القضية الكردية في سوريا بين المشروعية واستعدائها …
افتتاحية الوحدة *
الحرب في سوريا مستعرة، والمأساة تُدمي قلوب ملايين السوريين، فتعقيدات الوضع تزداد تشعباً، وأصبحت خيوط المسألة السورية بيد لاعبين دوليين كبار، في المقدمة منهم روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، اللتين تبدو أنهما ستحددان مسارَ تسوية ما، إضافة إلى أدوار لاعبين إقليميين وتنظيماتٍ إرهابية عابرة للقارات، لكل طرف وجهة توجهاتٌ ومصالح خاصة بها.
وبنتيجة هذه الحرب الكارثية، غزتْ عقولَ الكثير من السوريين ميول وعصبيات متخلفة ومهينة لأواصر وسبل العيش المشترك، حيث أُصيب الجميع بجراحٍ لا تندمل بسهولة، وتعشعشتْ أخلاقيات الفساد والنهب، الانتهازية والمهرب الفردي، الحقد والكراهية، الطائفية والارهاب… الخ.
وإذا كان التدخل الخارجي والأممي أمراً واقعاً، وفي هذه المرحلة قد يُشكل جانبٌ منه بارقة أمل في وضع حدٍ لمعاناتنا، وخصوصاً قرار مجلس الأمن 2254، فإنه من واجب السوريين وخاصةً أصحاب الشأن نبذ تلك العصبيات والأخلاقيات البغيضة التي تدق الأسافين بين مكونات مجتمعنا السوري، حيث يترتب على أطراف الصراع مراجعة حساباتها باتجاه التعقل والحكمة وترجيح كفة المصلحة العامة على سواها لتقديم تنازلات متبادلة، على قاعدة الاقتناع بلغة الحوار والحل السياسي التفاوضي والعمل على إنجاحه، مما يتوجب في المقام الأول التركيز على وقف إطلاق النار وفتح طرقات آمنة بين جميع المناطق والمحافظات إلى ما هنالك من مسائل إنسانية، بغية الانطلاق نحو المرحلة الانتقالية المنشودة.
في المشهد السوري القاتم تتلاطم التوجهات والرؤى، المواقف والتصريحات، وتشوبُها خلفياتٌ نافرة وتشنجات وأجندات خاصة، ولعلّ القضية الكردية تحوز على نصيب منها، فلدى الكُرد رؤى ومشاريع تندرج بمجملها في إطار حماية وحدة البلاد – وليس شقها وتقسيمها كما تزعم بعض أوساط ورموز المعارضة السورية-، وهم يطالبون بحلها دستورياً، حلاً يضمن حياتهم وحقوقهم القومية الطبيعية كمكون سوري رئيسي، وهذا لا ينفي ارتكاب بعضهم لأخطاء وإدلائهم بتصريحات لامسؤولة ورفع شعارات برّاقة، نتيجة رد فعل أو سوء فهم وتقدير، تُشوه سمعة ومكانة قضية الكُرد وتؤثر سلباً على العلاقات مع شركائهم في الوطن.
أما في الجانب الآخر، فالنظام منذ عقود معروفٌ بنكرانه لتاريخ ووجود وحقوق الشعب الكردي في سوريا، بل واضطهاده الممنهج له وتعميم نظرة شوفينية حياله، والمعارضة السورية بغالبية أطيافها تتعاطى مع القضية الكردية بمقاربات حذرة ومتوجسة، تتقدم خطوة اليوم لتتراجع خطوتين غداً، بل وانبرتْ من بينها أصوات شوفينية حادة، فاتخذ الائتلاف السوري المعارض – المراهن على سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية في أنقرة – موقع العداء للإدارة الذاتية القائمة في المناطق الكردية ولوحدات حماية الشعب التي ما برحت إلا أن تكون في سياق وطني عام وفي محاربة الارهاب واعتمادها للخيار العلماني الديمقراطي. إن أحد أسباب هكذا عداء سافر هو فشل أصحابه في مشاريعهم ووعودهم على مدار خمس سنوات ونيف من الأزمة السورية، وهم يتخذون من تجربة الادارة الذاتية والحضور الكردي المتطور في المشهد السوري شماعة لتعليق تخبطاتهم السياسية والفكرية ومراهناتهم العبثية وإنحسار دورهم أمام تنامي وانتشار فصائل الاسلام التكفيري الجهادي الذي يعادي كلَّ ما هو وطني وديمقراطي، وفي هذا السياق فإن بعض وسائل الاعلام العربي المتناغم مع التركي تواصل نقل صورة مغلوطة ومشوهة عن واقع الكُرد في سوريا.
إنَّ ما يشجع الأوساط الشوفينية المعادية للحضورَ السياسيَّ والدفاعي الكردي في سوريا، هو تَأجُج الخلافات الكردية البينية، وأخطاء الادارة الذاتية القائمة وتجاوزاتها من جهة، ومساعي مريبة تستهدف وجود وسمعة الإدارة ومؤسساتها من جهةٍ أخرى، وذلك في أجواءٍ تتخللها مشاحنات وإنحسار لغة الحوار والتفاهم.
من الصعوبة بمكان أن تعود سوريا إلى ما كانت عليها قبل 2011، ومن المحال أن تبقى أسيرة لنظام مركزي يُعيد انتاج الاستبداد والفساد، فلم تعدّ تناسبها إلاّ أن تكون دولة ذات نظام حكم ديمقراطي برلماني لامركزي، ويتوجب على أطراف الحركة الكردية ترتيب أولوياتها وفق تفاهم مشترك، بهدف تعزيز القدرات الذاتية والحفاظ على المكتسبات وتطويرها.
لقد أثبت التاريخ أن الكُرد متمسكون بوحدة سوريا بقدر دفاعهم عن قضيتهم القومية العادلة التي باتت تحظى بمستوى ملحوظ من الاهتمام السياسي والاعلامي، ولا يمكن لحملات التشويه والعداء أن تمحوَها أو تقلِّلَ من شأنها، وهي قضية وجودية ليست صنيعة أيادٍ خارجية، وإن كان ثمة دعم دولي ما لوحدات حماية الشعب والمرأة في مواجهتها لشبكات الارهاب، هذا الدعم الذي يثير حفيظة الكثيرين هنا وهناك، وقد تتعرض مسيرة الكفاح الكردي لإنكفاء هنا وتراجع هناك، إلا أنها تبقى تشق طريقها إلى الأمام، كونها تُجسد قضية عادلة لشعب مضطهد، أثبتت التجارب في الأمس واليوم، أنه لا ولن يحيد عن درب الدفاع عن حقه في حياةٍ حرّة وكريمة.
رغم حجم العداء والتشكيك الكبيرين، سيبقى الكُرد تواقين للسلم والحرية وأوفياءً لبلدهم، مخلصين لأبنائه ومؤمنين بقضية العيش المشترك دون تردد.[1]