الكرد في الجزيرة حسب المصادر العربية الإسلامية ….
محسن سيدا *
ارتبطت بلاد الكرد مثلما ارتبط تاريخ نشأتهم ، في المصادر الإسلامية، بالجبل إلى درجة التماهي بينهما وقد تجلّت الدلالات الرمزية لارتباط الكرد بالجبال من خلال الأسطورة التي أوردها الدينوري(ت 895م) والتي تعتبر الجبال مهد الكرد والموطن الذي نشأ فيه أسلافهم (1) . فتسمية إقليم الجبال ب ” دار الأكراد” (2) تشكّل امتداداً لعلاقة الكرد بالجبل.
أما بالنسبة للسهل فتشير المصادر الإسلامية إلى توزع الكرد وانتشارهم في السهول أيضا. ومن المعلوم أن السهل و الجبل متلازمان . ولا شكّ أنه ينتج عن هذا التلازم تداعيات إجتماعية و اقتصادية وهذه سمة من سمات جغرافية كردستان .
أشار البلداني أبو عبيد البكري( ت 1094م) إلى مناطق انتشار الأكراد في ” أرض دينور وهمدان وبلاد أذربيجان وبلاد الشام وبأرض الموصل إلى جبل جودي ” (3) و يضيف البكري في تحديد جغرافية الكرد ” وموضع الكرد الذي فيه أولهم ما بين أرض يهودا من أرض الشام وما بين جزيرة العرب “(4) .
في هذه الدراسة سأتناول وجود الكرد في إقليم الجزيرة حسب المصادر الإسلامية ،مركزاً بشكل خاص على بعض كتب الجغرافية الإسلامية و كتب الرحلات . إنني لم أشأ في هذه الدراسة تناول الصراعات السياسية والإضطرابات الأمنية جرّاء الحروب الداخلية و الغزوات الخارجية التي تعرّضت لها البلاد الجزرية، وكذلك لم أشأ الخوض في قيام وسقوط الدول والإمارات التي شهدتها تلك البلاد والتي كانت لها انعكاسات و تداعيات ،بلا شك، على حركة السكان و انتشارهم، والتركيبة الديمغرافية و من مظاهر اثر الحروب على السكان و تعاقب الأمم على الأمكنة أورد هنا ،على سبيل المثال ،ما ذكره البلاذري(ت 892م) عن مدينة سنجار التي كانت بيد الروم ثم فتحها الفرس وفي عهد الفتوحات العربية ” انصرف عياض من خلاط وصار إلى الجزيرة ،بعث إلى سنجار، ففتحها صلحاً وأسكنها قوماً من العرب ” (5). إن جلّ ما أصبو إليه في دراستي هذه ، سرد بعض النصوص والشواهد التي تناولت و أصّلت وجود الكرد في الجزيرة .
يشكّل إقليم الجزيرة امتداداً طبيعياً لإقليم الجبال من جهة الشرق، وقد أطلق الجغرافيون المسلمون على المناطق الشمالية الواقعة بين نهري دجلة والفرات اسم الجزيرة أو البلاد الجزرية ،فتباينت تسمياتها وحدودها ونسبة بعض المدن إليها بتفاوت الأزمنة والبلدانيين ،وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فقد اعتبر ياقوت الحموي (1187 – 1229م ) في القرن الثاني عشر الميلادي مدينة خلاط قصبة أرمينية بينما عدّها ابن عربشاه (1389 – 1450م) في القرن الرابع عشر الميلادي ،جزءاً من ” بلاد الأكراد ” (6).
ولقد قسّم الجغرافيون بلاد الجزيرة تقسيماً قبلياً إلى ثلاث مناطق وهي
ديار ربيعة وديار مضر وديار بكر
. وتنسب إلى البلاد الجزرية مدن وبلدات وقرى هامة أسهب البلدانيون في تعدادها
ووصفها ، ومن أشهرها الموصل وآمد والرها ورأس العين ونصيبين وجزيرة ابن عمر وسروج وقرقيسيا ودنيسر وسنجار و غيرها ، بعضها مازال قائماً و باسمائها التاريخية و بعضها الآخر اندثرت وبادت أو نشأت على انقاضها أو بجوارها مدن وبلدات جديدة وقد أطلقت على المدينة الواحدة اسماء عديدة حسب لغات أو نطق شعوبها و ظاهرة تسمية المدينة الواحدة بأسماء عدة لها امتدادات حتى يومنا هذا ، وعلى سبيل المثال مدينة الحدث والتي تعد إحدى الثغور الجزرية التاريخية والواقعة بين سميساط ومرعش وملطية ” تسميها الأرمن كينوك و تسميها الأكراد الهت والعرب تسميها الحدث “(7) .
تميّزت البلاد الجزرية بغنى مواردها الطبيعية والبشرية و موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة العالمية و تعدّ التعددية العرقية والدينية والتداخل الحضاري بين سكانها من العناصر الهامة في التكوين التاريخي للبلاد الجزرية بالإضافة إلى التركيبة الإجتماعية القبلية لغالبية السكان فيها و بخاصة الكرد والعرب والترك . يقول الاصطخري : أن طرائق الكرد و مذاهبهم ” في القنية والنجعة مذاهب قبائل العرب والأتراك ” (8) ،فالحواضر الجزرية ، ونتيجة تباين السكان و الطبيعة الجغرافية للاقاليم المتاخمة لها ، كانت وسطاً طبيعياً لتبادل سلع الجبال مع منتجات البادية و وقد ترتّب على ذلك قيام العديد من المدن والبلدات المتعددة الجنسيات والأديان و هي تكاد أن تكون ظاهرة عامة في المدن الجزرية . وما ذكره الجغرافي ابن حوقل( ت 990م تقريباً)عن مدينة ” كفر عزّى” يمكن تعميمه على سائر المدن الجزرية ، حيث بيّن علاقة سكان البوادي والأرياف بالمدن ، فيقول: ” ومدينة كفرعزّى ” يمتار منها الأعراب وينزل في نواحيها الأكراد “(9) فالقبائل الكردية و العربية التي سكنت البلاد الجزرية و التي ورد ذكرها في المصادر الإسلامية كانت في معظمها ” حاضرة بادية ” أي تمتهن الزراعة إلى جانب الرعي و ستنعكس هذه الظاهرة على ترييف المدن الجزرية و عجزها على تمدين الريف حتى يومنا هذا .
يذكر ابن حوقل في معرض حديثه عن براري الجزيرة و التي يسكنها قبائل ربيعة ومضر فيكتب ” وأكثرهم متصلون بالقرى وبأهلها فهم بادية حاضرة ” (10)
فالتركيبة الإجتماعية للسكان والتي امتهنت الزراعة إلى جانب الرعي سمة مشتركة للسكان الكرد والعرب في البلاد الجزرية . يقول ابن حوقل ” وبين الزابين مراع كثيرة وبلاد كانت الضياع بها ظاهرة وهي في الشتاء متشاتى للأكراد الهذبانية ومصائف لبني شيبان” (11)
. إن قراءة نصوص الجغرافية والتاريخ الإسلامي والتي تناولت البلاد الجزرية تبدّد بعض التصورات المتخيلة عن التكوين التاريخي لهذه البلاد ،فالتوزع الجغرافي لللأقوام والأديان في هذه البلاد يتداخل بشكل لافت ومن الصعوبة بمكان رسم حدود فاصلة بينها واستناداً إلى النصوص الإسلامية فإن تاريخ غالبية الشعوب التي عاشت في إقليم الجزيرة ،كالعرب والأرمن والكرد والآثوريين الكلدان ،يعود تاريخها إلى حقبة ماقبل الأسلام ، اما التركمان فقد دخلوا المنطقة بعد معركة ملاذكرد عام 1071م وأصبح لهم دور بارز في تاريخ الإسلام بشكل عام و البلاد الجزرية بشكل خاص حيث أسسوا العديد من الإمارات والدول فيها .
إن انفتاح إقليم الجزيرة من جهة الجنوب مع الجزيرة العربية سهّلت للقبائل العربية بالسكن فيه قبل الإسلام ،ولكن لم تدخل الجزيرة ضمن جغرافية ” ديار العرب” حسب اصطلاح الجغرافيين ، يقول ابن حوقل . ” وقد سكن طوائف من العرب من ربيعة ومضر الجزيرة حتى صارت لهم بها ديار ومراع ، ولم أر أحدأ عزا الجزيرة إلى ديار العرب لأن نزولهم بها وهي ديار لفارس والروم” (12)
إن المصادر،التاريخية منها و الجغرافية ، والتي تناولت تاريخ العرب والشعوب الأخرى في الجزيرة، تتحدث بدورها عن الكرد وقبائلهم و قلاعهم وقد دلّت المصادر التاريخية على كثرة قلاع الكرد و معاقلهم وهي تكاد أن تكون سمة للتاريخ الكردي في العهد الإسلامي . يذكر الجغرافي ابن الفقيه(توفي بعد 903م) في معرض تعريفه لحدود الجزيرة ، أن القائد عتبة بن فرقد السلمي نجح عام 20 للهجرة في ” فتح المرج وقراه وأرض بانهدرا وداسن وجميع معاقل الأكراد “(13) وذكر المؤرخ الجزري ابن الأثير(1160 – 1234م) هذه الرواية في حوادث سنة 16للهجرة ، فيقول : ” و عَبَرَ دجلة ، أي عتبة بن فرقد، فصالحه أهل الحصن الغربي وهو الموصل على الجزية ، ثم فتح المرج ، وبانهدرا ، وباعذرا ، وحبتون، وداسن ، وجميع معاقل الأكراد و قردي و بازبدي ، وجميع أعمال الموصل ” (14).
من المصادر الهامة في تاريخ الجزيرة كتاب الواقدي( 747 – 823م) ” فتوح الجزيرة” حيث يؤرخ لنقطة التحول في البلاد الجزرية إبان عهد ” الفتوحات ” وإثر احتدام الصراع بين الإسلام والمسيحية في المنطقة . فكتابه يؤرخ لحقبة ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتوحات ، لذا جاء اهتمام الكتاب منصباً على معرفة دخول العرب المسلمين إلى تلك البلاد ، صلحاً أم عنوة وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية، دون الدخول في تفاصيل أوصاف البلاد الجزرية وتحديد السكان كما يفعل البلدانيون في كتاباتهم حيث الإسهاب في أوصاف السكان وأديانهم وأعراقهم . وتكمن أهمية الواقدي كونه من أقدم المؤرخين الذين تناولوا تاريخ الفتوحات و يعد كتابه وثيقة تاريخية هامة لبداية انتشار الإسلام و انحسار المسيحية و ما نتج عنه من تغير في التركيبة السكانية من الناحيتين العرقية و الدينية في الجزيرة.
لم يتطرق الواقدي إلى الأقوام الجزرية إلا عرضاً و قد أشار إلى العديد من القلاع و الحصون والمواقع دون ذكر للكرد فيها علماً أن مصادر أخرى ستتحدث عنها كقلاع و حصون لأهلها الأكراد وتحديد القبائل الكردية الحاكمة فيها . تنوب كلمة النصارى ذات المدلول الديني في نص الواقدي عن التعددية الأقوامية في الجزيرة ، فهي الكلمة الجامعة للسكان في الجزيرة وفق نص الواقدي .و هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن كلمتي النصارى والسريان لهما نفس المدلول الديني . لقد أطلقت كلمة السريان على الآراميين من معتنقي المسيحية وتوسع فضاء الكلمة لتماثل كلمة النصارى في المعنى ، ولتطلق على المسيحيين من كل الأقوام . يقول العلامة ادي شير(1867 – 1915م) في هذا الصدد : ” ….. لم يكن الاسم السرياني يومئذ يشير إلى أمّة بل إلى الديانة المسيحية لا غير ” (15) و ينقل عن مطران نصيبين (975- 1046م ) أنه فسّر كلمة السرياني بالنصراني و يضيف قائلاً : ” وإلى يومنا هذا نرى الكلدان و الآثوريين لا يتخذون لفظة سرياني للدلالة على الجنسية بل على الديانة ” (16).
كان لا بد من هذا التوضيح لتوخي الحيطة عند تناول تاريخ الشعوب والأديان في الجزيرة .
عند تناول الواقدي ل ” فتح الموصل ونينوى” يذكر اسماء بعض القلاع والحصون في تللك المنطقة ومنها قلعة أشب والعقر(17) و حصون ابن عمر وجبل مارون وشرق دجلة(18).
ستسجل هذه الرقعة الجغرافية ، المشار اليها آنفاً،في المصادر الممتدة مابين العاشر الميلادي إلى الثالث عشر الميلادي كثافة كردية تحدثت عنها المصادربوضوح .
. يذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان في معرض تعريفه لبعض القلاع ،التي وردت اسماؤها لدى الواقدي ،ومنها قلعة أشب والعقر ومارون وهي قلعة فنك ،فيؤكد الحموي ملكية هذه القلاع للقبائل الكردية والمعروفة في المصادر الإسلامية . فقلعة آشب كانت للأكراد قبل تسميتها بالعمادية نسبة إلى عماد الدين الزنكي (19) وقلعة العقر ” أهلها أكراد”(20) وتعد قلعة فنك من أهم معاقل الأكراد البشنوية و هي ” قلعة منيعة للأكراد البشنوية قرب جزيرة ابن عمر …وهي بيد هؤلاء الأكراد منذ سنين كثيرة نحو الثلثمائة سنة ” (21).
يورد الحموي أسماء العشرات من المدن والبلدات والقرى الكردية ومما يلفت في كتابه كثرة أسماء الحصون والقلاع الكردية والتي تعيد للأذهان كتاب ” القلاع و الأكراد “(22) للمدائني (ت 842 م ) ، المعاصر للواقدي، ولولا شهرة الكرد بالقلاع ، كما تؤكد المصادر ، لما افرد المدائني كتاباً خاصاً عن الكرد والقلاع ، ومما يؤسف له أن كتابه مفقود كسائر كتاباته .
يقول ياقوت الحموي في معرض تعريفه لجغرافية الزوازن وبعد حديثه عن حدود الزوزان يكتب قائلاً. ” وفيها ، أي الزوزان ، قلاع كثيرة حصينة ، وكلها للأكراد البشنوية والبختية ، فمن قلاع البشنوية قلعة برقعة وقلعة بشير، وللبختية قلعة جرذقيل ، وهي أجل قلعة لهم وهي كرسي ملكهم ” (23) . لم تشر المصادر الإسلامية الى هجرة للقبائل الكردية إلى إقليم الجزيرة وليس ثمة إشارات إلى زمن دخلول الكرد إلى هذه القلاع . إن سكوت المصادر عن نزوح كردي باتجاه الجزيرة وغياب ذكر الكرد في كتاب الواقدي يدفع الباحث إلى السؤال عن هوية هؤلاء النصارى الذين أسهب الواقدي في الحديث عنهم.
يكتنف الغموض حياة الكرد قبل الإسلام خاصة ما يتعلق بمعتقداتهم وأديانهم ، إلا أن المصادر الإسلامية تحمل في ثناياها معلومات قيّمة عن حياة الكرد يمكن من خلالها ترميم الفجوات في التاريخ الكردي وتسليط الضوء على بعض جوانبه المعتمة. يعد كتاب مروج الذهب للمسعودي( 896- 975م) من المصادر الهامة عن الكرد في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي. يذكر المسعودي
في معرض حديثه عن أنساب الكرد و منشئهم التاريخي و التوزع الجغرافي لقبائلهم والإشارة إلى الأديان و المذاهب المنتشرة بينهم ،يذكر المسعودي قبيلتين كرديتين مسيحيتين وهما الجورقان و اليعقوبية فيقول . ” ……. ومنهم اليعقوبية و الجورقان وهم من النصارى ، وديارهم مما يلي بلاد الموصل وجبل الجودي. “(23)
وقد ذكر المؤرخ الجزري ابن الأثير في القرن السادس الهجري ، الثاني عشر الميلادي الأكراد اليعقوبية في البلاد الجزرية في حوادث سنة 266 للهجرة لكن دون التطرق إلى ديانتهم (24).
تؤكّد المصادر الإسلامية أن الديانة السائدة في البلاد الجزرية ، قبل الإسلام ، كانت النصرانية إلى جانب الزرادشتية فمن المعروف أن البلاد الجزرية قبل الإسلام كانت مسرحاً للصراع بين الامبراطوريتين ،البيزنطية المسيحية و الساسانية الزرادشتية ، يذكر الواقدي أن قلعة ماردين كانت بيتاً للنار قبل بناء القلعة(25) . ومن الأدلة و القرائن على انتشار المسيحية في مناطق تداخل الأرمن مع الكرد ما ذكره البلاذري(ت 892 )عن بطريرك الزوزان الذي صالح المسلمين عن أرضه على إتاوة وذلك سنة 19ﮪ (26) وفي تعريف بلاد الزوزان يقول الحموي : ” أن بلاد الزوزان أهلها أرمن وفيها طوائف من الأكراد ” (27). ومما يجدر ذكره أن كلمة الزوزان من المفردات الدارجة في اللغة الكردية حتى يومنا هذا وهي تعني المرتفعات التي تتصيّف فيها القبائل الكردية . بعد سرد هذه الروايات المستقاة من المصادر الإسلامية هل نجانب الصواب اذا قلنا أن النصارى في روايات الواقدي كان من بينهم الكرد ايضاً ؟
تتوالى المصادر الإسلامية بالحديث عن الكرد في الجزيرة و عن دورهم السياسي و العسكري في البلاد الجزرية و يعد كتاب ” الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة ” لابن شدّاد ( 1217- 1285م) من أهم المصادر التي تؤصّل الوجود الكردي في الجزيرة . يذكر ابن شداد بشكل مفصل التقلبات السياسية في الجزيرة كما يورد معلومات هامة عن دولة الأكراد في آمد و ميافارقين و يعد المؤرخ الوحيد ، حسب اطلاعي ، الذي وسم جزيرة ابن عمر باسم ” جزيرة الأكراد ” و تعود التسمية إلى القرن الرابع الهجري حسب المصدر الذي استقى منه ابن شدّاد . ففي معرض تفصيله للتقسيمات الإدارية للبلاد الجزرية التي سميت بأسماء القبائل العربية القاطنة في الجزيرة و التي سبق أن اشرت إليها في بداية البحث يذكرابن شدّاد التباينات بين الجغرافيين حول تقسيماتهم الإدارية فيقول: ” وأما من تقدم من مصنفي المسالك و الممالك كابن خرداذبه وابن واضح فإنهم لم يفصلوها هذا التفصيل ، بل جعلوها سقعاً واحداً سموه ديار ربيعة ، إلا أن ابن واضح عدّ في كورها كورة بَلَد ، وبازبدي ، وجزيرة الأكراد *وأظنها، والله أعلم ، جزيرة بني عمر لأن الأكراد كثيراً ما ينتابونها ، وينتجعونها لقضاء أوطارهم ” (28)
وفي معرض تعريف ابن شدّاد لجزيرة ابن عمر يقول : ” جزيرة ابن عمر مدينة مسورة ، تحيط بها دجلة مثل الهلال . وهي إسلامية محدثة، اختطها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي ، بعد المئتين في أيام المأمون فعرفت به. وعَدّ ابن واضح من كور ديار ربيعة جزيرة الأكراد ، وأظنها هذه الجزيرة ، وأنها كانت تعرف بذلك، قبل أن يختطها ابن عمر التي نسبت إليه “(29) . يتضح مما أورده ابن شدّاد أن جزيرة ابن عمر كانت تسمى بجزيرة الأكراد قبل تسميتها بجزيرة ابن عمر وهو ينقل عن المؤرخ والجغرافي اليعقوبي المعروف بابن الواضح (ت 897م ) ،مؤلف كتاب ” البلدان” ،الذي عاش في نهاية القرن التاسع الميلادي وإذا ثبت ما أورده ابن شدّاد أن جزيرة ابن عمر كانت تسمى بجزيرة الأكراد ، فهذا يعني ان جزيرة ابن عمر كانت تعرف بجزيرة الأكراد أيام الواقدي . كما اشار ابن شدّاد إلى الأكراد في نواحي ماردين ومحاولاتهم السيطرة عليها فيقول : “وكان مَن بنواحي ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها، فلا يزالون يشنون الغارات على اطواقها ” (30).
ولقد تناول الرحالة الأندلسي ابن جبير (1145- 1217م) في رحلته إلى البلاد الجزرية أوصاف البلاد و ازدهار بعض مدنها وأسواقها و قد أشار إلى الأكراد في رحلته وتعذُ روايته عن الكرد مصدراً هاماً عن انتشار الكرد في البلاد الجزرية رغم الصفات السلبية التي الصقها بالكرد . نزل ابن جبير بإحدى خانات نصيبين ،الواقعة خارج المدينة ،في طريقه إلى مدينة دنيصر(31) ، ونظراً لأهمية روايته سأوردها كما هي ، يقول ابن جبير : ” فكان نزولنا بها في خان خارجها، وبتنا بها ليلة الأربعاء الثاني من ربيع الأول، ورحلنا صبيحته في قافلة كبيرة من البغال والحمير ، حرانيين و حلبيين وسواهم من أهل البلاد ، بلاد بكر و ما يليها ، وتركنا حاجّ هذه الجهات وراء ظهورنا على الجمال ، فتمادى سيرنا إلى أول الظهر ، ونحن على أهبة و حذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل إلى نصبين إلى مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فساداً في الأرض ، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة ، ولم يُعن الله سلاطينها على قمعهم وكف عاديتهم ، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان إلى باب نصبين ، ولا دافع لهم ولا مانع إلا بالله ، عز وجل “(32) و من الرحالة الذين أشاروا إلى الكرد في الجزيرة الرحالة المغربي ابن بطوطة ( 1307- 1377م) الذي زار مدينة سنجار الجزرية و تحدث عن أهلها الكرد ، وقال عنهم : ” وأهل سنجار أكراد ولهم شجاعة وكرم ” (33)
يعتبر الموسوعي الدمشقي فضل الله العمري (1301 – 1349م) من أكثر المؤلفين الذين تناولوا الكرد في مؤلفاتهم و قد أخذ الكرد حيزاً كبيراً في مؤلفاته تستحق إفراد بحث خاص عن الكرد في كتاباته . واللافت في كتاباته حديثه عن كثرة عدد الأكراد ” ولولا أن سيف الفتنة بينهم يستحصد قائمهم وينبه نائمهم لفاضو على البلاد ” (34) ويقول أيضا عن القبائل والطوائف الكردية ” لو أتفقت لما وجدت خيلاً تكفيها في الركوب “(35) يشير فضل الله العمري في موسوعته ” مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ” إلى جغرافية بلاد الكرد و انتشار قبائلهم وحياتهم الإجتماعية و يستدل من معلوماته القيمة سعة بلاد الكرد و انتشارهم في السهول والجبال وتبدو معلوماته عن الكرد وبلادهم سرداً من جغرافي عاين بلاد الكرد وقبائلهم عن كثب و من هنا تكمن القيمة العلمية لكتاباته . لم يهدف فضل الله العمري في الفصل المخصص بالأكراد تدوين سائر القبائل والطوائف الكردية الموجودة في عهده لعدم معرفته بها أو لعدم أهميتها كما يصرّح بنفسه ، فحديثه عن الكرد بالدرجة الأولى منصب على القبائل العريقة الحاكمة و التي كان المؤلف على دراية بأحوالها ومواطن سكناها. يقول العمري : ” لم أذكر من عشائرهم إلا من كنت به خبيراً، ولم أسمّ فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة ، تبدأ بجبال همذان وشهرزو وإربل و تنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار إلى الموصل ، ونترك ما وراء نهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود ، إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين وهم لكل من جاورهم من الأعداء الماردين ، مع أن أماكنهم ليست منيعة و مساكنهم للعصيان غير مستطيعة . “(36) يشير نص العمري بوضوح إلى أكراد السهل في الجزيرة وقرى ماردين وهي منطقة ذات غالبية كردية في وقتنا الحالي و ستصبح ماردين و ضواحيها في القرن التاسع عشر جزءاً من إيالة كردستان العثمانية . (37)
بعد هذا السرد لبعض النصوص التي تناولت تاريخ الكرد في بلاد الجزيرة بمفهومها الواسع أنتقل للحديث عن تاريخ القبيلة البرازية الكردية في سهل سروج . لا تكمن أهمية دراسة القبيلة البرازية الجزرية كونها تشكّل غالبية سكان مدينتي كوباني و سروج فحسب ،بل يمكن القول أنها تختزل في تاريخها تاريخ القبيلة الكردية بكل تقاليدها .
ثبت المصادر و المراجع
1- الدينوري ، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص 6، طبع على نفقة مصححه وضابط الفاظه محمد سعيد الرافعي ، صاحب المكتبة الأزهرية ، الطبعة الأولى سنة 1330ﮪ بمطبعة السعادة بمصر .
2- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب ابن واضح ، كتاب البلدان ص 7، طبعة عام 1860م في مدينة ليدن ، مطبعة بريل .
3- أبو عبيد البكري، عبد الله بن عبد العزيز الاندلسي ، المسالك و الممالك ، الجزء الأول ، ص574، حققه و قدمه أندريان فان ليوفن و أندرى فيري ، الدار العربية للكتاب و المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات 1992م .
4- نفس المصدر ص 574
5- البلاذّري ، أبي العباس أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ، فتوح البلدان ، ص242 ، حققه و شرحه وعلّق على حواشيه وأعدّ فهارسه وقدم له عبد الله أنيس الطبّاع و عمر أنيس الطباع ، مؤسسة المعارف للطباعة و النشر، بيروت 1987م .
6- ابن عربشاه، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الدمشقي الأنصاري، المعروف باين عربشاه ، عجائب المقدور في أخبار تيمور ، ص99، الطبعة الأولى بمطبعة القاهرة سنة 1885.
7- أبن شدّاد، عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم ، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة ، الجزء الأول ، القسم الثاني ، ص 173، حققه يحيى زكريا عبارة ، منشورات وزارة الثقافة ، سورية ، دمشق 1991م.
8- الأصطخري، ابي اسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الأصطخري المعروف بالكرخي. المسالك والممالك، ص115، طبع في مدينة ليدن المحروسة بمطبعة بريل .
9- ابن حوقل، أبي القاسم بن حوقل النّصيبي ، صورة الأرض ، ص 199، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1992م
10- نفس المصدر ص 208
11- نفس المصدر ص 208
12- نفس المصدر ص 29
13- ابن الفقيه ، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن اسحاق الهمذاني، كتاب البلدان ، ص 177، تحقيق ، يوسف الهادي ، منشورات عالم الكتب ، الطبعة الأولى عام 1996م.
14- ابن الأثير، عزالدين أبي الحسن الجزري الموصلي، الكامل في التاريخ، الجزء الثاني ، ص 369 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، تحقيق أبي الفدا عبد الله القاضي .
15- ادي شير ، تاريخ كلدو و آشور ، الجزء الثاني ص 2 ، طبعة 2007م .
16- نفس المصدر ص 2
17- الواقدي، محمد بن عمر الواقدي ، تاريخ فتوح الجزيرة والخابور و دياربكر والعراق، ص 237، تحقيق عبد العزيز فياض حرفوش . 1996م. دار البشائر دمشق .
18- نفس المصدر ص234
19- ياقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، معجم البلدان ، المجلد الرابع، ص 149، منشورات دار صادر بيروت ، 1977م.
20- نفس المصدر ، المجلد الرابع ص 136،
21- نفس المصدر ، ص 278
22- النديم ، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق المعروف بالورّاق ، الفهرست ، ص 116 ، تحقيق رضا تجدد . بدون تاريخ
23- المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين ، مروج الذهب و معادن الجوهر ،الجزء الثاني، ص 97، اعتنى به وراجعه كمال حسن مرعي ، المكتبة العصرية ن صيدا ، بيروت ، الطبعة الأولى 2005م .
24- ابن الأثير ، الجزء السادس ، ص 289.
25- الواقدي، فتوح الجزيرة ، ص78
26- البلاذري ، فتوح الجزيرة ، ص 242
27- ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، المجلد الثاني ، ص 185
28- ابن شدّاد ، الأعلاق الخطيرة ، الجزء الثاني ص 6-7
29- نفس المصدر الجزء الثالث، ص 213
30- نفس المصدر ص 147
31- دنيسر هي مدينة ” قزل تبه ” الكردية القريبة من مدينة الدرباسية الكردية السورية .
32- ابن جبير ، أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، رحلة ابن جبير ، ص 215، منشورات دار صادر ، بيروت .
33- ابن بطوطة ، محمد بن عبد الله بن محمد اللوااتي الطنجي ، تحفة النظّار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار ، الجزء الأول ص 150.
34- فضل الله العمري ، شهاب الدين أحمد ، التعريف بالمصطلح الشريف ، ص 37، طبع بمطبعة العاصمة بمصر سنة 1312ﮪ على نفقة صاحبها محمد مسعود.
35- نفس المصدر ص 111
36- فضل الله العمري ، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية 1988م طبع بالتصوير عن مخطوطة 2-2797 ص 178- 462، أحمد الثالث طوبقابو سراي – اسطمبول . نشرها الباحث التركي فؤاد سزكين مع علاء الدين جوخوشا، ايكهارد نويباور.
37- انظر سالنامه الدولة العثمانية لعام 1274ﮪ كانت إيالة كردستان تتألف من 49 قضاء و ثلاث
ولايات منها قضاء ابن عمر و قضاء نصيبين . فمدينة نصيبين المحاذية لمدينة قامشلي كانت جزءاً من ولاية كردستان العثمانية .
* تشكّل جزيرة ابن عمر و المناطق الواقعة شرقيها معقلاً تاريخياً للكرد وخاصة للقبيلتين البشنوية و البختية وقد أعطت الأخيرة اسمها لجزيرة ابن عمر، فصارت تعرف في التاريخ الكردي باسم ” جزيرا بوطا ” أو ” جزيرا بوطان ” وشهدت بلاد بوطان بمفهومها الواسع بداية التدوين باللغة الكردية و الانتقال من الثقافة الشفاهية إلى التدوين وأضحت معقلاً للثقافة الكردية التقليدية وفيها نبغ أعظم شاعر باللغة الكردية / الكرمانجية / الشاعر ملاي جزيري الذي تغنى بموطنه كردستان معتبراً نفسه سراج ليل كردستان.
بالتعاون مع موقع مدارات كورد[1]