في نعيم، داخل مزرعة الحاكم”، وعلى السامع أن يفهم المذيع الفضائي بلغة الضاد. المعلِّم الجديد لحقائق “الإشراقات” العربية بعد أسلافه الثلاثة الأرسوزي، وعفلق، وبن لادن الدكتور أيمن الظواهري المنبثق من قاعدة “أو” بين الصواب والخطأ، أضاف إلى أمم الكفر أرضَ النروج، في توريث الهمة إلى “عُمَّال الجهاد” في العالم. ربما قصد الدانمارك، أو إسبانيا، اللتين أغفلهما من سجل القتل. لكن، لا يهم. أمُّ مهازل العطف حرف “أو” لم تجد في إقصائها عن الخبر إحراجاً. ظلت النروج هي النروج. فإذا اقتدى أحد الرعاع بفُتيا الظواهري فقتل نروجياً، وانتقم نروجي لبريء من ملَّته بالاعتداء على مسلم في شوارع أوسلو، اجتمع النُّظَّار، الشُّطَّار، حول منضدة ندوة القناة الفضائية لبحث “الجذور” الصليبية للنروج، وتربصها منذ الأزل بالإسلام.
خطأ مقصود، من ذاكرة الظواهري الدموية، في استذكار الإسم المقصود، ينبغي أن يقود إلى صناعة معجم من المجازر، حتى يكتمل لآباء المهازل سياق التورية: الصليبية قائمة، شاء الواقع أم أبى، في نفس كل مسيحي. والغرب، بالضرورة، هو المعتدي على بن لادن، والملا عمر الأمير المؤمن بدنس المؤسسات الأرضية في قيام الدول، مبتكراً نهضةً لأفغانستان على تهريب الأفيون رحيق السماء، مقتدياً بشرع تصدير الوباء إلى أمم الكفر.
كلنا خطأ مقصود في اللغة على نهج استذكار الظواهري لإسمٍ غير مقصود، ينبري إليه الإعلامي العربي بشرع الإضافة: الحاكم “أو” (نعني) الشعب؛ الموت “أو” الحياة، الاستعباد “أو” الحرية؛ الفناء الزمني “أو” الرسائل الخالدة؛ صدام “أو” (نعني) العراق.
قال لي المُعَلِّم في الصف الإعدادي، حين ذكرتُ كرديَّتي على محملٍ بريء: إذا كنت كردياً فعُدْ إلى تركيا (؟!). لم أقل بعد لأبناء المعلم وأحفاده: ارجعوا إلى الجزيرة العربية، وسنتكفل نحن بالعودة إلى مسرح لم نخرج منه، مستعيديْنَ أسماءَ حجارتنا، التي لن يقدر الفناءُ الخالد أن يتوسَّط للرسائل الخالدة بنعمة تعريبها.[1]