كيف تبدّدت فرصة إنشاء الدولة الكرديّة في 1920؟ …
جوردي تيجيل*
في 1920، كاد الأكراد يحوزون دولة خاصة بهم، ولم يكونوا يوماً أقرب الى حلمهم هذا. لكن بعد 3 سنوات، تبدد الاحتمال هذا. لكن ما السبيل الى فهم إخفاق النخب القومية الكردية في الفوز بدولة خاصة بهم، في وقت كان السياق الدولي يبدو مواتياً على وقع تقطيع أوصال السلطنة العثمانية وبحث القوى الغربية عن حلفاء محليين؟ والنخب الكردية ترمي لائمة الإخفاق كلها على القوى الأوروبية ووعودها الكاذبة. لكن واقع الأمور أكثر تعقيداً وتركيباً. والسبيل الى جواب مركب هو احتساب عوامل هي، في آن واحد، خارجية (مصالح الغربيين المتباينة، وانتصارات مصطفى كمال العسكرية) وداخلية (انقسام اللجان الكردية) ومسارات تاريخية سابقة (الإبادة الأرمنية، والشقاق القبلي والديني الكردي). ففي السلطنة العثمانية، لم تكن الهويات الكردية مهددة تهديداً مباشراً، على رغم قمع اسطنبول الأمراء الأكراد المتمردين وثورات قادها شيوخ صوفيون. لكن القمع لم يرم الى اجتثاث الإتنية الكردية، بل الى طمس كل نزعة انفصالية والحؤول دون بروز سلطة منافسة تجبه السلطة المركزية. لذا، أطاح السلطان العثماني في القرن التاسع عشر الأمراء الأكراد، وتوجه الوجهاء الأكراد الى المنفى في ولايات السلطنة أو خارجها. والحملة الأخيرة للسيطرة على كردستان أطاحت بدرخان بيه في 1847. ونجمت عن الفراغ إثر إطاحة السلالات الكردية، فوضى في نهاية القرن التاسع عشر، فاعتمد السلطان على تحالفات قبلية كردية واسعة مقابل الولاء له. وعليه، أسس السلطان عبدالحميد الثاني فوج الحميدية من القبائل، ومنحها امتيازات (تسلح، وإعفاء من الضريبة، وشبه حصانة قضائية) مقابل حماية السلطنة من الأخطار الخارجية (النفوذ الروسي على الحدود الشمالية – الشرقية) والداخلية (الأرمن). وكانت أسر نخباء كردستان مقربة من النظام. والمثقفون المتحدرون منها شغلوا مناصب في الإدارة العثمانية، وكانت علاقاتهم بكردستان بترت قبل عقود وصاروا أقرب الى نخب العاصمة من عامة الأكراد في أطراف السلطنة. وعلى رغم تناول مناقشاتهم الإدارة الذاتية والاستقلال، كانوا وثيقي الصلة بالجسم الإداري العثماني السياسي والاجتماعي.
وإثر ثورة «تركيا الفتاة» في 1908، شكّل وجهاء أكراد «الجمعية الكردية للتعاون والتقدم» وجهازاً إعلامياً. وأهداف اللجنة أو الجمعية هذه كانت متواضعة ومعتدلة: دعم الحركة الدستورية وضمان تقدّم أكراد اسطنبول وتعليمهم، وتمتين العلاقات بالشعوب العثمانية الأخرى لإنقاذ السلطنة. وفي هذه المرحلة الاتحادية (1908 – 1918)، تمسك المثقفون والوجهاء وشيوخ القبائل والشيوخ الأكراد بالوحدة العثمانية تحت راية السلطنة. فالأكراد، وهم في شطر راجح، مسلمون سنّة، ينتمون الى الملة الحاكمة شأن السلطان ومعظم الأتراك والعرب، على خلاف المسيحيين واليهود. لكن مع الإصلاحات الإدارية والسياسية الليبرالية المعروفة ب«تنظيمات» (1839 – 1876)، تغيرت العلاقات بين الجماعات العثمانية. فهذه الإصلاحات حاكت النموذج الغربي، وطمحت، من جهة، الى المساواة بين الأفراد أمام القانون من غير تمييز بين الألسن المختلفة ولا الديانات. لكن، من جهة أخرى، أقرت الحقوق الجماعية للملل غير المسلمة ولسانها الأرمينية واليونانية والآرامية… فشعرت الجماعات هذه بأنها على حدة. ولم تستسغ النخب السنّية، والنخب الكردية منها، الإصلاحات هذه. وتفاقمت الأمور مع تعاظم تدخل القوى الأوروبية في أطراف السلطنة وتسميم (تعكير) العلاقات بين الأرمينيين والأكراد في الأناضول الشرقي. و»المسألة الشرقية»، وهي وثيقة الصلة ببروز «تنظيمات» القرن التاسع عشر، هي مسألة أرمنية – كردية، ومسألة زراعية: فنهاية الإمارات الكردية ساهمت في استيلاء النخب المدينية وشيوخ القبائل الكردية على شطر واسع من الأراضي، على حساب الفلاحين وصغار الملاكة الأرمن. وفي خريف 1895، شارك فوج الحميدية الكردي في مجازر واسعة ضد الأرمن في المناطق الأرمنية – الكردية. وفي 1915، في وقت دخلت اسطنبول الحرب العالمية الأولى الى جانب ألمانيا، تحالف زعماء أكراد مع السلطات العثمانية لترحيل الأرمن وإبادتهم. وانتهى تعايش الشعبين (الأرمني والكردي) في محافظات شرق السلطنة.
والهوية العثمانية التي أعلى شأنها إصلاحيو القرن التاسع عشر، ذوت، وتربعت أيديولوجية «حركة التتريك» (الطورانية) محلها. فعمت المشاعر القومية القادة الاتحاديين قبل أن تتفشى في أوساط النخب العربية والألبانية والكردية، في مطلع القرن العشرين. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1918، آذن وقف إطلاق نار بين الحلفاء والعثمانيين المهزومين، بصحوة كردية في اسطنبول. واتسمت الدعوة التنظيمية الكردية بنفحة قومية مع تأسيس جمعية نهضة كردستان (جمعية «تعالي كردستان») في كانون الأول (ديسمبر) 1918. واستند برنامج هذه الجمعية الى المبادئ الويلسونية الأميركية: حق الأمم في تقرير المصير. ونشرت الجمعية صحيفة «جين» أو «يان» (الحياة)، وتبلورت فيها القومية الكردية المعاصرة. وأمام احتمال حيازة دولة أو إدارة ذاتية، وجد الأكراد أنفسهم أمام أسئلة وجودية مثل: من هم الأكراد؟ كم عددهم؟ وما حدود كردستان؟ وما هو ميزان الهوية الكردية (اللغة، الديانة، الانتماء القبلي)؟ وفي 1918، احتل الحلفاء الولايات العربية في السلطنة العثمانية، في وقت كان شطر راجح من كردستان لا يزال تحت الوصاية العثمانية.
وحين احتل الحلفاء اسطنبول في تشرين الثاني (نوفمبر) 1918، اتصلت جمعية النهضة الكردية، بالفرنسيين والبريطانيين من أجل الدفاع عن طموحات «الأمة الكردية». واستقلال كردستان كان مسألة شائكة شقت صفوف الجمعية. فمؤيدو الاستقلال الشامل التفوا حول أمين علي بدرخان في مواجهة أنصار سيد عبدالقادر، الذين رفعوا لواء إدارة ذاتية في الدولة التركية – العثمانية الوليدة. وسوغ هؤلاء موقفهم بالروابط الدينية بين الكرد والأتراك، وعارضوا مشروع إنشاء دولة أرمينية في مفاوضات السلام بباريس.
وعلى خلاف التوقعات، أبرم الجنرال شريف باشا، ممثل الجمعية الكردية هذه، اتفاقاً مع بوغوس نوبار باشا الأرمني، ورمى الاتفاق هذا الى إنشاء أرمينيا وكردستان مستقلّتين. وبعد تمسّك كل من الوفدين الأرمني والكردي بكامل الأراضي في شرق تركيا المعاصرة، توصلا الى مساومة نزولاً على الضغط الأوروبي. وأمل شريف باشا بأن يحمل قبوله «خسارة» أراضي الغربيين المتعاطفين مع الأرمن على القبول بإنشاء دولة كردية. وصودق على التفاهم هذا في اتفاق سيفر في 10 آب (أغسطس) 1920، المبرم بين السلطنة العثمانية والحلفاء. وهو نص على استقلال محلي للمناطق التي يهيمن عليها الأكراد، وذكر في البند 64 قيام دولة كردية مستقلة. لكن اتفاق سيفر لم يطبق. وتحالفت قبائل كردية سنية مع الثوار الأتراك، على رأسهم مصطفى كمال، ورفضت اتفاق سيفر، واقتطاع أراض وإنشاء كيان أرمني. وشارك الأكراد في الحملات العسكرية على القوات الفرنسية والميليشيات الأرمنية في كيليكيا.
فخشي زعماء أكراد أن يلقوا مصير موظفين عثمانيين سيقوا منذ 1919 الى محاكم عسكرية واتهموا بالتواطؤ في إبادة الأرمن. وإنشاء دولة أرمينية يقتضي إعادة الأكراد أراضيَ صادروها من الأرمن في 1895 و1915. لذا، حارب كثر منهم اتفاق سيفر وتخلوا عن مشروع الدولة الكردية مخافة الصدوع بولادة أرمينيا الكبرى، على نحو ما ينص الاتفاق. وساهم التباين بين الحلفاء وبين الأكراد من جهة، وتقدم الجيوش القومية التابعة لأنقرة، من جهة أخرى، في التفاوض مجدداً على اتفاق سيفر. ففي الغرب، هزم الأتراك الجيش اليوناني، وفي الشرق، قمعت قوى موالية لمصطفى كمال انتفاضة العلويين الأكراد في آذار (مارس) 1921، في وقت تراجعت القوات الفرنسية في كيليكيا أمام الجنود الأتراك والميليشيات الكردية. وانسحبت من الأراضي التركية القوات الإيطالية واليونانية والفرنسية بين 1920 و1921. ومنذ 1922، كان البريطانيون مستعدين لبحث شروط السلام مع حكومة مصطفى كمال. وفي تموز (يوليو) 1923، أبرم الوفد التركي مع الحلفاء اتفاق لوزان الذي خلا من أي إشارة الى دولة كردية أو دولة أرمنية.
لكن اتفاق لوزان لم يبت مستقبل ولاية الموصل التي احتلها البريطانيون في 1918، وكان الأكراد يغلبون عليها الى جانب جماعات كبيرة من العرب والتركمان والمسيحيين. ومرآة التباين بين الأتراك والبريطانيين في اتفاق لوزان، نص برقية أرسلها عصمت إينونو الى رئيس الوزراء التركي مفادها: «الموصل في أعيننا مسألة (أمن) قومي، وفي أعينهم (البريطانيون) مسألة بترول». ومنذ 1921، رجحت السلطات البريطانية كفة ضم الموصل الى العراق «العربي» لأسباب جيو – سياسية. فلجأت تركيا وبريطانيا العظمى الى عصبة الأمم لبت الخلاف. فأقرت العصبة ضم الموصل الى العراق، في كانون الأول (ديسمبر) 1925. وارتسمت في عشرينات القرن الماضي، معالم وضع الأكراد الجديد: التشرذم بين تركيا والعراق وسورية تحت الانتداب الفرنسي، وإيران التي لم يشملها اتفاقا سيفر ولوزان سعت الى دمج الأكراد في «الغالبية» الفارسية. فدفن مشروع الدولة الكردية.
* أستاذ – باحث في كلية التاريخ الدولي في معهد الدراسات العليا الدولية والتنموية في جنيف، عن «ليستوار» الفرنسية، 11/2016، إعداد منال نحاس.[1]
جريدة الحياة